ترتبط المسؤولية الدولية للدول، ارتباط وثيقا بحالات الإخلال بالالتزامات التي يفرضها القانون الدولي على أشخاصه، وتعدّ الانتهاكات الخطيرة لأحكام القانون الدولي الإنساني من الأعمال غير المشروعة الموجبة للمسؤولية الدولية، وفرنسا تعدّ من الدول التي ضربت بأحكام القانون الدولي عرض الحائط بما ارتكبته من تجاوزات خطيرة بالجزائر بقتلها ملايين الأبرياء وتشريدها للجزائريين ونهب وسلب ممتلكاتهم، واستعمال الأسلحة المحرّمة دوليا، والقيام بالتجارب النووية وغيرها من الخروقات الدولية التي يعاقب عليها القانون الدولي بفرض جزاءات دولية على الدولة المتورّطة في الإخلال بالتزاماتها، من خلال إصلاح الأضرار التي تسببت فيها، وإعادة الأمور إلى أصلها، فإذا استحال الأمر فإن التعويض النقدي هو البديل، بالإضافة لأسلوب الترضية وهي قواعد أساسية يقوم عليها القانون الدولي من أجل تحقيق العدالة الدولية.
ترتبط قواعد المسؤولية الدولية ارتباطا وثيقا بالالتزامات التي يفرضها القانون الدولي على أشخاصه، فهي الأثر المترتب عن خرق قواعده من قبل أشخاصه، سواء كانوا دول أو أفراد، وسوف نتناول في هذا الجزء من الدراسة مفهوم المسؤولية الدولية من حيث تعريفها وأساسها القانوني في مطلب أول وفي المطلب الثاني نعرض شروط المسؤولية الدولية.
التعريــف التقليـدي للمسؤولية الدوليـة
تنوّعت التعريفات الفقهية بشأن المسؤولية الدولية وتباينت، وكان هذا نتيجة اختلاف أساسها، وتبعا لتطوّر المسؤولية الدولية نفسها، وفي الواقع يمكن التمييز بين تعريفين للمسؤولية الدولية تعريف قديم وهو السائد، وتعريف حديث وآخذ في النمو.
إن المسؤولية في المفهوم القديم مسؤولية ضيقة بحيث تقوم على ثلاث ركائز هي:
أشخاص القانون الدولي العام والمتمثلة أساسا في شخص دولي وحيد هو الدولة.
تقتصر المسؤولية التي تتحمّلها الدولة على المسؤولية المدنية دون الجنائية.
تقف حدود المسؤولية عند اقتراف الدولة لأحد الأفعال التي يحظرها القانون الدولي العام دون أن تمتد لتلك الأفعال التي لا يحظرها هذا القانون حتى ولو تسببت في ضرر للغير.
وباعتماد هذه الركائز، يتقرّر تعريف المسؤولية الدولية في الفقه القديم، وسنورد فيما يلي مجموعة من التعريفات الفقهية:
يعرف الفقيه شارل روسو المسؤولية الدولية بأنها «نظام قانوني يترتب بموجبه على الدولة التي ارتكبت عملا يجرّمه القانون الدولي التعويض على الضرر الذي لحق بالدولة المعتدى عليها» ومعنى ذلك أن المسؤولية لا تقوم إلا بين الدول وتكون مدنية فقط تستوجب التعويض.
يعرّف الدكتور على صادق أبو هيف المسؤولية الدولية بأنها «تلك التي تترتب على الدولة في حالة إخلالها بأحد واجباتها القانونية الدولية.
وما يمكن قوله بالنسبة لهذين التعريفين أنهما لا يتماشيان مع القانون الدولي الحديث ونظرياته المعاصرة بصفة عامة، وأشخاص هذا القانون بصفة خاصة، حيث أصبح الشخص الطبيعي «الفرد» مركز الاهتمام الدولي لدى المشرّع والفقه والمؤسسات الدولية.
التعريف المعاصر للمسؤولية الدولية
تقوم فكرة المسؤولية الدولية المعاصرة على ثلاثة ركائز. هي الأخرى. لكن تغاير تماما تلك التي تقوم عليها في المفهوم التقليدي حيث تسند المسؤولية الدولية لأي شخص دولي سواء كان طبيعي أو معنوي (دولة، منظمات دولية أو أفراد).
