نضالنـا كـان في إطار تحريــر شعوب المغـرب العربـي
الإيمان بعدالة القضية يقتل الخوف ويقهر الأعداء.
«الشعب الذي يتمادى في نسيان لغته الأصلية هو شعب محكوم عليه بالفناء»، كانت هذه آخر كلمات المرحوم والمجاهد محمد كشود، المدعو سي مراد، لدى زيارته للجريدة في أوت 2019، تزامنا مع ذكرى الإحتفال باليوم الوطني للمجاهد. ترك الرّاحل رسائل كثيرة لشباب اليوم، متأسّفا عن عدم تسجيل ضحايا هجومات الشمال القسنطيني من المدنيين في خانة الشهداء. وترك الفقيد مذكرات تروي نضاله في مدينة قسنطينة بعنوان «شموع الذّاكرة».
نشأ المجاهد المرحوم محمد كشود في بيئة صعبة زمن الاستعمار الاستيطاني، وكانت السلطات الفرنسية تنفي كل مخالف لقوانينها المجحفة، فصار النفي نهاية من ترى فيهم خطرا على المستوطنين.
فكّكت فرنسا الإستعمارية أسرا كبيرة تخشى التفاف أتباعها حولها، ومن بين من مسّهم هذه التهجير عائلة كشود التي تنحدر من قبيلة أولاد علي المنتشرة بمثلث الميلية ولقرارم وميلة بدائرة الميلية ولاية جيجل.
ولد الفقيد في 22 أوت 1938، وترعرع في مدينة قسنطينة وسط عائلة تتكون من سبعة أبناء، ثلاث ذكور توفي أحدهم، وأربعة بنات، وكان هو أكبر إخوته.
كان محل تجارة والده مركزا لقدماء مناضلي الحركة الوطنية،
قضى طفولته في حي عوينة الفول القديمة بقسنطينة، رفقة جاره وصديقه الشهيد حملاوي، وكان الحي مشتلة للنضال والمناضلين عند أبناء المدينة.
تابع دروسه بمدرسة التربية والتعليم قبل الإنتقال إلى معهد ابن باديس، هذه الأخيرة كانت بالمرصاد للمدرسة الإستعمارية التي تحاول تشويه هويّتنا العربية الإسلامية.
كانت عوينة الفول مراكز اجتماعات الفدائيين قبل وبعد الحرب العالمية الثانية، عرفت مناضلين نشطين في المنظمة الخاصة من أمثال عبد الحفيظ بوصوف، عبد الله بن طبال، بشير شيحاني، محمد مشاطي، عبد الله قايدي، مسعود بوجري، عبد الحميد كغوش، علي زعموش وغيرهم.
انضمّ إلى الثورة في الوقت الذي كانت القيادات في حاجة لشباب متعلّم يضم تسيير هياكل الثورة الإدارية وتنشيط الأعمال الفدائية بالمدن، كرّس حياته للنضال وسُجن ولم يكن يبلغ سن الرشد، ثم رئيسا لبلدية التلاغمة وعمره لا يتجاوز 23 سنة وضابطا بالولاية التاريخية الثانية،.
وبحسب شهادة المرحوم المجاهد، اتّفق قادة الثورة على أن يكون تاريخ 20 أوت 1955 رديفا لأول نوفمبر 1954 ومنقذا للثورة من محاولات إطفاء شمعتها، مستشهدا بما قاله مالك بن نبي: «إن كان لنا كجزائريين أول نوفمبر هو يوم الانطلاقة فالنسبة لفرنسا يوم 20 أوت هو إعلان الحرب عليها»، والمؤرخ الفرنسي ايف كوريال: «هجوم 20 أوت هو الذي فصل نهائيا بين الشعبين الجزائري والفرنسي»، وتقول العالمة الاجتماعية جيرمين تيون: «بعد هجوم 20 أوت 1955 أصبحت أغنية الجزائر فرنسية من الماضي».
ويضيف كشود أنّ «اختيار الساعة منتصف النهار رسالة مشفّرة لفرنسا، لما أعلنت الثورة في الفاتح نوفمبر ليلا فذلك يعود لضعفنا وكُنّا نقتسم الليل مع العدو، أما اليوم فها نحن نتحدّاكم ونعلن هجومات 20 أوت 1955 على الساعة 12.00 نهارا فنكون قد انتزعنا من العدو نصف النهار لحماية نفسه».
