بالرغم من الممارسات التعسفية والأساليب القمعية المتشابهة والمشتركة للنظامين الواردة أعلاه، إلا أن هناك اختلافاً يتمثل في تباين تطابق الأهداف والمساعي لكل منهما، حيث أن الفارق الجوهري والمختلف في كلتا الحالتين يتجسّد في وجود الشرط الاستعماري لفلسطين التاريخية، وهو ما تغيّبَ في هيكل النظام الديكتاتوري العسكري في الأروغواي، والسياق السياسي الذي تدرّج قبله وصولاً إليه.
تكرّس في الأوروغواي نظامَ ديكتاتورية عسكرية محلية، استهدفت إخضاع أفراد المجتمع الموحّد عرقيا وثقافيا، وفرض الهيمنة السياسية وضبط الفضاء المدني لصالح اللون الواحد. ولفهم السياق أكثر، يجدر بنا على الأقل العودة عقدين من الزمان إلى الوراء، قبل الفترة التي نضع ممارساتها العنفية تحت المجهر (1973-1985). ففي أوائل الخمسينيات، كانت الأوروغواي توصف “بسويسرا الأمريكيتين”، حسبما نشر في صحيفة نيو يورك تايمز في 1951، وقد عزى الوصف ذلك لنظامها الديمقراطي المستقر وازدهارها الاجتماعي النسبي واستقرارها المالي، ما عكس حالة من الحياد السياسي.
فمنذ أوائل القرن العشرين وحتى منتصفه، تبنّت الأوروغواي نموذج دولة الرفاه الاجتماعي تحت حكم حزب كولورادو، حيث أُنشئت مؤسسات قوية وقدمت حقوقًا اجتماعية متقدمة في مجالات التعليم والرعاية الصحية والعمل، وقد تبنّي الأوروغواي قوانين مصرفية مستوحاة من النموذج السويسري، ما جعلها ملاذًا جاذبًا لرؤوس الأموال الهاربة من أوروبا بعد الحرب، لكن سرعان ما تبدد ذلك وتدهورت الأوضاع حال بزوغ أزمات اقتصادية وسياسية وتوترات اجتماعية مع تصاعد البطالة والتضخم، برزت على إثره شرائح مجتمعية بفجوات طبقية جلية بينها، الأمر الذي شكّل اعتلالاً عضوياً شلّ حيوية المصفوفة التي كانت يوماً ما مزدهرة، وأدى في نهاية المطاف إلى انقلاب داخلي، اتصف فيما بعد بالديكتاتورية العسكرية.
في المقابل، تتمحور القضية الفلسطينية حول وجود احتلال صهيوني تحت مظلة مشروع استعمار استيطاني لعموم فلسطين، يسعى إلى إحلال مجتمع جديد في رقعة الأرض ذاتها على حساب السكان الأصليين الذين يواجهون خطر الإلغاء الدائم، مما يجعل القمع أداة لترسيخ استيطان طويل الأمد، يهدف إلى خلق واقع هجين وتسويقه على أنه “فطري”، عن طريق تفكيك البنية الديموغرافية للسكان الأصلانيين، وتهجيرهم القسري وعزلهم في كانتونات منفصلة عن بعضهم البعض، والسيطرة عليهم وتدمير هويتهم الوطنية والاجتماعية والثقافية، واستخدام “ ما تبقى منهم” كنماذج للتعبير عن “الأقليات”، بينما ينسب الاحتلال لنفسه الأحقية في ممارسة جميع ما ذكر، مصوّراً حُسن تفوّقه الأخلاقي بتبنّي استيعابهم (الأقليات) عن طريق إعطائهم فتات حقوق لترويج قيم الديمقراطية والتعددية التي يدّعي.
فلسطين تتفوّق على الأروغواي
قبل نحو أربعين عاماً، كان معدل السجناء السياسيين في الأروغواي من أعلى المعدلات في العالم، حيث تشير التقديرات إلى أن واحداً من كل 50 شخصاً تعرّض للاعتقال أو الاستجواب، وأنّ واحداً من كل 500 شخص قد سُجن لأسباب سياسية وتعرّض للتعذيب، حيث كان هناك حوالي 6.000-7.000 سجين سياسي لفترة طويلة، وقد تم اعتقال أكثر من 500 ألف شخص لفترات متفاوتة، علماً أن عدد سكان الأروغواي في السبعينيات كان يقارب 3 ملايين نسمة. وفي مقارنة فظيعة مع ما يجري في فلسطين المحتلة، ومع عدد من أِطلق سراحهم في صفقة التبادل الأخيرة، إلا أن الحقيقة الصارخة، والتي لن تجدها تعتلي مواقع الـ BBC أو CNN، أن سلطة الصهاينة لطالما كانت ومازالت تحتجز أطفالا ونساء وشيوخاً وشباباً بعمر الورد، يأتون من خلفيات متعددة، منهم الطبيب، والمهندس، والعامل والمزارع، والباحث، والصحافي، والمخرج، وغيرهم كثر، وصل عددهم لغاية اللحظة إلى 10.400 رهينة، بينهم أكثر من 3.500 رهن الاعتقال الإداري (السجن دون تهمة أو محاكمة)، على غرار الاعتقالات التعسفية في ظل الدكتاتورية الأروغوانية.