قد تكون المسؤولية الدولية مدنية أو جنائية بحسب طبيعة الفعل المخالف للقواعد القانونية الدولية.
يمكن أن يسأل الشخص الدولي إذا إقترف أفعالا محظورة في القانون الدولي، ويمكن كذلك أن يسأل على اقتراف أفعال غير محظورة في القانون الدولي إذا ترتب عنها ضررا للغير.
على ضوء هذه الركائز، دارت تعريفات الفقه الدولي المعاصر للمسؤولية الدولية، وسنورد فيما يلي مجموعة من التعريفات:
يعرّف الدكتور طلعت الغنيمي المسؤولية الدولية بأنها «الالتزام الذي يفرضه القانون الدولي على الشخص بإصلاح الضرر الصالح من كان ضحية تصرّف أو امتناع أو تحمّل العقاب جزاء هذه المخالفة».
ويرى الدكتور محمد حافظ عائم، أن «المسؤولية الدولية القانونية تنشأ في حالة قيام دولة أو شخص من أشخاص القانون الدولي بعمل أو امتناع عن عمل مخالف للالتزامات المقرّرة وفقا لأحكام القانون الدولي، ويترتب على ذلك قيام المسؤولية القانونية وهي توقيع الجزاء على الشخص الدولي المسؤول».
وتعرف لجنة القانون الدولي - في مشروعها بخصوص المسؤولية الدولية لعام 1975 - المسؤولية الدولية بأنها: «إسناد فعل غير مشروع دوليا لأحد أشخاص القانون الدولي العام، مما يترتب التزامه بدفع التعويض أو جبر الضرر الذي حدث نتيجة هذا الفعل غير المشروع دوليا».
ما يمكن قوله هنا، أن هذا الاتجاه المعاصر في تعريف المسؤولية الدولية لم يسلم من النقد، حيث يؤخذ عليه أنه لم يتطرق للمسؤولية الناشئة عن الأفعال التي لا يحظرها القانون الدولي لكنها تسبب ضررا يسير، كما يعجز عن تفسير المسؤولية الجنائية والجزاءات العقابية في غير حالة التعويض عن الضرر التي تترتب على المسؤولية الجزائية وتوقع على الأشخاص الطبيعيين مثل تلك التي وقعت على كبار مجرمي الحرب الألمان بعد الحرب العالمية الثانية.
هناك التعريف الراجح للمسؤولية الدولية بسبب ما وجه من نقد للتعريفين السابقين، فقد كان لزاما محاولة إيجاد تعريف دقيق للمسؤولية الدولية، بحيث يشمل جميع أصناف المسؤولية عن الأفعال التي يحظرها القانون الدولي أو التي لا يحظرها، وتسبب ضررا للغير، سواء كانت مدنية أو جنائية، سواء ترتب عنها جزاء مدني أو جنائي.
وعليه، نرى أن التعريف الذي وضعه الدكتور السيد أبو عطية، هو الملم لكل هذه العناصر، وقد جاء فيه أن «المسؤولية الدولية هي عملية إسناد فعل إلى أحد أشخاص القانون الدولي سواء كان هذا الفعل يحظره القانون الدولي أو يحظره ما دام قد ترتب عليه ضرر لأحد أشخاص القانون الدولي، الأمر الذي يقتضي توقيع جزاء دولي معين، سواء كان هذا الجزاء ذا طبيعة عقابية أو كان ذا طبيعة غير عقابية.
شروط المسؤولية الدولية
وفقا للفقه المعاصر يجب توافر ثلاثة شروط أساسية حتى نكون بصدد المسؤولية الدولية وهي: الواقعة المنشئة للمسؤولية الدولية أي صدور فعل من أحد الأشخاص القانون الدولي (سواء كان الفعل يحظره القانون الدولي أو لا يحظره وفقا لنظرية المسؤولية الدولية الموضوعية)، كما يلزم كشرط ثان حدوث ضرر لأحد أشخاص القانون الدولي، أما الشرط الثالث فيتمثل في علاقة النسبية بين الفعل والضرر، وسنحاول شرح كل شرط بنوع من الإيجاز فيما يلي:
الواقعة المنشئة للمسؤولية الدولية
ويقصد بها الفعل غير المشروع دوليا أو حتى المشروع الذي يسبب ضررا لأي شخص من أشخاص القانون الدولي، كما يعبر عنه البعض بالعنصر الموضوعي للمسؤولية الدولية، ويمكن أن يكون هذا الفعل جريمة دولية كالانتهاكات الجسيمة لقواعد القانون الدولي الإنساني، والصورة الغالبة الواقعة المنشئة للمسؤولية الدولية هي الفعل غير المشروع، والذي يقصد به العمل المخالف أو غير المتفق مع قواعد القانون الدولي العام الصادر عن أحد أشخاص هذا القانون سواء الدول أو المنظمات الدولية وحتى الأشخاص الطبيعيين.
