طباعة هذه الصفحة

أسهم بقـوّة في التّأسيـس للعمل السياســي الثــّوري

بـــن خــدة..صولات المجاهـد وجولات الدّبلوماسي

د - عمر بوضربة جامعة المسيلة

بن يوسف بن خدة من الوجوه البارزة في التيار الوطني الاستقلالي في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية في إطار الحركة من أجل انتصار الحريات الديمقراطية (MTLD) ثم في صفوف جبهة التحرير الوطني، فقد تقلّد مناصب قيادية في إطار اللجنة المركزية لحركة الانتصار، ثم أمينا عاما لها، وبعد اندلاع الثورة الجزائرية انضم إلى جبهة التحرير، وأصبح ضمن النواة القيادية التي أشرفت على التوجيه السياسي والتنشيط الدبلوماسي في إطار لجنة التنسيق والتنفيذ التي شغل عضويتها، وبعدها كلف بن خدة بعدة مهام ذات بعد دبلوماسي، من ضمنها المساهمة في وضع لبنات بعثات لجبهة التحرير الوطني في بلدان غرب أوروبا، والمساهمة بعد إعلان إنشاء الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية في العديد من المهام الدبلوماسية من ضمنها الزيارات التي قادها إلى بلدان عربية وآسيوية.

ولد بن يوسف بن خدة بالبرواقية (ولاية المدية حاليا) في 20 فيفري 1920، وبعد أن درس المرحلة الابتدائية بمسقط رأسه، انتقل إلى معهد البليدة الذي تحول اليوم إلى ثانوية ابن رشد، حيث تعرف هناك على محمد الأمين الدباغين وسعد دحلب وعبان رمضان، فكانوا يطالعون صحيفة “الأمة” لسان حال نجم شمال إفريقيا، وكانوا على صلة بمناضلي فرع النجم بالبليدة، ثم بمناضلي حزب الشعب الجزائري، وهكذا بدأ بن خدة مساره النضالي الوطني، ولما تحصل على شهادة البكالوريا انتقل إلى مدينة الجزائر الموصلة دراساته العليا في كلية الطب فرع الصيدلة.
التحق بن خدة بصفوف حزب الشعب الجزائري خلال الحرب العالمية الثانية، علما أن هذا الحزب الطلائعي الوطني كان محلاً منذ بداية الحرب سنة 1939، وسجن بن خدة سنة 1943 بتهمة الدعاية ضد التجنيد، ثم انتخب عضوا في اللجنة المركزية لحركة الانتصار من أجل الحريات الديمقراطية على إثر مؤتمرها المنعقد في فبراير 1947، وفي سنة 1951 تقلد منصب الأمين العام للحركة خلفا لحسين لحول، وتم تثبيته بعد مؤتمر أفريل 1953 في منصبه.
وشكل بن خدة قطبا من أقطاب المركزيين رفقة حسين لحول في مواجهة مصالي الحاج وأتباعه، وبعد اندلاع الثورة في نوفمبر 1954، سجن لفترة من قبل السلطات الفرنسية، وبعد إطلاق سراحه، التحق بجبهة التحرير الوطني وأصبح من المساعدين المقربين من عبان رمضان، ليعين عضوا في لجنة التنسيق والتنفيذ التي أقرها مؤتمر الصومام، وهي أعلى هيئة تنفيذية للجبهة وبمثابة حكومة مصغرة للثورة، كما عين عضوا في برلمان الثورة المجلس الوطني للثورة الجزائرية، وبعد إنشاء الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية في 19 سبتمبر 1958، عين وزيرا للشؤون الاجتماعية بينما غاب عن التشكيلة الثانية لحكومة الثورة ليسجل عودته القوية في الحكومة الثالثة، حيث ترأسها 1961 1962، ويرجع له الفضل ولطاقمه الحكومي للتوصل إلى اتفاق نهائي لوقف إطلاق النار بموجب اتفاقيات إيفيان في 18 مارس 1962.