وبحسب تقارير المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان، تم احتجاز أكثر من 600 ألف فلسطيني في السجون الصهيونية لمدة أسبوع أو أكثر بين عام 1967 والانتفاضة الأولى. كما صرّح مكتب رئيس الوزراء الفلسطيني السابق سلام فياض أن 800 ألف فلسطيني، أي حوالي 20% من إجمالي السكان و40% من الذكور، قد سُجنوا على يد الاحتلال بينهم حوالي 100 ألف حالة اعتقال إداري.
وقدّر الصحافي روري مكارثي، مراسل الغارديان في القدس، أن خُمس السكان الفلسطينيين قد سُجنوا منذ عام 1967 إلى 2009، مخمّناً الرقم بحسب التعداد السكاني المتزايد يومها، والمقدّر بـ (3.94 مليون شخص). إذا أردنا احتساب نسبة المعتقلين الفلسطينيين حتى يومنا هذا في ظل الاعتقالات التي لم تتوقف منذ 1967، آخذين بالحسبان نمو عدد السكان، وعلى غرار تقديرات مكارثي، وبيانات التقارير الأممية والمؤسسات ذات العلاقة، فقد أفادت تقارير الأمم المتحدة، وهيئة شؤون الأسرى والمحررين، أن عدد الاعتقالات بحلول 2023، تجاوز المليون فلسطيني منذ عام 1967.
ومع التزايد غير المسبوق لعدد الأسرى بعد السابع من أكتوبر دون إحصاء الغزّيين منهم، وأولئك الذين ظلت بياناتهم غير موثقة ما يجعل الرقم الإجمالي أعلى بكثير، فإن الأرقام المسجلة فقط تشير إلى 15.700 معتقل فلسطيني (يشمل هذا المعطى من اعتقل، وأبقى الاحتلال على اعتقاله، ومن أفرج عنه)، ومع الأخذ بعين الاعتبار التعداد السكاني الحالي، والمقدّر بـ (5.4 مليون شخص)، ونسبة الذين اعتقلوا مرة واحدة (19%-20%)، فهذا يعني أن1 من كل 5 إلى 6 أشخاص قد تم احتجازه منذ 1967. وعند مقارنة معدّل الاعتقال في فلسطين مع المعدل في الأروغواي، الموسومة عالمياً بأنها صاحبة أعلى معدل سجن للفرد، والمسجلة ضمن موسوعة غينيس للأرقام القياسية؛ فإن معدل الاعتقال في فلسطين-ـ وإن وجب إدراجها افتراضياًـ- أعلى بحوالي 91 مرة من معدل الأوروغواي! ومع ذلك..يبقى العالم صامتاً إزاء رهائننا.
هاجس التحرّر..متلازمة الأسير
تظل الحرية متلازمة الأسير المزمنة، وهاجساً ينخر ذهنه ووجدانه في كل حين، إيماناً منه بأن السجون ستتحول إلى متاحف، على غرار سجن ليبيرتا الذي سجن فيه بيبّيه، وسجن كيلمنهام غاول الذي سجن فيه الثوار الإيرلنديون وعذّبوا في فترة السبعينيات.
ولأن التحرر يبقى هاجس الأسير، فقد هرب التوباماروسي الثائر من سجن بونتا كاريتاس في 1971، ومرة ثانية من سجن ليبيرتا في 1972، وبالرغم من أن المحاولتين باءتا بالفشل، إلا أن بيبّيه قد انتزع حريته أخيراً في 1985 بسقوط الديكتاتورية العسكرية. تأخذنا تجربتا هروب بيبّيه من السجن لاستحضار 6 من سيبتمبر 2021، وهو الزلزال الذي هزّ أمن الكيان، حيث انشقت على إثره أرض فلسطين، قاذفة من جوفها ستّ حمم بركانية إلى سهل مرج بن عامر، مشكّلة بذلك حدثاً مفصلياً سيظل علامة دامغة محفورة عميقاً في وجداننا، مؤكدةً على الممكن وأن السجن المنيع ادعاء لمن يريد تصديق ذلك، وأن كل حصانة صهيونية هي محض هراء.