شرط الإسناد في المسؤولية الدولية
المقصود بالإسناد نسبة الواقعة المنشئة للمسؤولية الدولية إلى أحد أشخاص القانون الدولي العام سواء دولة أو منظمة دولية، أما أعمال الفرد، أي الوقائع التي تنشأ المسؤولية الدولية وتنسب إلى أفراد عاديين فإن الدولة تسأل عنها في حدود وبشروط معينة.
بالنسبة لإسناد الواقعة المنشئة للمسؤولية الدولية للدولة أو أحد أجهزتها أو سلطاتها العامة فالقاعدة أن كل ما يصدر عن هذه الأجهزة ينسب للدولة على أساس أنها تتصرف باسم الدولة، فلو تجاوزت هذه الأجهزة حدود اختصاصاتها التي سطرها لها القانون فإن الدولة هي التي تتحمل المسؤولية.
بالنسبة لمسؤولية الدولة عن تصرفات أشخاصها الطبيعيين (الأفراد)، أو المعنويين (الشركات) فالقاعدة العامة هي عدم مسؤولية الدولة عن تصرفاتهم، والاستثناء أن تنعقد مسؤوليتها في حالتين:
• تصرف الشخص بناء على تعليمات من الدولة وبتوجيه منها وتحت رقابتها وباسمها.
عدم بذل الدولة العناية الواجبة لمنع هذه الأعمال التي يترتب عليها ضرر للآخرين.
شرط الضرر في المسؤولية الدولية
يقصد بالضرر كشرط من شروط المسؤولية الدولية المساس بمصلحة أو بحق مشروع لأحد أشخاص القانون الدولي العام، وهذا الضرر قد يكون ماديا أو معنويا، يصيب شخصا من أشخاص القانون الدولي سواء الدول أو المنظمات الدولية أو حتى الأفراد العاديين فيمس مصالحهم.
توّرط الحكومة الفرنسية في الجرائم الدولية المرتكبة بالجزائر
طيلة وجودها الاستعماري بالجزائر، ارتكبت السلطات الفرنسية مجموعة كبيرة من الانتهاكات الخطيرة للقانون الدولي الإنساني، تصنف على أنها جرائم دولية بامتياز فقد ارتكبت هذه الأخيرة بتخطيط من أجهزة الدولة الفرنسية، وبقبول وترحيب من سلطاتها، وما يمكن قوله هنا أن شروط المسؤولية الدولية التي سبقت دراستها متوفرة كلها حتى يمكن مطالبة الدولة الفرنسية بالتعويضات المناسبة، وبهذا الصدد تقسم الدراسة إلى مطلبين تناول في الأول عرض لمختلف صور الجرائم الفرنسية بالجزائر، أما المطلب الثاني فيعرض آثار المسؤولية الدولية للدولة الفرنسية عن جرائمها بالجزائر.
الانتهاكات الاستعمارية بالجزائر
منذ الدخول الفرنسي للجزائر عام 1830 لم تتردّد السلطات الفرنسية ولو للحظة في ارتكاب جرائم راح ضحيتها آلاف الأبرياء من الجزائريين، وحتى في فترة طويلة بعد ذلك التاريخ ارتكبت فرنسا عدّة مجازر وانتهاكات للقانون الدولي الإنساني رغم انضمامها لعدّة معاهدات دولية وإقليمية خاصة بحقوق الإنسان ومعاهدات القانون الدولي الإنساني، كاتفاقيات جنيف الأربعة واتفاقية منع ومعاقبة إبادة الأجناس لعام 1948 وغيرها من الصكوك الدولية المختلفة.
