في الثامن من أفريل 2025، استقبل رئيس الجمهورية، السيد عبد المجيد تبون، العالم الجزائري المقيم في كندا، البروفيسور كريم زغيب، أحد أبرز خبراء العالم في مجال البطاريات..اللقاء لم يكن عادياً، بل حمل دلالات استراتيجية عميقة، إذ جمع بين رؤية سياسية متوثبة إلى رفع صرح الجزائر المنتصرة، وإسهام علمي عالمي، ليمهد الطريق أمام الجزائر لفتح أبواب صناعة تعدّ اليوم قلب التحول الطاقوي العالمي..بطاريات الليثيوم..
ولقد أكد كريم زغيب عقب لقائه بالرئيس تبون، أن الرئيس تبون يدعم بقوة تطوير صناعة بطاريات الليثيوم»، وعبّر زغيب عن طموحه في أن تكون الجزائر «قوية ورائدة» في هذا المجال. ولم يكتف بالإشارة إلى البعد الصناعي، بل تحدث عن إمكانات خلق ما لا يقل عن خمسين ألف منصب شغل مباشر، ومائة ألف منصب غير مباشر، في صورة تعبّر عن أن هذا المشروع يتجاوز التقنية إلى أفق اجتماعي واقتصادي واسع.
الرئيس تبون من جانبه، أوضح غير مرة، أن الجزائر لن تكون أبدا مجرد بلد مصدر للمواد الخام، فالجزائر الجديدة يجب أن تكون فاعلاً صناعياً وتكنولوجياً، وهي الرسالة التي ردّدها الرئيس في كثير من لقاءاته، وتعكس رغبة سياسية واضحة في تجاوز مرحلة تصدير الموارد إلى مرحلة التصنيع وإعادة الإدماج في الاقتصاد الوطني المتجدد.
قدم راسخة بخارطة «الذهب الأبيض»
تُسمّى بطاريات الليثيوم بـ»الذهب الأبيض» لعلاقتها المباشرة بالثورة الصناعية الرابعة، فهي العمود الفقري لكل الأجهزة الحديثة: من الهواتف الذكية والحواسيب المحمولة، إلى السيارات الكهربائية ومزارع تخزين الطاقات المتجددة. لكن ما يجعلها أكثر استراتيجية هو دورها في الانتقال الطاقوي، إذ لا يمكن تخزين الطاقة الشمسية أو طاقة الرياح دون بطاريات قوية وفعّالة.
والجزائر المنتصرة، بما تمتلكه من موارد طبيعية على رأسها الليثيوم والفوسفات والحديد، وبما تملك من شريط ساحلي طويل، يسهّل عمليات التصدير، تبدو مرشحة للعب دور أساسي في هذه الصناعة، ويُضاف إلى ذلك الرصيد البشري من كفاءات علمية وتقنية، ما يجعل المشروع قابلاً للتجسيد.