فالسجن محض هراء، والقضبان محض هراء، وادعاء القلاع الحصينة هراء بهراء، والأبراج وكشّافاتها محض هراء، والكلاب البوليسية ومقتفو الأثر محض هراء، ولكن أهم ما حدث بعد السادس من سبتمبر 2021، أن منسوب الإيمان لدى الشعب الفلسطيني قد ازداد أضعافاً، فكان فِعل محمد ومحمود العارضة ويعقوب قادري وزكريا الزبيدي وأيهم كممجي ومناضل نفيعات ومن ساندهم من رفاق ظلّوا مجهولين، حقيقية محضة فقط. وأيضا، بالرغم من فشل عملية الهروب السريالي للجنينيّين الستة، لكن محمد العارضة وزكريا زبيدي، وإياد جرادات وهو أحد الجنود المجهولين الذين حفروا نفق الحرية، ولم يستطع الهرب يومها لخلل فني، قد تحرروا ضمن عملية طوفان الأحرار الحالية.
الإجماع على شخص المناضل
بالرغم من كل هذه التقاطعات ما بين الحالتين الأرغوانية والفلسطينية، إلا أن الأولى قد انتهت بسقوط الدكتاتورية العسكرية فيها، ما أدى إلى العودة إلى الديمقراطية في عام 1985، على نحو مغاير لما هو حاصل في فلسطين التي ما زالت محتلة لأكثر من 76 عاماً.
فبعد تاريخ حافل بالنضال مع حركة التوباماروس، تخلله ممارسات للعنف الثوري عبر ما أسماه “بالمصادرات”، التي كان ينتهجها بيبّيه مع الأغنياء، نصرة للفقراء والمهمّشين، وعذاباته في السجون “التي صنعته” على حد تعبيره، وبزوغ نجمه كسناتور ومن ثم كوزير للزراعة والصيد؛ بايع المواطنون بيبّيه رئيساً للأروغواي، بزيادة تجاوزت نسبة الحسم برقم ليس ببسيط، فترأّس “كاره ربطات العنق” البلاد لمدة خمس سنوات (2010-2015)، ممتثلاً للقانون، ومكتفياً بدورة رئاسية واحدة. ومن أكثر ما برز في فترته، ارتفاع حصة الإنفاق الاجتماعي، وانخفاض معدل الفقر الوطني، كما جرى تعزيز دور النقابات العمالية. وبحسب الاتحاد الدولي لنقابات العمال، “أصبحت الأوروغواي الدولة الأكثر تقدمًا في الأمريكيتين من حيث احترام “حقوق العمل الأساسية، ولا سيما حرية تكوين الجمعيات، والحق في المفاوضة الجماعية والحق في الإضراب”(ix).
الوفاء عند التوبامارسي الثائر
كان لخوسيه بصمات في قضايا التضامن العالمي مع الأسرى المعذبين في سجون الاستعمار، فقد وافق على استقبال ستة سجناء من جنسيات مختلفة (أربعة سوريين، وفلسطينيّ، وتونسيّ) من معتقل غوانتانامو سيئ الصيت في عام 2014، مع تأكيده على عمق إنسانية قضية الأسرى وأهمية التضامن الجمعي معها، وأن السجناء-الوافدين إلى الأروغواي غير مدانين بأي تهم رسمية، ووجب أن تكون بلاده الحاضنة الشعبية لهم. بعد انتهاء ولايته، إذ كان يتبرع بأكثر من 90% من راتبه لبناء المدارس ودور الإيواء للفقراء والمهمشين؛ آثر بيبّيه دوماً العيش بزهد في نمط حياة متواضع في مزرعته، جلّابة الورود، مع زوجته المناضلة لوسيا توبولانسكي، التي اختار معها عدم إنجاب الأطفال، وكلبته العرجاء (مانويلا) ذات الأرجل الثلاث، كما اعتمد زراعة الأزهار (الأقحوان)، وبيعها، كمصدر دخل أساسي لهما.
يجلس بيبّيه على مقعده الخارجي ويشرب المتّة بين دجاجاته، يجلب مونَتَهُ بسيارته beetle- الزرقاء (الصرصور). وـذكرت تقارير إعلامية مؤخراً أنه يعاني من مرض السرطان، كما أفصح بيبّيه مؤخراً - والذي يناهز 90 عاماً- أنه متصالح مع الموت، الذي لم ينل منه عدة مرّات- بحكم الرصاصات الست التي تلقاها ولم يمت- وقد باتت طموحاته بسيطة كوصيّته المتواضعة: بأن يدفن في مزرعته بجانب كلبته العرجاء (مانويلا)، التي ظلّت وفية له للنهاية.
