حاولت السلطات الفرنسية المحافظة على سرّية التعذيب وإبقائه طي الكتمان أثناء ممارسته بالجزائر، فالتعذيب كان محظورا في القوانين الجزائرية كما في الفرنسية إلى جانب تحريمه دوليا في العديد من النصوص الدولية وأهمها اتفاقيات جنيف لعام 1949، هذا ما ترك السلطات الفرنسية تحافظ على سرّية التعذيب بأوامر التعذيب التي كانت شفاهية أو عن طريق الهاتف..
حاولت السلطات الفرنسية عدم ترك الدليل الكتابي على جريمتها ووقع الاختيار على طريقة التيار الكهربائي فهي الطريقة التي لا تترك دليلا وراء هذه الممارسات الإجرامية، ضف إلى ذلك أن فعاليتها لا تقل عن غيرها من الوسائل التي استعملتها فرنسا في التعذيب.
لابد من الإشارة هنا إلى أن بعض الجزائريين الذين تعرضوا للتعذيب صرحوا أن اعترافاتهم أخذت وانتزعت تحت التعذيب، ولكن في وقوفهم أمام المحكمة كان عليهم أن يستدلوا بآثار ما كانوا يصفون، فمن دون هذه الآثار المادية الملاحظة يصعب إثبات التعذيب أمام المحكمة.
النهب والاستيلاء على ممتلكات الجزائريين..
فيما يخص نزع الملكية للجزائريين من طرف سلطات الاحتلال الفرنسي، فهي طريقة انتهجت منذ البداية، فقد عملت السلطات الفرنسية على تفقير الجزائريين، وذلك بنهج سياسة اغتصاب الأراضي من الجزائريين التي هي مصدر حياتهم، وإرهاقهم بالضرائب الجماعية التي أسهمت في إفقار معظم السكان الجزائريين حيث أعلن في 16 جانفي 1840 أمام مجلس النواب الفرنسي قائلا: “ أينما وجدتم مياه غزيرة وأراضي شاسعة خصبة يجب أن يقيم المعمرون دونما اهتمام بالسؤال عن أصحاب هذه الأرض”، فقد استولت فرنسا على مئات الآلاف من الهكتارات وضمها إلى أملاك الدولة الفرنسية، ثم قامت بتوزيعها، وبهذا تكون فرنسا قد سلكت في مسألة الأراضي في الجزائر مسلك أو سياسة المهاجرين الأوروبيين لأمريكا الشمالية الأراضي الهنود الحمر، تركهم يموتون جوعا.
التجارب النووية والكيميائية في صحراء الجزائر
أنشئ ميدان التفجير برقان في وسط الصحراء على بعد 700 كلم جنوب بشار، في نوفمبر 1957، ومع بداية شهر فيفري من سنة 1960 كان كل شيء جاهزا في رقان وأصبح الأمر بيد الأرصاد الجوية التي ستحدد اليوم المواتي للتفجير وقد تم ذلك بالفعل، وتقرر التفجير في فجر يوم 13 فيفري 1960 وأعطيت التعليمات الأخيرة لتنفيذ العملية.
وقد تم إجراء ثلاث تفجيرات انطلاقا من برج عال وإجراء تفجير آخر أكثر تلوثا على سطح الأرض، أجريت هذه التجارب بحمودية على بعد 50 كلم جنوب غرب رقان.
ما يمكن قوله هنا أن هذه التجارب النووية، قد أحدثت أضرارا جسيمة سواء بالبيئة أو بالإنسان، أو بالثروة الحيوانية وقد فتكت هذه التجارب من خلال آثارها الضارة بالعديد من الجزائريين ناهيك عن التشوهات الخلقية للأجنة وغيرها من الأضرار.
استخــــدام الأسلحــــة الكيميائيــــــة:
قد بدأت فرنسا برنامجها لتجارب الأسلحة الكيميائية في الصحراء الجزائرية في سنة 1935 بواد الناموس شمال بشار وقبل ذلك وفي 4 ديسمبر 1852 استعملت فرنسا الكلوروفورم ضد سكان مدينة الأغواط التي كان يسكنها 4000 نسمة، حيث قتل 2800 شخص.
وتجدر الإشارة إلى أن الوقائع المكتشفة أثبتت أولى الاستخدامات للمواد الكيميائية كأسلحة حربية ضد المدنيين والمدن الآمنة لغرض الاحتلال، كانت ساحتها الجزائر المحتلة من طرف القوات الفرنسية الغازية.
آثار المسؤولية الدولية لفرنسا عن جرائمها
تحدّثنا فيما سبق عن شروط المسؤولية الدولية، والتي يجب أن تتوفر حتى يمكن اتهام دولة معينة عن الخروقات التي قامت بها للقانون الدولي، ومن خلال هذا المطلب سنعرض في فرع أول لتوفر هذه الشروط وبالتالي ثبوت المسؤولية الدولية للدولة الفرنسية، وفي فرع ثان إلى الآثار المترتبة عن مسؤولية الدولة الفرنسية.
