طباعة هذه الصفحة

جـــرائــــم الـــكـــولـــونـــيـــالـــيـــة الـــفـــرنـــســـيـــة في الجـــزائــــــر..

مــــــــعــــــــتــــــــقــــــــل كــــالــــيــــدونــــيـــــا..شاهد على جحيم الاستعمار

عبد الكريم قرين

 

ظل اليهود، والى زمن قريب يتهمون موريس بابون Maurice papon، والذي صدر في حقه اتهام في 19 جانفي 1983م، من طرف منظمات يهودية، وهذا الاتهام يندرج ضمن ما يسمى بالجرائم ضد الإنسانية. أما الجرائم التي ارتكبها الفرنسيون ضد الشعب الجزائري في الجزائر، وفي المهجر فقد سكت عنها، أو بالأحرى سكتنا عنها نحن لأن ذاكرتنا ضعيفة ويعتريها النسيان في غالب الأحيان، فاليهود لم ينسوا أبدا موريس بابون فهم وراءه يتهمونه بالمشاركة في ترحيل مئات اليهود إلى المحتشدات النازية عندما كان كاتبا عاما لمحافظة الشرطة في 1942 تحت الاحتلال الألماني، ولكن نحن نسينا ما فعلت فرنسا بالجزائريين الذين هجّروا ظلما إلى جزيرة كاليدونيا الجديدة.