وحول صعوبة الإجماع الفلسطيني على شخصية، في ظل العيش تحت الاحتلال، وشيوع حالة اختطاف السلطة التنفيذية للسلطتين التشريعية والقضائية، وتَفَرُّد الحزب الواحد، ومصادرة حق الناس لأكثر من عشرين سنة في إجراءِ انتخاباتٍ عامة تفرز حقاً حكم الشعب؛ إلا أن مآلات الشعب الفلسطيني تجمع على أن ترأس البلاد شخصية ذاقت من عذابات الاحتلال، كالأصوات التي تنادي بانتخاب الأسير مروان البرغوثي، أو شخصيات أخرى ممن لم تُؤْثِر أي امتيازات في السلطة من حزم (VIP) أو تصاريح (BMC) وغيرها، إلى أن يفرز صندوق الاقتراع المعطّل حكمه، تماماً كما حصل مع بيبّيه.
الوفاء لتحرير الرهائن أم التخلّي عنهم
علاوة على كل هذه الممارسات الحقّة للمناضل الأورغواني الذي اعتنق فكراً اشتراكياً تقدمياً، وآمن بأحقية حكم الشعب التزاماً بالديمقراطية الاجتماعية، متأثراً في الوقت ذاته بالعقيدة الماركسة وموقفها تجاه العدالة الاجتماعية، وجبت الإضاءة على عدم تنكّره ووفائه لقضية الأسرى والمعتقلين في سجون الاستعمار، ما يجعلنا نفحص عن كثب قيمة الوفاء وعدم التخلّي عمّن ضحّى بعمره وحياته في الأسر فداءً لفلسطين. فلسطينياً، نالت قضية “تحرير الأسرى” نصيباً ضمن القضايا ذات الأولوية لدى فصائل المقاومة (من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين (جش)، وحركة التحرير الوطني (فتح)، وحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، فهناك بعض المفاصل التاريخية التي دغمت رزنامات الحركة الأسيرة، ابتداء من صفقات تبادل الأسرى في الأعوام 1968، و1971، و1979، و1983، و1985، و2009، و2011، و2023، وما يحدث حاليا من صفقة طوفان الأحرار 2025.
المدّ الأفقي للحاضنة الشعبية
بوضوح تام، ودون رمسنة قضية الأسرى: لن يتم تبييض السجون طالما هناك احتلال صهيوني، استعماري، استيطاني قائم، يستمد دعماً من أحد أكبر أقطاب النظام الدولي، الولايات المتحدة الأمريكية، كما ستظل هناك أشكال متنوعة من ساديات متعددة الأطياف، يمارسها السجّان على الدوام، وسيظل ملف التعذيب مفتوحاً على مصراعيه، يستجلب أدواته من حلفائه الاستعماريين، ويستحدث طفرات هجينة من عصابات هاغاناه تزيد بطشاً ووحشية، دون رفع سقف التوقعات عن وجود مساءلة أو محاسبة. بعيداً عن حالة الجزر والتخلّي العامودي من مفاصل الدولة لقضية الأسرى؛ يبقى التعويل على الحاضنة الشعبية، وعلى الوفاء الأفقيّ الممتد بين الناس، وهنا بالضبط يتجلّى الوفاء والتمسّك بالنضال الفلسطيني.
فمثلما حصل مع المناضلين الأوروغوانيين بُعيد تحررهم من السجون العسكرية في 1985، لاقى الأسرى المحررون دعما شعبياً ومجتمعياً وتوجيهاً لمسار العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية، حيث احتضنتهم الكثير من العائلات والحركات اليسارية والنقابات العمالية والمجتمع المدني والمنظمات الحقوقية، كما أعيد تأهيلهم ودمجهم للعمل في المجال السياسي والاقتصادي والحقوقي على حد سواء، حتى أصبحت الحاضنة الشعبية جزءاً أصيلاً من المشهد السياسي والاجتماعي في البلاد.
وما يتوجب فعله هو توفير مدّ شعبي حاضنٍ للأسرى وقضيتهم، ريثما يتم النهوض من جديد؛ حاضنة أصيلة تحافظ على الهوية الوطنية الجمْعية، وتمضي قدماً في مواصلة النضال الوطني الفلسطيني، والنهج المقاوم الهادف للتحرر.