توّفر شروط المسؤولية الدولية
فيما يخص الشرط الأول المتمثل في عمل أو امتناع عن عمل تورطت فيه الدولة الفرنسية، ويعد خرقا لالتزاماتها الدولية، فقد تم توضيح عدة تصرفات وممارسات إيجابية، تم توضيحها في المطلب الأول، فقد قامت فرنسا بعدة أعمال تعد خرقا لالتزاماتها الدولية، بموجب ما صادقت عليه من معاهدات، كالتمثيل بالجثث، وبقر بطون الحوامل، والتعذيب والتجارب النووية وغيرها من الممارسات الإجرامية، فاقت في بشاعتها كل تصور، حيث وقع حوالي 85 ألف ضحية في مجازر 8 ماي 1945 وغيرها من المجازر.
وبالإضافة إلى ذلك، قامت فرنسا كسلوك سلبي بالامتناع عن ملاحقة المجرمين الفرنسيين من خلال المبدأ القانوني الذي يرتكز على أن قواعد القانون الدولي العرفية والاتفاقية التي وافقت عليها الدول لا تتبدل صفتها الدولية حتى لو أدمجتها ضمن تشريعها الداخلي، وأن خرقها سيرتب المسؤولية الدولية، كما تجسدت هذه الانتهاكات في إصدار الدولة الفرنسية تشريعا حول الدور الإيجابي للاستعمار الفرنسي فيما وراء البحار لاسيما في شمال إفريقيا.
وبالقياس لقضية تبرئة جمهورية صربيا من تهمة ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية خلال حرب البوسنة والهرسك، فمحكمة العدل الدولية ركزت في حكمها أن حكومة صربيا لم يثبت تورطها المباشر لارتكاب هذه الأفعال، بمعنى لم يثبت أنها أصدرت الأوامر للقوات العسكرية وشبه العسكرية الصربية لارتكاب الجريمة، لكن المحكمة عابت على صربيا أنها لم تتحرك لتفادي وقوع هذه الجريمة.
وحتى لو دفعت الدولة الفرنسية بعدم وجود أدلة إثبات دامغة لتورطها المباشر، فستبقى مسؤوليتها قائمة رغم ذلك من خلال الامتناع عن القيام بتصرفات يلزم القانون الدولي العرفي والاتفاقي القيام بها.
أما فيما يخص الشرط الثاني، والمتمثل في إسناد هذا العمل غير المشروع أو الامتناع عن القيام بعمل مشروع للدولة الفرنسية فهي مسألة مهمة جدا لتوجيه الاهتمام من خلال إثبات العلاقة التي تدع مجالات للشك أو التكييفات الأخرى.
وبما أن المجازر والأفعال الأخرى المنافية للقانون الدولي التي وقعت بالجزائر، كانت بتعليمات مباشرة، وعن علم مسبق من أعلى القيادات الفرنسية السياسية والعسكرية، وقياسا على القضية الصربية، فعلى هيئة الدفاع الجزائرية أن تكون يقينا جازما لدى محكمة العدل الدولية بأن هناك علاقة قوامها السيطرة والإشراف من الدولة الفرنسية والتنفيذ من جانب أجهزتها العامة والخاصة لكل الجرائم المرتكبة منذ دخول فرنسا إلى غاية التجارب النووية في رقان وعين أكر.
وبالنسبة للشرط الثالث والمتمثل في حصول ضرر كنتيجة الإخلال الدولة الفرنسية بالتزاماتها الدولية ينبغي على الدفاع الجزائري إثبات الأضرار الحاصلة بالجزائر إذا كانت تقبل الإثبات وفقا لقواعد المسؤولية الدولية التقليدية، هذا الضرر قد يكون ماديا أو معنويا.
وفي حقيقة الأمر، هذا الشرط هو تحصيل حاصل لأن انحراف الدولة عن التزاماتها الدولية وعدم الوفاء بها، أكيد أنه يسبب ضررا ولا حاجة أن يوضع هذا العنصر كشرط.