ونقل كشود ما سمعه عن عمار بن عودة، أحد نواب زيغود: «وافقنا من حيث المبدأ على مخطّط زيغود، لكن اختلفنا معه في ثلاثة أشياء، أولهما الهجوم في منتصف النهار وإختيار ثمانية أيام ونحن ليست لنا إمكانيات، ثانيهما مشاركة الشعب بسلاح بدائي واعتبرنا ذلك بمثابة إنتحار، لكن الشهيد بحنكته استطاع إقناعهم». وأشار إلى أنّ الهجوم كان له صدى على المستويين الداخلي والخارجي، ولم يكن ببعيد انعقاد مؤتمر باندونغ من 18 إلى 19 أفريل 1955، وكان لابد من تسجيل القضية الجزائرية في جمعية الأمم المتحدة، وداخليا تحريك المناطق الأخرى التي تمادت في إعادة تنظيماتها السياسية أكثر بالمناطق الثالثة، الرابعة والخامسة، مع فك الحصار عن الولاية الأولى. وعمت الثورة في مختلف المناطق.
ونبّه كشود إلى نقطة يتغافل عنها كثيرون، وهي أن «نضال قادة الثورة كان دائما في إطار تحرير شمال إفريقيا، أي بلدان المغرب العربي الكبير، وهذا كان من بين أهداف هجومات الشمال القسنطيني، وهي التضامن مع نفي الملك المغربي محمد الخامس إلى جزيرة مدغشقر في 20 أوت 1953، حيث كان المغاربة يتظاهرون في هذا التاريخ».
العمل الفدائي بمدينة قسنطينة
كان المجاهد كشود يتجول رفقة صديقه حملاوي، ثم أرادا مشاهدة فيلم جديد في سينما «نيناز»، وبالصدفة كانا أمام مدخل جسر سيدي راشد الذي كانت به فرقة من الجنود الفرنسيين مرابطة بمركز محصن، وفجأة شاهدا تلك الفرقة توجه رشاشاتها الثقيلة 24/29 نحو السويقة الأهلة بالمارة، ويطلقون النيران عشوائيا في منظر فظيع، خاصة بعدما انتشر خبر هجومات الشمال القسنطيني في مدن وقرى، تبتدئ حدودها من سوق الإثنين إلى سوق أهراس، ونفذ الهجوم في 39 نقطة محددة، إضافة إلى المنعطفات والأماكن الإستيراتيجية التي يمكن أن تمر من خلالها التعزيزات العسكرية لفك الحصار عن هذه المدن.
وبحسبه، قدّرت الخسائر بين 12 و13 ألف شهيد. وفي هذه النقطة أشار المجاهد المرحوم إلى «خطأ» بعد الإستقلال هو عدم الإعتراف بهؤلاء الضحايا وتسجيلهم في قائمة الشهداء. وأضاف أن القيام بعمل نوعي بوسط مدينة حصينة مثل قسنطينة أمر صعب للغاية، بل يعد من المستحيلات خاصة عند مصالح أمن المدينة في ذلك الوقت، فالتخطيط لضرب هدف بمدينة تعج بالحركة وبها العديد من فرق القبعات الحمراء ورجال المظلات ورجال الصاعقة ورجال المهام الخاصة والأمن، إضافة إلى آلاف المعمّرين واليهود المسلّحين في معظمهم والموزعين على أحياء المدينة التي تتوفر على ثكنات وإدارة محمية ومراكز الجندرمة، والأخطر من هذا وجود عدد كبير من العيون التي تراقب كل حركة تمس راحة المعمّرين، خاصة وأنّ عامل عمالة قسنطينة ديبيش أطلق في 23 جويلية 1955 مناورة أمنية، الغاية منها كيفية التدخل في حالة أمنية مستعجلة.
ويروي كشود أنّه بعد عودة القائد مسعود بوجريو من إجتماع عقد بجبل داود اجتمع مباشرة بالمسؤولين المحليين بشعبة الرصاص، وتدارسوا يومين وضع خطة التدخل الميداني المقترحة من الشهيد يوسف زيغود، أُسند هذا العمل إلى 500 من الفدائيين والعسكريين الذين يحفظون عن ظهر قلب أزقة المدينة وأحيائها، وبمساندة من المسبلين الذين عملوا كمرشدين.
في إطار الهجوم الكبير الذي خطّط له بقيادة المنطقة الثانية، حدث في ليلة 19 أوت 1955 تجمع بجبل الوحش، الذي أشرف عليه القائد زيغود يوسف بحضور قادة مدينة قسنطينة، ونظرا لصعوبة العمل الجماعي فقد كانت فرق الفدائيين مقسمة إلى أفواج صغيرة من ثلاثة فدائيين ورابعهم المرشد، وقسّمت مدينة قسنطينة إلى 8 أقسام عين عليها أفواج، وكلّف كل فوج بالعمل في أحد أقسامها أو بضاحية من ضواحيها.
