تحصي ولاية معسكر المجاهدة 76 مركز تعذيب،موزع عبر 16 دائرة بالولاية، دونما احتساب مراكز التعذيب والاستنطاق المخفية وغير الرسمية باعتبار أن السلطات العسكرية الاستعمارية وقتها لم تكن بحاجة إلى مراكز اعتقال رسمية لتنفيذ أبشع وسائل وطرق التعذيب على المجاهدين أو من يشتبه في دعمه للثورة المباركة، والتي كانت تتمّ في أي مكان.
قدّمت معسكر الواقعة ضمن نطاق المنطقة السادسة التابعة للولاية التاريخية الخامسة، أكثر من 6 آلاف شهيد من خيرة أبنائها فداء الوطن خلال الثورة المباركة، وكانت أكثر استهدافا من السلطات الفرنسية الاستعمارية، ما يفسّر العدد الكبير من مراكز التعذيب التي أقيمت لقمع الثورة والإرادة الوطنية، لاسيما بداية من سنة 1956، حيث تحوّلت مزارع المعمرين المنتشرة بتراب الولاية إلى مراكز للتعذيب والاستنطاق الوحشي.
ومازالت المراكز اليوم تقف شاهدة على القمع الاستعماري الذي بلغ ذروته في تلك الفترة التي شهدت فيها المنطقة نشاطا ثوريا مضادا أربك القوات الفرنسية، بداية من معركة «غار بوجليدة» سنة 1954 بقيادة شهيد المقصلة أحمد زبانة ومعركة جبل المناور التي كبّلت فرنسا خلالها هزائم نكراء، ومعركة جبل اسطمبول في أوت 1958 بقيادة المجاهد أديب الميلود المدعو «سي عبد العزيز»، وملحمة فوج بوشريط بالمحمدية في ديسمبر1959، أين حشدت فرنسا قوات كبيرة مقابل مجموعة من 12 مجاهدا كانوا في مهمّة خاصة.
وبذكر مساعي وزارة المجاهدين لتحويل هذه المراكز إلى متاحف ومرافق شاهدة على الجرائم الاستعمارية الشنيعة في حق الجزائريين تسيرها وتشرف عليها البلديات، اصطدمت جهودها بواقع تحويل ملكية هذه المراكز التي تعتبر في الأصل مزارع خاصة، إضافة إلى عبء التمويل المالي لعمليات الصيانة والتهيئة الذي عجزت البلديات عن توفيره، وتسبّب في الغالب في تعذّر تهيئة مراكز التعذيب وتحويلها إلى مرافق تروّج للسياحة التاريخية، لتبقى مراكز التعذيب المنتشرة بربوع ولاية معسكر، أطلالا ترثي حالها وترثي أنات المجاهدين والشهداء الذين قضوا نحبهم تحت أنقاضها.
في هذا الشأن، دعا الدكتور محمد شاطو أستاذ بجامعة معسكر والمختص في التاريخ في حديث لـ الشعب» إلى ضرورة تقييم وتصنيف مراكز التعذيب والمعتقلات كمعالم تاريخية تجسّد ذاكرة الأمة، من منطلق أن الولاية التاريخية الخامسة عرفت عبر مختلف مناطقها انتشارا واسعا للمعتقلات المتخصّصة أين كانت تمارس أبشع أنواع التعذيب، في استتراتيجية استعمارية غير جديدة لقمع الثورة.
وأبرز شاطو، أن التعذيب هو صفة ملازمة للاستعمار الفرنسي في الجزائر منذ وطأته الأولى، لكن الاستنطاق باستعمال أنواع التعذيب أخذت أبعادا خطيرة بعد اندلاع الثورة، ولم يخف المتخصّص في تاريخ القضية الوطنية، استحسانه للمبادرات التي تقوم بها الوزارة الوصية على قطاع المجاهدين، وتخصّ في سلسلة ملتقياتها موضوع السجون ومراكز التعذيب في الجزائر أثناء الثورة التحريرية، كون مثل هذه الملتقيات تعتبر مادة تاريخية دسمة لكتابة التاريخ.
وطالب المتحدث بالعناية المادية بالمعتقلات التي آل أغلبها إلى أنقاض - إن لم يتحوّل إلى ملكيات خاصة أوعمومية - والترويج من خلالها للسياحة التاريخية، على غرار معتقل أفلو الذي جاء ذكره في تقارير فرنسية لا حصر لها، والذي تحوّل إلى مقر محكمة وخزينة عمومية وجزء منه تحوّل إلى مسكن لأحد الخواص، شأنه شأن، مركز التعذيب المتخصّص في المالح بعين تيموشنت، أين كانت تعتقل فيه نساء تعرضن لأبشع أنواع التعذيب والتنكيل، ومعتقل «بن داود» بوسط مدينة معسكر الذي تحوّل إلى مشروع سكني.