الحلقة الأولى

وانطلاقا من هذا، سنعالج موضوع جرائم الاستعمار الفرنسي في جزيرة كاليدونيا معتمدين على فكرتين أساسيتين وهما المنفيون الجزائريون، وكيف أرغموا على ترك وطنهم الأم، والفكرة الثانية هل يحق للأحفاد مطالبة السلطات الفرنسية بحق التعويض لما ارتكبته فرنسا من جرائم ضد الإنسانية يندى لها الجبين وهل تكفل حقوق الإنسان الدولية هذا الحق.
تعرضت الجزائر لاستعمار استيطاني همجي حاولت فرنسا من خلاله تعويض شعب بشعب، وجعلت من هذا البلد جزءا لا يتجزء منها. ولتحقيق هدفها استعملت كل الوسائل العسكرية المتطورة، وأساليب أخرى، وذلك في محاولة منها محو مقومات الشعب العقائدية والروحية، وأنشأت إدارة لكبت حقوق الشعب وتحطيم معنوياته وتفتيت وحدته بزرع خلافات بين أفراده. تطبيقا لسياسة فرّق تسد، ومن أجل هذا تأهب الشعب دفاعا عن الأرض والشرف. ودخل في صراع دائم مع فرنسا، والدليل على ذلك، تلك الانتفاضات والثورات الشعبية التي دامت قرابة قرن من الزمن. ففرنسا الحضارية كما تدّعي، وأنها جاءت لإخراج الشعب الجزائري من همجيته نشر جنرالاتها الرعب والذعر والخراب والموت بقيامهم بأعمال إجرامية في حق إنسانية هذا الشعب ومن أمثالهم كثيرون دي بورمون، بيجو، فالي، ماكماهون وكلوزيل.. لقد فتكوا بالشيوخ، والنساء والأطفال واحرقوا المئات من القرى والدواوير، وقاموا بعديد من الإبادات الجماعية التي تعتبر اليوم في القانون الدولي جرائم ضد الإنسانية.
أين هي فرنسا الحضارية؟ أين ذهبت شعارات ثوراتها المطالبة بحقوق الإنسان والحرية في العيش؟ ولماذا يعتبر جل الفرنسيين أن الثورات الشعبية ما هي إلا جهاد عقائدي تعصبي لا علاقة له بالوطنية ما دام معظم قواد هذه الثورات من مشايخ الطرق الصوفية، لكن عندما وجد الشعب أن أرضه تغتصب تحتم عليه أن يثور ويجد من يقوده للدفاع عن مقوماته الوطنية.
الحملة الفرنسية ضد الجزائر ليست سوى حلقة من حلقات الحروب الصليبية لحماية البحر المتوسط والعالم القديم، وهي فكرة راودت أذهان العديد من ملوك فرنسا، حتى وصلت نابوليون بونابرت الذي خطط لاحتلال الجزائر بعد التقارير التي وصلته من الجاسوس بوتان سنة 1808م والقاضية بإنزال القوات الفرنسية.
ألم توهم فرنسا مرارا، أن احتلالها للجزائر سيدخل في حماية القيم الحضارية والتعاليم السمحة للمسيحية، وتحضر الشعب الجاهل وتخرجه من براثن الحكم العثماني؟!.. الواقع أن فرنسا كانت تبحث عن تبرير استعمارها للجزائر والتخلص من ديونها، كما أنها - بعملها هذا - ستحافظ على النظام العام بفرسها التي كانت في تلك الفترة تعاني أزمات البطالة وزيادة في السكان وفائضا في إنتاجها الصناعي وهو ما أكده المارشال جيرار سنة 1830م قائلا: الحكومة الفرنسية عزمت على الاحتفاظ بالجزائر لفتح أرض واسعة للفائض من سكانها ولتسويق إنتاج مصانعها”.
الحملة الفرنسية تدخل في إطار حركة استعمارية شاملة نتيجة لما آلت إليه الجزائر من ضعف وجمود ثقافي واقتصادي، وما وصلت إليه فرنسا بعد نجاح الثورة الصناعية بأوروبا في القرن الثامن عشر من تطوّر ..
ثورة المقراني والشيخ الحداد
أن اندلاع ثورة 1871م كان متوقعا، وقد لاحت مؤشراتها في الأفق منذ زمن، وكان الشعب الجزائري ينتظر قيامها من حين إلى لآخر، ولقد رسخت ذكراها في الأذهان، لذلك وجب علينا دراسة الأسباب والدوافع وراء اندلاعها.
كانت الإمبراطورية الفرنسية الثانية تقوم بعملية تهجير واسعة لأوروبيين من فرنسا وأوربا نحو الجزائر، بهدف التوطين والتوسع الاستعماري، وصحب عملية التهجير الاستيطان، ومصادرة أملاك الجزائريين من أراضي وعقارات، وقطعان المواشي، لتمليكها للمهاجرين الذين كان أغلبهم محكوم عليهم بسوابق عدلية في فرنسا. وجيء بهم أرض الجزائر للتخلص منهم، ولاستغلالهم في حركة التوسع الاستعمارية.
نتيجة هذا العمل، تضاعف البؤس والحرمان والشقاء في أوساط المجتمع الجزائري وهو يشهد أن أرضا تغتصب من طرف أناس غرباء، والغريب في الأمر أن حكومة الإمبراطورية الثانية، ونابليون الثالث بالذات، كان يتظاهر بما دعي “السياسة العربية” والتي تستهدف حماية الجزائريين وأملاكهم، ومقاومة تسلط المعمرين عليهم، وإنشاء ما سمي بالملكية الشخصية العربية، ويكفي تصفح جريدتي المبشر والأخبار الصادرتين بالجزائر في ذلك الوقت ليشهد، كيف صودرت الأراضي من أصحابها و منحت للمهاجرين الأوروبيين، وهذا ما يؤكد تفاهة السياسة الاستعمارية القائلة أنها تحمي أملاك الجزائريين.