بن خــدة في جبهـة التحريــر الوطنـي

 شكّل استيعاب جبهة التحرير الوطني لإطارات المركزيين والاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري وجمعية العلماء إضافة إلى الطلبة، إحدى أهم نقاط قوتها في نشاطها السياسي في الداخل والدبلوماسي في الخارج، والدعائي والإعلامي، فقد لعب هؤلاء دورا رئيسا في تأطير هذا النشاط وأعطى جبهة التحرير في الخارج مصداقية ومظهرا متفتحا لحركة تحررية وطنية استقلالية، ويعتبر هذا قمة الذكاء التنظيمي من لدن قادة جبهة التحرير الوطني في الداخل والخارج، الذين أحسنوا توظيف هذه الكفاءات.
والملاحظ أن قيادة الوفد الخارجي التي تشكلت نواتها الرئيسة من قدماء المناضلين، قد استطاعت توظيف وتوجيه طاقات وكفاءات بقية الأحزاب التي التحقت بالوفد، فقد استفادت جبهة التحرير الوطني من خلال انضمام إطارات حزب الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري، خاصة فرحات عباس وأحمد فرنسيس وأحمد بومنجل، وتوظيف علاقاتهم بالصحافة الفرنسية والغربية، وصورتهم الإيجابية في العالم الغربي الليبرالي أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، لذا فقد كلف فرحات عباس وأحمد فرنسيس بمهمات في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، وتمّ الاستنجاد بأحمد بومنجل في تنظيم مصلحة الإعلام رفقة أحمد توفيق المدني عن العلماء، مثلما وظفت الجبهة وجوها بارزة في جمعية العلماء وعلى رأسهم أحمد توفيق المدني والشيخ خير الدين ومحمد البشير الإبراهيمي، وكان يمثل واجهة أو وسيلة تقارب مع المشرق العربي والدول الإسلامية بشكل عام لما تميز به هؤلاء من ثقافة عربية إسلامية وعلاقات وطيدة بهذه المناطق.
استطاعت جبهة التحرير الوطني أن تشكّل جهازا دبلوماسيا حقيقيا باعتراف السلطات الفرنسية ذاتها، وتمثل ذلك في مبعوثيها الذين يتنقلون بدون انقطاع في كل بقاع الأرض مضاعفين من تدخلاتهم لدى الحكومات الأجنبية والمنظمات الدولية، وتصريحاتهم العلانية وندواتهم الصحفية وحواراتهم.  فقد أصبحت جبهة التحرير الوطني تملك شبكة من الممثلين الدائمين المقيمين في بلدان أوروبية عديدة وفي الشرق الأوسط والشرق الأقصى وأمريكا الشمالية والجنوبية وكذلك لدى هيئة الأمم المتحدة..ويعد بن يوسف بن خدة من هؤلاء الإطارات الذين ساهموا في التأسيس للعمل السياسي والدبلوماسي للثورة الجزائرية، والتي أطلق عليها عبد الرحمن كيوان  «دبلوماسية حرب
 Diplomatie de guerre”.
وبعد إطلاق سراحه من السجن في ماي 1955، اتصل بن خدة بزميله في الدراسة ورفيقه في النضال عبان رمضان أحد قادة الجبهة، وتم تعيين بن خدة رفقة سعد دحلب في لجنة التنسيق والتنفيذ المنبثقة عن مؤتمر الصومام، وذلك باقتراح من عبان رمضان.
لم يدم مكوث بن يوسف بن خدة ودحلب طويلا في لجنة التنسيق والتنفيذ، فقد تم تعديل تركيبة اللجنة في مؤتمر المجلس الوطني للثورة الجزائرية المنعقد في القاهرة في أوت 1957، إضافة إلى إلغاء العمل بقاعدة أولوية السياسي على العسكري والداخل على الخارج. وتم تعويضهما بفرحات عباس وعبد الحميد مهري والأمين دباغين.
تقبل كل من بن خدة ودحلب قرار المجلس الوطني للثورة الجزائرية وانصاعا للأوامر ووضعا نفسيهما تحت تصرف لجنة التنسيق والتنفيذ بتشكيلتها الجديدة، ولم يبديا معارضة ولم يطلبا استفسارات.
وبعد تعديل لجنة التنسيق والتنفيذ الأولى وجد دحلب نفسه نائبا لفرحات عباس فأقبل على مهامه الجديدة بكل حماس وقال قولته: “إنما انضممت للجبهة للنضال لا للجري وراء المسؤوليات، وهو ذات الموقف الذي تبناه رفيق دربه بن خدة”.
وبعد الإعلان عن تشكيل أول حكومة مؤقتة للجمهورية الجزائرية في 19-09-1958، عين بن يوسف بن خدة وزيرا للشؤون الاجتماعية بينما كان في مهمة في إنجلترا حيث لم تتم استشارته، وهو ما يثبت قيمته في الجهاز القيادي للثورة ومصداقيته وتمرسه، وأشرف بن خدة من خلال هذه الوزارة على شؤون اللاجئين الجزائريين في الخارج، وأشرف على الإتحاد العام للعمال الجزائريين والهلال الأحمر الجزائري، وقام بالعديد من المهام الدبلوماسية خاصة الزيارات إلى البلدان الكبرى مثل الإتحاد السوفياتي والصين الشعبية.
غاب بن خدة عن تشكيلة الحكومة المؤقتة الثانية التي أقرها مؤتمر المجلس الوطني للثورة المنعقد في العاصمة الليبية طرابلس ما بين ديسمبر 1959 جانفي 1960، والتي استمرت في مهامها إلى غاية أوت 1961، ثم سجل بن يوسف بن خدة عودته القوية إلى المشهد بتعيينه رئيسا للحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية الثالثة في أوت 1961 بينما تقلد رفيق دربه سعد دحلب وزارة الشؤون الخارجية، هذا المنصب الجديد أهل بن خدة للعب دور رئيس في مفاوضات إيفيان الثانية التي ستتوج باتفاق إطلاق النار يوم 18 مارس 1962، وتحقق بموجبها للشعب الجزائري الاعتراف الفرنسي بحقه في تقرير المصير.