بعد تشكيل الأفواج التي ستهاجم مدينة قسنطينة، والمشكلة من فدائيي المدينة وبعض المسبلين، إضافة إلى عدد من المجاهدين كشف عن النقاط المحددة للهجوم عليها في اجتماع ليلة الجمعة إلى السبت وكلف على رأس الأفواج:
الفوج الأول عبد الحميد قربوعة وكلّف بمحطة السكة الحديدية بضاحية القنطرة، الثاني علي زعموش وكلف بشارع المعروف bien fait وسط المدينة، الفوج الثالث مصطفى فيلالي وكلف بالعمل في شارع تيار والمنصورة، وكلّف الفوج الرابع لعكر محمد الصالح بالإشراف على فوج القنابل، في حين كلف الفوج الخامس قريس بلقاسم برفع الأعلام على المساجد.
أما الفوج السادس حسن بوجبير كلف بمهمة خاصة، والفوج السابع عمر العيفة بالإشراف على عوينة الفول ومسبح سيدي مسيد، والفوج الثامن عبد الحميد كغوش بمهمة خاصة، كما أسندت مهام مشابهة لمجموعات صغيرة من المسبلين المدنيين والفدائيين، بكل الأفواج للإشراف على العمل بالشوارع والساحات فحدّد الفوج المكلف برحبة الجمال، عدة نقاط في المحيط القريب منها فندق المخانق وبعض الحانات.
كان الفوج المكلف بالعمل بساحة الفطائر، قد وضع قنبلة بقاعة العسسس بالمقاطعة الثانية بقسم الشرطة، انفجرت على الساعة الثانية عشر إلا ربع تسبّب في انطلاق صفارة الإنذار ممّا غيّر معطيات الأفواج الأخرى، عين فوج يتفرّع أيضا إلى عدة مجموعات ثلاثية للقيام بعمليات مختلفة وكلف بعملية بوسط المدينة، حيث يرافق كل فوج دليل يعرف مداخل ومخارج المدينة يمدهم بالمعلومات الضرورية لكشف تحركات القوات الأمنية والعسكرية، بينما قام الفريق المكلف بالعمل في شارع جورج كليمانصو بقتل أحد العملاء وشرطي، كما قضى على أحد أعضاء المجلس الجزائري.
كانت آخر محطة قبل إقتحام أسوار المدينة هي مركز مشتى الحميضة الذي بلغته أربع سيارات للفدائيين تحمل قنابل مختلفة، حسب شهادة كشود، مضيفا أن مهام الأفواج المكلفة بتنفيذ العمليات المختلفة تنحصر في مهاجمة تحصينات الجسور ودوائر الشرطة والثكنات العسكرية وضباط الإستعمار، ووضع المتفجرات والتصفية الجسدية للشخصيات الموالية للإدارة الإستعمارية.
ومن بين الأهداف هي دخول مؤسسة برنارد لبيع الأسلحة والذخائر واستولوا على ما بداخلها، وبهذا تمكّنوا من تسليح عدد من المنخرطين الذين إلتحقوا بصفوف الثورة بأسلحة متطورة وجديدة منها المسدسات التي يحتاجها الفدائيون للعمل بالمدينة، حيث استمرت معركة المدينة أربع ساعات خلفت حالة من الإستنفار والذعر في أوساط المستوطنين الأوربيين والخونة.
ويؤكّد المجاهد أنّ هجوم 20 أوت 1955 فتح أبواب الإنخراط بشروط أكثر صرامة، لتفادي أي إختراق لصفوف الثورة، فكان تنفيذ عملية فدائية أول بند للإلتحاق بصفوف الجبهة، وكان هو من بين هذه الدفعات لإعادة تنظيم الخلايا الفدائية بقسنطينة بعد فك الخلية الأولى التي كان يرأسها عواطي وزعموش علي، لاسيما خلية عوينة الفول التي تعرضت إلى التفكيك سواء بسبب إلتحاق معظمها بالجبال أوبإلقاء القبض على أفرادها وعلى رأسهم زعموش علي وعبد الله بوحصان ورغيوة عبد الحميد.
ويصف كشود إنخراطه في صفوف جيش التحرير الوطني بأنه شرف، خاصة وأنه كان متلهّفا للمشاركة في الثورة ككل الشباب الجزائري آنذاك، ولم يعترض على أي شرط من شروط الإلتحاق، مضيفا أن الإيمان بعدالة القضية يقتل الخوف ويقهر الأعداء.
وآخر رسالة للمجاهد المرحوم كشود لشباب اليوم هو الحفاظ على الجزائر، ورفع شعار العلم والمعرفة لبناء الجزائر الجديدة.