اتبعت السلطات الفرنسية في هذه الفترة، سياسة تحطيم نفوذ الأسر والعائلات الجزائرية الكبيرة ذات السمعة والمكانة في البلاد، بعد أن نالت منها غرضها ومن بين الأسر التي عملت فرنسا على استمالتها أسرة أولاد سيد الشيخ في الجنوب الوهراني، وأسرة ابن قانة في بسكرة والزيبان، وأسرة المقراني في مجانة، وأسرة قاسي في تيزي وزو، أسر أخرى، ومنحت لرؤساء هذه العائلات ألقاب مثل لقب الخليفة وشيخ العرب وأعطتهم امتيازات واسعة إدارية واقتصادية.
وقد أكد هذه الفكرة لويس رين، وقال إن رؤساء هذه الأسر لم يريدوا أن يفهموا بأنهم جيء بهم لخدمة السلطات الفرنسية وتنفيذ أوامرها وما دمنا نتكلم عن ثورة 1871م، سنأخذ عائلة المقراني أنموذج لهذا التحطيم والإذلال. فزعيم هذه الأسرة الحاج احمد المقراني، والد الباشاغا، شارك مع قوات الحاج احمد باي في مقاومة حملة الاحتلال على العاصمة سنة 1830م، وحملة الغزو الفرنسي على قسنطينة سنة 1837م، وظل خارج عن طاعة الفرنسيين إلى غاية صيف عام 1838، ولم يستسلم إلا بواسطة صديقه بوعكاز بن عاشور شيخ فرجيوة والذي قدمه إلى الجنرال قالبوا، فأسند إليه هذا الأخير مشيخة مجانة في شهر جويلية وقلد منصب الخليفة على مجانة في 30 سبتمبر 1838م، وامتدت حدود خلافته من فرجيوة شرقا وحدود منطقة شيخ العرب ببسكرة في الجنوب، ومنطقة التيطري غربا.
وكان من المفروض أن يظل نفوذ المقراني قوّيا واسعا، ولكن السلطات الفرنسية وبعد سنة 1840م أخذت تضعف من قوّة شوكته وتقلص نفوذه. فنزعت منه جانب من منطقة واد الساحل والوانوغة الغربية ونصبت عليها قوادا جددا، وإخضاعهم إلى سلطتها المباشرة. وفي عام 1849م أسست السلطات الفرنسية مركزا عسكريا للحراسة في بوسعادة، وعينت فيه فرنسيين ليشرفوا على حكم وإدارة جانب من سكان منطقة الحضنة.
وعندما توفي الخليفة الحاج احمد المقراني عام 1853م خلفه ابنه محمد بلقب الباشاغا وهو لقب أقل شأن وقيمة ونفوذا من منصب الخليفة، وفي عام 1860م تلقى الباشاغا محمد رسالة قاسية من طرف الجنرال ديفو، بسبب مساعدة هذا الأخير صديق والده بوعكاز بن عاشور في أزمته السياسية نتيجة ثورة حصلت في منطقة فرجيوة في نفس العام، وقد استدعي شخصيا للإجابة على بعض الأسئلة من بينها اجتماعه مع بين عمومته في الدريعات خلال اجتماع عائلي وهو ما يستنتج أن الفرنسيين كانوا غير مرتاحين لمحمد باشاغا.
بهذا الأسلوب بات واضحا أن السلطات الفرنسية بدت جاهزة لتحطيم أسرة الباشاغا وتقليص نفوذها، ومن الطبيعي لهذه السياسة رد فعل سيء لأن الباشاغا وان أرغمته الظروف على مسايرة السلطة الاستعمارية والعمل تحت سلطتها، إلا أنهم ليسوا أحجارا، بل هم رجال ذوو إحساس وكرامة وطنية، ولا يقبلون الهوان وذلك من ضمن أساليب ثورة 1871م.
سياسة إبادة الأهالي التي اتبعتها فرنسا بعد أن أتلف جنودها المحاصيل الزراعية، وأتوا على الأخضر واليابس، لم يبق عند الجزائريين ما يأكلون “في مدينة الجزائر حيث يوجد عدد كبير نسبيا من الأفراد الواجب تغذيتهم. تظهر لك حشود من الأطفال الصغار وقد رمى بهم الجوع إلى الشوارع للبحث عما يقتاتون به”.
يتساءل الإنسان كما كانت فرنسا بشعة من خلال تطبيق سياسة إبادة الأهالي لم ترع حتى الأطفال الصغار. ضف إلى ذلك سلوكيات وتصرفات الجيش الفرنسي، وما خلّفه من ضحايا ما بين 1830م و1860م عدد كبير من الضحايا بواسطة المعارك وتهديم قراهم ومدنهم حتى وصل عدد المهاجرين من مدنهم قرابة المليون.
لم تكن العمليات التي قامت بها القوات الفرنسية محصورة على الجانب القتالي فحسب. فطبيب كان يرافق إحدى الحملات يقول: بينما كان اللفيف يتقدم ببسالة وإقدام على مرتفعات الجبال، كنا نحن نقطع النخيل وقد خربنا مدينتهم وقلبناها رأس على عقب، كما أفرغنا مطاميرهم من القمح والشعير، وأتلفنا البساتين ومزروعاتهم، وحرقنا مناسجهم التي يحيكون عليها وقطعنا كل أشجارهم المثمرة وأخذنا ممتلكاتهم ذات القيمة التي يمكن أن يستعملونها كعملة لمقايضة القوت، فبقوا على قيد الحياة.