بن يوسف بــن خـدة الدّبلوماسـي

 أسهم بن خدة في العمل الدبلوماسي لجبهة التحرير الوطني قبل تأسيس الحكومة المؤقتة وأثناءها. ويمكن تلمس إسهاماته من خلال المحاور الآتية:
عملت السلطات الاستعمارية الفرنسية بعد اندلاع الثورة التحريرية على تشويه العمل، الذي كانت تقوم به جبهة وجيش التحرير الوطنيين وذلك بإلصاق النعوت والأوصاف المشينة بالثوار والادعاء بأن الثورة في الجزائر صنيعة أجنبية، وحاول الاحتلال الفرنسي - من جهة أخرى - التعرف على هوية مفجري الثورة وجس نبض قيادة جبهة التحرير الوطني، وانطلاقا من هذا أقدمت السلطات الاستعمارية الفرنسية على إجراء عدة اتصالات ولقاءات سرية مع وفد جبهة التحرير الوطني. كان أولها بالجزائر بفضل وساطة الأستاذ الجامعي أندري ماندوز، حيث عقد لقاء سري في ربيع 1956 بين عبان رمضان وبن يوسف بن خدة من جهة ومبعوث منداس فرانس رئيس الحكومة الفرنسية من جهة أخرى، وهو اللقاء الذي لم يصل إلى نتيجة تذكر بفعل النوايا الفرنسية وإرادتها غير الجادة.

دوره في توجيه عمل الوفد الخارجي للجبهة

تولى عبان رمضان مهمة التنسيق مع وفد جبهة التحرير الوطني بالقاهرة، وكثيرا ما كان يوجه الانتقادات والتوجيهات الأعضاء الوفد من خلال مراسلات بريدية محاولة منه تصويب بعض الآراء والتصريحات التي تتعارض مع رأي قيادة الثورة بالداخل، وفي بعض الأحيان كان يشرف بن خدة على تعويض عبان عندما يتوجه الأخير في مهمات، من ذلك مثلا ما جاء في مراسلة بن يوسف بن خدة (صالح خليفة المؤرخة في 24 جويلية 1956ّ إلى وفد جهة التحرير الوطني في القاهرة بشأن تصريحات أطلقها فرحات عباس حول شروط جبهة التحرير الوطني لوقف القتال، حيث ربطها بـ “أن تعترف فرنسا للجزائريين بحقهم في الاستقلال”، فانتقدت القيادة في الداخل هذا التعبير واقترحوا شرط باستقلال الجزائر”، وألح بن خدة في رسالته على ضرورة توحيد المواقف بين قيادة الجبهة في الجزائر وممثلي الوفد الخارجي بالقاهرة”.
كما ذكر محمد يزيد في تقريره إلى المجلس الوطني للثورة الجزائرية بأن “تعليمات تم تبليغها إلى الوفد الخارجي في بداية نوفمبر 1954 من الإخوة في الداخل بواسطة محمد بوضياف..”، وهو ما يبين بأن الوفد الخارجي بالقاهرة كان يسير وفق تعليمات وإستراتيجية وضعتها قيادة الثورة بالداخل. والمقصود بها لجنة الستة التي تعد بمثابة القيادة العليا للثورة آنذاك، وكلف محمد بوضياف بمهمة التنسيق مع وفد الجبهة بالقاهرة، وهذا قبل استحداث لجنة التنسيق والتنفيذ والمجلس الوطني للثورة في مؤتمر الصومام 20 أوت 1956.

الحلقة الأولى