آثار المسؤولية الدولية لفرنسا
تنجم عن مسؤولية الدولة عن انتهاكات القانون الدولي إلزام هذه الأخيرة بإصلاح الأضرار والخسائر المختلفة، والتعويض يجب أن يشمل كل الأضرار سواء كانت مادية أو معنوية، فالدولة الفرنسية مسؤولة عن تعويض كافة الأضرار والخسائر البشرية والمادية، ضف إلى ذلك التخلف الذي صاحب فترة استعمارها للجزائر، والذي جعل الإقليم المحتل مجرد مستعمرة، وسكانه مجرد عبيد، حيث تضمنت المادة 91 من البروتوكول الأول لعام 1977 الملحق باتفاقيات جنيف الأربعة لعام 1949، يسأل طرف النزاع الذي ينتهك أحكام اتفاقيات جنيف أو هذا البروتوكول عن دفع التعويض إذا اقتضى الحال ذلك، ويكون مسؤولا عن كافة الأعمال التي يقترفها الأشخاص الذين يشكلون جزءا من قواته المسلحة.
وللتعويــض أشكــال عـدة:
التعويـض العينـي أو التنفيـذ العيـني
ويقصد به إعادة الأمور إلى ما كانت عليه قبل حدوث الضرر الناجم عن العمل غير المشروع، وذلك بهدف إزالة كل النتائج المترتبة على ذلك العمل غير أن هذا النوع تقابله حواجز مادية وقانونية الشيء الذي يجعل تطبيقه نادرا، فضياع الأرواح البشرية (المجازر التي حدثت في الجزائر) لا يمكن إعادتها إلى هذه الحياة وتدمير الممتلكات لا يمكن إعادتها عينا كما كانت قبل التدمير والنهب. فالتعويض العيني في الحقيقة هو الشكل الطبيعي للتعويض، ونجد مثاله في إلغاء الدولة للقوانين المنافية للقانون الدولي، وعليه فعلى الدولة الفرنسية إلغاء القوانين الصادرة من طرفها والمتمثلة في قوانين الإعفاءات التعسفية، وكذلك قانون تمجيد الاستعمار الصادر بتاريخ 23 فبراير 2005.
التعويــض بمقابــل
قلنا سابقا إن التعويض العيني ليس دائما ممكنا وعليه فإذا استحال هذا النوع من التعويض فتتم التسوية بمقابل أي يدفع مبلغ من المال.
يمكن القول إن الدولة الجزائرية لها أن تطالب فرنسا بدفع تعويضات مالية نقدية، أو تطالبها بتقديم خدمات كبناء مستشفيات لضحايا التجارب النووية الفرنسية بالصحراء الجزائرية رقان، وعين أكر) الذين يعانون إلى الساعة من مختلف الأمراض كالسرطانات المختلفة والتشوّهات الخلقية وغيرها من الأمراض والأضرار التي تسببت فيها الآلة الإستعمارية الفرنسية.
الترضيـة:
وهي عبارة عن تعويض الأضرار المعنوية التي تسبب فيها الدولة وتنجم عن عملها غير المشروع، ويتم ذلك بتقديم الدولة المسؤولة دوليا اعتذار دبلوماسيا، أو فصل الموظف الذي قام بإحداث الأضرار أو اتخاذ التدابير القانونية والقضائية لملاحقة ومقاضاة المتورطين في الجرائم، وكذلك إقرار الدولة بأنها لا تعترف بالتصرفات الصادرة عن موظفيها اتجاه الدولة التي لحقت بها الأضرار.
هذا ما ننتظره نحن من فرنسا بلد حقوق الإنسان التي ضربت بحقوق الإنسان عرض الحائط، هذه هي مطالبنا وستبقى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
ختــــامــا
تعدّ الجرائم الفرنسية بالجزائر من أفضع الجرائم التي شهدها العالم المعاصر بصفة عامة، وشمال إفريقيا بصفة خاصة. مما ألحق أضرارا بالغة بالأفراد والبيئة على السواء، وبذلك داست فرنسا على كل التزاماتها الدولية الملقاة على عاتقها بموجب المعاهدات التي صادقت عليها، والجرائم المرتكبة في الجزائر إبان الاحتلال هي جرائم دولية بامتياز، وذلك لارتكابها من طرف أجهزة الحكومة الفرنسية وبتخطيط مسبق منها وشهادة الجنرالات الفرنسية دليل قاطع على هذا.
إن الخروقات المرتكبة من طرف أي دولة وكما هو معروف ينجر عنها المسؤولية الدولية لتلك الدولة، إضافة إلى مسؤولية الأفراد من الجناة المتورطين في هذه الجرائم، وبالنسبة لمسؤولية فرنسا فهي قائمة كما قدمنا سابقا من خلال الدراسة، ولهذا يمكن من خلال هذه المسؤولية مطالبة فرنسا بكافة التعويضات المناسبة مع حجم الأضرار التي تسببت بها، وبما أن إعادة الحال إلى ما كان عليه يعد أمرا مستحيلا في أغلب الأحيان فيبقى التعويض المالي هو الشكل المناسب في هذه الحالة إضافة إلى أنه من واجب الدولة الفرنسية تقديم ترضية للجزائر عن كافة تلك الانتهاكات.
الحلقة الثانية