إن الظروف التي ذكرناها سلفا كافية لإشعال فتيل أية ثورة في العالم، ولكن رغم ذلك هنالك أسباب أخرى دفعت بالأهالي لقيام بثورتهم، ويمكن إيجازها فيما يلي:
مسّْت مأساة المجاعة الأليمة، التي حصلت سنتي 1867 و1868 وراح ضحيتها الآلاف من الجزائريين، ولم تقدم السلطات الفرنسية أية مساعدات للمنكوبين، بل على العكس من ذلك، تركتهم يصارعون مصيرهم المؤلم، وبهذا اقتنع الباشاغا أن هذه السلطات لا يهمها سوى حماية مصالحها. فأحدث ذلك في نفسه جرحا عميقا لم يستطع ان يصبر عنه وهو وأمثاله من زعماء الأسر الجزائرية.
كما تعرضت الجزائر لغزو أسراب من الجراد في عام 1864م، وأخذ هذا الغزو منحنى خطيرا حتى سمي بعام الجراد، فقد عبرت أفواج الجراد جبال الأطلس من الجنوب الحقول والشمال ومزارعه وفي طريقه أتى على الأخضر واليابس من أشجار الخضر والفواكه، ففقد الناس إنتاجهم وتعرضوا لضائقة مادية، ومع مطلع عام 1866م انتشر وبشكل رهيب وباء الكوليرا والتيفوس، ومع انتشار هذا الوباء أخذ الجزائريون يموتون بالجملة وفي القرى والطرقات، مما أرغم السلطات الفرنسية إلى حفر خنادق عميقة تدفن فيها الموتى وذكر الأب بورزي أن عدد الضحايا من الجزائريين يصعب تقديره، وان الذين ماتوا خلال شهرين فقط قد يصل إلى مائتي وخمسين ألفا، أما في مدينة بسكرة” فقد مات أكثر من ألف مواطن خلال مدة خمسة عشر يوما وذلك ما بين 15 و 30 يوليو عام 1867م.
وبينما كان الأهالي يعانون من ويلات المجاعة وانتشار الأوبئة، وحدوث الكوارث الطبيعية مثلما حدث زلزال عام 1867م، اخذ اليهود يستغلون الفرصة لتنمية ثروتهم وأرباحهم عن طريق القروض التي كانوا يقدمونها للمنكوبين بفوائد عالية، وهم اليهود دائما أصحاب مكر ودهاء، بالإضافة إلى دور اليهود، سعت الكنيسة المسيحية لتمسيح الأطفال واليتامى على إثر المجاعة التي أصابت الجزائريين غرضها تحطيم مقدساته ومقوّماته ومحاربة الدين الإسلامي. وبالطبع فقد تألم الباشاغا من تصرف هذه الإدارة الاستعمارية وزاد حقده عليها، زيادة على ذلك أصدرت الإدارة الفرنسية في 24 أكتوبر سنة 1870م قانون كريميو، الذي أعطى امتيازات واسعة لليهود في الجزائر ليزيد على الطين بلة كما يقال، في أوساط المجتمع الجزائري، وبهذا تكتمل دوافع وأسباب نشوب ثورة 1871م.
عندما تدهورت الأوضاع في الشرق الجزائري طلب الشيخ محمد المقراني من السلطات الفرنسية أن تقبل استقالته، ولكنها ردت عليه برفض، وطلبت منه تقديم استقالة أخرى تتضمن تعهدا منه، أن يبقى مسؤولا عن كل ما يحدث في منطقته إلى حين رد الجواب عن الطلب بالقبول أو الرفض، فاعتبر المقراني هذه الإجابة بمثابة تحد له وإهانة بالغة فأعلن الثورة، وحمل السلاح في يوم 16 مارس 1871م وقام بمحاصرة مدينة برج بوعريريج إلا أن القوات الفرنسية نجحت في فك الحصار على المدينة يوم 26 فيفري 1871م. وفي يوم 8 ابريل انضم الشيخ الحداد إلى الثورة، ودارت معارك عديدة وكثيرة بين الثوار والقوات فرنسية ومن بينها معركة 12 أبريل بقرب جبل تفارطاست. ومعركة أخرى يوم 5 ماي 1871م، حيث واجهت قوات الشيخ المقراني قوات الكولونيل تروملي الذي كان يحكم منطقة سور الغزلان.
خفتت شدة المعركة قليلا، فاغتنم الشيخ الفرصة لأداء صلاة الظهر مع رفاقه، وهو قائم في تأدية الصلاة فجاءه خونة كانوا يراقبون الثوار من بعيد، فأصابوه في جبهته وسقط شهيدا وهو وثلاثة من رفاقه.
أما الشيخ الحداد، فقد استطاع أن يكوّن جيشا يصل تعداده 120 ألف مجاهد في حين أن جيش المقراني لم يكن يتجاوز 25 ألف مجاهد وخاض معارك هو الآخر طاحنة في وجه العدو الفرنسي بحيث أحدث  خسائر في صفوف القوات العسكرية الفرنسية. ولكن الشيخ الحداد الذي انضم إليه العديد من المجاهدين ومن مختلف مناطق الوطن، رغم هذا، لم يتمكن من جمع السلاح الكافي وبذلك يتسنى له حسم المعركة لصالحه، ولهذا فشل الشيخ في إيقاف الزحف الفرنسي في جبال القبائل وتمكن الفرنسيون يوم 24 جوان من تفتيت العائلات، وحرق المنازل وإجهاض المقاومة الجزائرية.
أعدنا نشر الحلقة الأولى من هذه الدراسة بعد أن تسللت إليها – الخميس المنصرم - أخطاء غير مقصودة في التواريخ..