مجــــــازر 8 مـــــــاي 1945
جاء في تقرير لفرحات عباس بصفته شاهدا على الأحداث وقال في شهادته بتاريخ: 26 ماي 1946: «لقد تم إعدام 800 جزائري مسلم بقالمة دون محاكمة، منذ 09 ماي 1945، كانت ميليشيات المدينة تجوب الشوارع وتلقي القبض على كل جزائري يقع في طريقها، حيث يقتل دون محاكمة، بل إن أكثر الشباب الذين تتراوح أعمارهم ما بين 18 سنة قد أخرجوا من ديارهم كرها وقتلوا.. لقد كان جنون الشرطة والميليشيات والجيش والدرك لا يعرف حدودا ولا تمييزا، كانت سطيف، قالمة خراطة، كلها تعيش رعبا لا مثيل له، ولم يمكن بالإمكان حمل الجرحى إلى المستشفيات، لأن مساعدتهم تقود إلى النهاية المحتومة، فقد ترك هؤلاء في مصارعة مع الموت فالإبادة كانت حقيقية بلا هوادة.. جماعية ومنظمة من طرف الجيش والشرطة والمعمرين».
شهادة مركز المعلومات بقسنطينة
سجل هذا التقرير بتاريخ 21 ماي 1945 جاء فيه بالحرف الواحد: «إنها مجزرة حقيقية اقترفت ضد المسلمين الجزائريين راح ضحيتها آلاف الأبرياء».
شهادة الجنرال «دلاي» (Delay) قائد مليشيات مقاطعة قسنطينة بتاريخ 16 جوان 1945 إلى الحاكم العام الفرنسي بالجزائر العاصمة يقول فيه «منذ 8 ماي 1945، فإن ميليشيات قسنطينة كانت على أشد التأهب والاستعداد للاستجابة لأول نداء لحماية الولاية والبلدية وقد تم قمع محاولات التظاهر والتمرد وقتل الكثير من الجزائريين».
إن مطالب الجزائريين كانت شرعية، فحق تقرير المصير مطلب قانوني، وهذا ما كرسه إعلان الأمم المتحدة الصادر في جانفي 1942.
مجازر «موريس بابون» ضدّ المهاجرين الجزائريين
لم يبق في ذاكرة الشعب الفرنسي شيء من جرائم موريس بابون التي ارتكبها في ليلة الثلاثاء السوداء من 17 أكتوبر 1961، عندما تصدّت قوات الشرطة بأوامره لقمع التظاهرة السلمية التي نظمها المهاجرون الجزائريون في باريس، تحت قيادة «اتحادية جبهة التحرير»، وكانت هذه المظاهرة احتجاجا على أعمال القمع المتزايد والمسلط عليهم من طرف مصالح الأمن الفرنسية، ووقف الجزائريون بكل شجاعة ضد النظام العنصري الذي فرض عليهم حضر التجوّل ليلا من الساعة الثامنة والنصف إلى الخامسة والنصف صباحا، فكان الرد للبوليس الفرنسي قاسيا وعنيفا، كما أدلى المفتش التابع لشرطة باريس أن هناك 140 قتيلا من الجزائريين، في حين تتحدث مصادر جبهة التحرير عن 400 مفقود.
أين اختفى هؤلاء؟.. منهم من التهمته أمواج السين، ومنهم من ظل يطفو فوق النهر لأيام، كما تم اكتشاف ضحايا آخرين في غابتي « بولونيا وفانسان، وعدد آخر من الجزائريين تم رميهم من الجو باستخدام الطائرات ليستقبلهم البحر.
إن مجيء ديغول «إلى الحكم لم يغير في الوضع المزري بالجزائر شيئا، فقد امتد التعذيب إلى باريس، أين تم توقيف 15 ألف جزائري تعرضوا لأبشع طرق التعذيب والمعاملة اللاإنسانية وكانت نهاية عدد كبير منهم في نهر السين.
وتذكر المصادر الفرنسية أن هناك بعضا من أفراد الشرطة يتعاملون مع العنصر الجزائري بناء على التعليمات التي أعطاها لهم المجرم «موريس بابون « الذي جاء على لسانه في خطاب رسمي سووا مشاكلكم بأنفسكم مع الجزائريين، ومهما حدث فإنكم بمنأى عن العقاب ونضمن لكم الغطاء القانوني».
الحلقة الأولى