أبعاد اقتصادية واجتماعية
صناعة البطاريات ليست مجرد قطاع تقني، فهي اليوم صناعة تُقدّر بمئات المليارات من الدولارات سنوياً، وتشهد تنافساً شرساً بين القوى الكبرى..الصين استثمرت مبكراً في هذه التكنولوجيا وأصبحت تمتلك أكبر «جيغا فاكتوري» في العالم..أوروبا قررت منع السيارات ذات المحركات الحرارية بداية من 2035، ما جعلها تسابق الزمن لإقامة مصانع بطاريات محلية لتقليل التبعية. أما الولايات المتحدة، فقد أدرجت هذه الصناعة ضمن أولوياتها الاستراتيجية، باعتبارها قضية أمن قومي..في هذا السياق العالمي، لا يمكن للجزائر أن تبقى مجرد متفرج، دخولها هذا المجال يعني أولاً خلق مناصب شغل واسعة للشباب، وهو ما أشار إليه كريم زغيب بوضوح، ويعني ثانياً تحويل جزء معتبر من عائدات تصدير المواد الخام إلى قيمة مضافة داخلية، ما يفتح المجال لتنويع الاقتصاد وتقليل الاعتماد على المحروقات.ومن زاوية اجتماعية، فإن هذه الصناعة قادرة على تحريك عجلة البحث العلمي في الجامعات الجزائرية، إذ ستصبح الحاجة ماسة إلى تكوين مهندسين وتقنيين في مجالات الكيمياء، الفيزياء، الميكانيك، وهندسة المواد. وهنا يبرز سؤال جوهري: كيف سيتم ربط الجامعات بمراكز البحث والمصانع حتى لا تبقى الكفاءات حبيسة النظريات؟لفهم ثقل هذا المشروع، يكفي أن نستعرض كيفية عمل بطارية الليثيوم-أيون، فهي تعتمد على مبدأ بسيط ظاهرياً: انتقال أيونات الليثيوم بين قطبين عبر إلكتروليت، لكن خلف هذه البساطة الظاهرية، تكمن معادلات كيميائية معقدة وتحديات تقنية دقيقة..البطارية قادرة على تخزين طاقة أكبر بثلاثة أو أربعة أضعاف مقارنة بالبطاريات التقليدية، وهي أسرع شحناً وأطول عمراً، غير أن لها مخاطر مرتبطة بالحرارة وإمكانية الاشتعال، ما يستدعي أنظمة إدارة إلكترونية معقدة.هذه المعرفة التقنية التي اكتسبها علماء كبار من أمثال كريم زغيب، ليست مجرد ترف علمي، بل هي المفتاح لصناعة وطنية قادرة على المنافسة، والجزائر بإمكانها أن تستفيد من خبرة أبنائها في الخارج لإقامة شراكات علمية وتكنولوجية تنقل هذه المعرفة إلى الداخل.
البعد الجيوسياسي..صراع على المستقبل
يبدو جليّا اليوم أن من يسيطر على بطاريات الليثيوم، يسيطر جزئياً على مستقبل الطاقة. وهذا ما أدركته القوى الكبرى، وهو ما تعمل عليه الجزائر، فالدخول في هذه الصناعة ليس خياراً اقتصادياً فقط، بل هو أيضاً خيار سيادي، خاصة وأن الجزائر التي عُرفت تاريخياً بكونها دولة بترول وغاز، تستعد لإعلان القطيعة مع اقتصاد الريع، وبناء اقتصاد منتج لتتحول إلى دولة طاقة شاملة، تُصدّر النفط والغاز والكهرباء الخضراء والبطاريات، ومنتجات أخرى نوعية في جميع القطاعات المنتجة.الإرادة السياسية القوية التي عبّر عنها الرئيس تبون أكثر من مرة، تمنح الجزائر فرصة لإعادة التموضع في الخريطة الدولية، وطريق النجاح في بناء صناعة وطنية للبطاريات ممهدة، من أجل اكتساب ورقة جديدة في المحفل العالمي، حين توثق انتقالها من مجرد مزود بالمواد الخام إلى فاعل في سلاسل القيمة العالمية.
تكامل بين الجامعة والصناعة
ولقد حرصت الجزائر المنتصرة على إعداد كل أسباب النجاح، وراهنت، منذ تولى الرئيس تبون سدة الحكم، على الجامعة، فجعلتها قاطرة للتنمية، من خلال توفير الأطر القانونية، وأدوات التمويل، كي يكون البحث العلمي في خدمة الصرح الصناعي، من أجل تجسيد الإنتاج الجزائري النوعي على أرض الواقع،
إن مشروع بطاريات الليثيوم، فرصة لتجسيد هذا التكامل. وسوف يشرق من الجامعات الجزائرية التي تعدّ له مهندسين أكفاء ليكون تأشيرة للجزائر المنتصرة لدخول نادي الكبار في العالم.