وتروي مراكز التعذيب بمنطقة معسكر ما ترويه من قصص الظلم والتنكيل التي تعرض لها سكان المنطقة بين سنوات 1956-1958، وهي الفترة التي شهدت تصعيدا غير مسبوق في مجال التعذيب الوحشي.
وأكدت الشهادات الحيّة لبعض المجاهدين أن مركز التعذيب «الدار الحمرا» بشمال مدينة معسكر، شهد أبشع أنواع التعذيب عن طريق استعمال الكهرباء والنار والزجاج ثم رمي الجثث بعد التنكيل بها في أعماق بئر قريبة من المركز.
وفي مركز التعذيب بسيدي بوسعيد جنوب شرق الولاية، كان يتمّ تجميع المواطنين ثم تمارس عليهم شتى طقوس العذاب باستعمال الكلاب المدرّبة لتكون نهايتهم القتل المحتم، ومثل ذلك بمركز التعذيب «قرقور» الذي تحوّل إلى معلم شاهد على الذاكرة، يوضح مدى التعذيب الذي لحق ببواسل جيش التحرير الوطني وكل من تثبت له صلة بدعم المجاهدين، كان عساكر المستوطنين يرمون بهم في حفرة مليئة بالمياه القذرة إلى أن يلاقوا حتفهم بعد تعريضهم لمختلف أساليب التعذيب والإستنطاق.
أما مركز التعذيب «كولان» بسيق، فكان يستقبل المعتقلين من مختلف مناطق الغرب الجزائري، وكان يتسع لـ100 معتقل، بعد أن حوّل من مزرعة لأحد المعمرين إلى مركز للتعذيب سنة 1957، وتمّ تقسيمه إلى قسم للتعذيب وآخر للإعتقال، وتوصف هذه المراكز بأسمائها على غرار «نيقو»، «غيلان»، «إيزيدور» وغيرها، أنها كانت في شكل زنزانات تحت الأرض، رطبة ومظلمة، ينتابك شعور رهيب لدى زيارتها، تكاد تسمع أنين المعتقلين وصرخاتهم لمجرّد وطأتك الأولى للمكان، قد تفاجئك الجرذان السامة لدى محاولتك، وليست أكثر رهبا من الجنود الفرنسيين والضباط الذين تناوبوا على تعذيب الجزائريين في تلك الفترة من الزمن.
ولا يمثل التعذيب خلال فترة الثورة التحريرية المباركة، سوى القسط القليل من الممارسات الإجرامية التي لا تغتفر في مرحلة قصيرة من مجموع 132 سنة من الاستدمار، إلا أن القمع والتعذيب الممارس بصفة رسمية في تلك الفترة من تاريخ الجزائر المجيد، ضد شعب أعزل بغية صده عن خيار الثورة.
يستوجب علينا المطالبة في كل مناسبة بضرورة تجريم الاستعمار الفرنسي، في قالب يفرض على فرنسا دولة وشعبا الاعتذار الرسمي عن جرائمها في الجزائر وتعويض الأهالي والمواطنين العزل المتضرّرين الذين أنهكتهم الظروف الاستعمارية في تلك الفترة وإن لم يكن المراد من الطلب سوى رد الاعتبار لهم، والإعتراف بهم كضحايا حرب غير متكافئة الأطراف ارتكبت ضد الإنسانية.
إبادة الجزائريين بوحشية.. وصمة عار
يقول الباحث في تاريخ المقاومة الجزائرية الأستاذ بلقاسم حجايل، إن فرنسا الإستعمارية لدى احتلالها الجزائر لم تفكر في سلب ثرواتها وخيراتها فحسب، بل خطّطت لإلحاق الجزائر بها كمقاطعة فرنسية بالرغم من عدم وجود أي قاسم مشترك بين البلدين، وعملت فرنسا الاستعمارية على تطبيق مخطّطها باستعمال أكثر الطرق وحشية لإبادة الشعب الجزائري وإخضاعه لسلطتها.
عدّد الباحث في التاريخ طرق التقتيل والتنكيل بالجزائريين في قائمة طويلة من الأساليب الوحشية حصر فيها 62 مثالا و24 فئة مدرجة وموزعة على 12 طريقة للإبادة الشنيعة، منها ما جاء في شهادات لفرنسيين أنفسهم عن كل جريمة اقترفت في سبيل سلب الأرض.
ويسرد الكاتب في مؤلف من جزأين حول جرائم فرنسا في الجزائر خلال الفترة 1830 - 1962، الحقائق التاريخية لحرب الإبادة الممنهجة ضد شعب أعزل، زادت شناعتها بعد اندلاع الثورة التحريرية، بعد 3 سنوات من وطأتها للجزائر عبر سيدي فرج كلّفت فرنسا الاستعمارية لجنة مختصة لدراسة الوضع قصد تنفيذ مخطط الإبادة.
غير أن فرنسا الاستعمارية اعترفت باستحالة ذلك، نظرا لمواجهة الشعب الجزائري لها بداية من المقاومات الشعبية المستميتة، مؤكدا أنه لا يمكن لأحد تحديد الرقم الدقيق لنتائج الجرائم الفرنسية في الجزائر خلال 130 سنة من الإستدمار، بشكل يورط فرنسا الاستعمارية وقادة حربها ضد الجزائر في جرائم ضد الإنسانية، فلت أغلبهم من العقاب، لكنهم مُنّيوا بفشل ذريع في تحويل الجزائر إلى مستعمرة فرنسية أو امتداد للأراضي الفرنسية.
هذا الفشل الذي قال عنه المؤرخ حجايل «بدأ عند الملك تشارلز العاشر، راعي العدوان على الجزائر في عام 1830، وانتهى عند خليفته شارل ديغول الذي اعترف ضمنيا بفشل فرنسا الاستعمارية في ترويض الشعب، وإذلاله وإخضاعه لسلطتها رغم الجرائم التي ارتكبت ضده طيلة 130 سنة.
وذكر حجايل أنواع الجرائم المرتكبة ضدّ الشعب الجزائري الأعزل بطريقة باردة ومدروسة تتناسب مع غياب أي شعور بشري في مرتكبيها، وهي تتراوح بين أنواع الإعدام بإجراءات موجزة أو عن طريق التعذيب والتنكيل يضاف لها ذاك العدد الهائل من السجون ومراكز التعذيب والمحتشدات التي ما تزال قائمة تروي قصص وأحداث ذكر التاريخ بعضها، وعلى سبيل رفع الحجاب عن الوجه الحقيقي للاستعمار الفرنسي للجزائر من خلال جرائم الحرب التي استمرت حتى بعد قرار وقف إطلاق النار، منها إعدام الأطفال بهدف القضاء على النسل الجزائري.
فالحرب الفرنسية ضد الشعب الجزائري لم تكن حرب بين جيشين، بل كانت حرب إبادة بكل المقاييس بقسوة وبربرية، تراوحت أشكالها وأنواعها بين 10 طرق، أبرزها الإبادة بالغارات المنفذة على القبائل والتجمعات السكنية، القصف، الحرق، التعذيب والإعدام بإجراءات موجزة كالشنق والمقصلة والألغام المضادة للأفراد، الاختطاف والتنكيل من طرف الميليشيات المدنية، الإبادة الجماعية باستعمال الغاز والدخان، القذف جوا والقصف الجوي للجبال وكل مكان يشتبه في أن يرابط فيه السكان الموالين لجيش التحرير، بالإضافة إلى الجبن والبربرية في تشريف المستوطنين أو العساكر الذين قاموا بأعمال إرهابية وإجرامية ضد العزل.
ولفت الأستاذ في حديث لـ»الشعب»، أن العنف الذي مورس على الجزائريين وصمة عار لا تمحى من على جبين فرنسا الاستعمارية، مازال الفرنسيون أنفسهم يشهدون له في كتاباتهم وتوثيقاتهم، منها تلك التي أشارت إلى طريقة القتل «جمبري بيجار» نسبة لمخترعها العقيد الفرنسي Bigeard، وكانت تقنية الأكثر إثارة والأكثر وحشية من عمليات الإعدام التي كانت تتم بعد استدعاء ضحاياها من المقاومين وتنصب أقدامهم في قوالب إسمنتية، ثم تلقى جوا من الطائرة في البحر الأبيض المتوسط.
يقول حجايل إن الحرص على التذكير ببطولات المجاهدين والشهداء وأمجاد الثورة المباركة لا يمكن بأي شكل أن ينسينا في جرائم فرنسا ضد الإنسانية، مشيرا في حديثه، أنه لابد من التذكير بهذه الجرائم والتعريف بها دون إهمال لذكر نتائجها وأثارا أو تغاضي عن ما خلفته من معاناة بين الجزائريين داخل وخارج الوطن، مردفا أن رسالة نوفمبر الخالدة لا تتوقف عند نيل الإستقلال أو مواصلة مسيرة البناء والتشييد الشاقة، بل هي رسالة عميقة لا بد أن تستكمل بالحفاظ عليها وتحميل عبئها للأجيال القادمة.