طباعة هذه الصفحة

الباحـث في الطاقات المتجددة الدكتور عيسـى مفلاح لـ “الشعـب”:

الهيدروجـين الأخضـر.. مفتــاح تعزيــز الأمن الطاقوي

خالدة بن تركي

خيار استراتيجي يجعل البلاد لاعبا محوريا في سوق الطاقة العالمية

الجزائر قادرة على تشغيل محطات التحليل الكهربائي بكفاءة عالية

يشهد العالم منذ سنوات، تحولات جذرية في مجال الطاقة، خاصة بعد الأزمة الروسية- الأوكرانية التي دفعت أسعار الغاز في أوروبا إلى مستويات قياسية غير مسبوقة. وفي المقابل، انخفضت تكلفة إنتاج الكهرباء من مصادر متجددة كالشمس والرياح بشكل ملحوظ، لتترسخ مكانتها كخيار أرخص وأكثر أماناً لمستقبل الطاقة. وفي خضم هذا التحول، يبرز الهيدروجين الأخضر كأحد أبرز الحلول الواعدة لتخزين الطاقة وتقليص الانبعاثات الكربونية، فضلاً عن كونه أداة استراتيجية لتنويع اقتصادات الدول المعتمدة على النفط والغاز، مثلما يؤكد الباحث في الطاقات المتجددة الدكتور مفلاح عيسى لـ “الشعب”.

واقع جديد يجعل من التحول نحو الطاقات النظيفة خياراً استراتيجياً لا مجرد بديل ثانوي، إذ يتجه العالم بخطوات متسارعة نحو تقليص الاعتماد على الوقود الأحفوري، والبحث عن مصادر أكثر استدامة وأقل ضرراً على البيئة. وفي هذا الإطار، يبرز الهيدروجين الأخضر كورقة رابحة للدول الغنية بالشمس والرياح مثل الجزائر، حيث يمنحها فرصة للتأقلم مع التحولات العالمية، ويفتح أمامها آفاقاً اقتصادية جديدة وواعدة.
في هذا الصدد، يؤكد الباحث في الطاقات المتجددة الدكتور مفلاح عيسى في تصريح لـ«الشعب”، أن العالم اليوم أصبح يبحث عن بدائل أنظف وأكثر استدامة لمصادر الطاقة التقليدية. في هذا السياق، يبرز الهيدروجين كخيار واعد، فبفضل خصائصه الفريدة يُنظر إليه اليوم كوقود المستقبل القادر على المساهمة في تقليل الانبعاثات ومواجهة التغير المناخي.
وأوضح في السياق نفسه، أن هذا الأخير عبارة عن غاز خفيف ونقي يمكن استخدامه كوقود، وينتج بعدة طرق تحمل أسماء ألوان مختلفة حسب مصدر الطاقة المستخدم؛ فالهيدروجين الرمادي مثلا يُنتَج من الغاز الطبيعي مع انبعاثات كربونية كبيرة، بينما الأزرق يُنتَج من الغاز مع التقاط جزء من هذه الانبعاثات، أما الهيدروجين الأخضر فهو أنقى الأنواع وأكثرها صداقة للبيئة، حيث يتم إنتاجه عبر عملية التحليل الكهربائي للماء باستخدام كهرباء مصدرها الطاقة الشمسية أو الرياح. هذه العملية تفصل الماء إلى هيدروجين وأوكسجين دون أي انبعاثات كربونية.
وأضاف أيضا، أن الهيدروجين الأخضر يتميز بعدة مزايا، فهو قابل للتخزين لفترات طويلة، ويمكن نقله واستخدامه في صناعات متنوعة، كما أن كثافة طاقته تعادل ثلاثة أضعاف البنزين لكل وحدة كتلة، وعند استخدامه لا ينتج عنه سوى بخار الماء، ما يجعله وقودا مثاليا للمساهمة في تحقيق الحياد الكربوني عالميا.

رافعــة للهيدروجـين الأخضـــر

وبالنسبة لإمكانات الجزائر من الشمس والرياح، قال الباحث في مجال الطاقة إن الجزائر تعد من بين الدول الأكثر تعرضا للشمس في العالم، إذ تستقبل أكثر من 3000 ساعة من الإشعاع الشمسي سنويا وتصل في بعض المناطق الصحراوية إلى 3900 ساعة. وتخطط البلاد لتوليد 15 ألف ميغاواط من الطاقات المتجددة بحلول 2035، بمعدل 1000 ميغاواط سنويا.
أما طاقة الرياح فهي ثروة صامتة، إذ تُقدَّر قدرتها النظرية بحوالي 7700 جيغاواط، وهي الأكبر في أفريقيا. هذه المعطيات تجعل الجزائر قادرة على تشغيل محطات التحليل الكهربائي بكفاءة عالية لإنتاج الهيدروجين الأخضر على نطاق واسع، مما يفتح المجال أمام تعزيز استقلالها الطاقوي وتصدير الفائض نحو الأسواق العالمية.
وفيما يتعلق بدور الهيدروجين الأخضر في تنويع الصادرات، أوضح الخبير أن الجزائر تعتمد بشكل كبير على صادرات النفط والغاز، لكن الاستهلاك الداخلي يرتفع بوتيرة سريعة، إذ يُتوقَّع أن يبلغ الطلب على الغاز 67 مليار متر مكعب بحلول 2028، مع نمو سنوي يتجاوز 5٪، وهو ما يقلص تدريجيا الفائض الموجه للتصدير.

مـورد جديــد لتنويــع الاقتصـــاد

يرى الخبير، أن الاستثمار في الهيدروجين الأخضر يمثل فرصة كبيرة للجزائر، لأنه سيمكنها من دخول أسواق جديدة في أوروبا وآسيا. فحسب خريطة الطريق الوطنية 2040، تهدف البلاد إلى تزويد أوروبا بنحو 10٪ من احتياجاتها من الهيدروجين، أي ما يقارب 30 إلى 40 تيراواط/ساعة سنويا.
هذا الحجم يمكن أن يدر إيرادات تناهز 10 ملايير دولار سنويا، وهو ما يعادل تقريبا نصف عائدات الجزائر من الغاز الطبيعي المسال في بعض السنوات. مثل هذا الرقم يعكس الإمكانات الكبيرة التي يمكن أن يوفرها قطاع الهيدروجين الأخضر إذا ما تم استغلاله بشكل منظم ومدروس، خاصة في ظل الطلب العالمي المتزايد على الطاقات النظيفة.
كما أن هذه الإيرادات قد تشكل موردا إضافيا يساهم في تخفيف الضغط على ميزانية الدولة، وتنويع مصادر الدخل بعيدا عن الاعتماد شبه الكلي على النفط والغاز، مما يمنح الاقتصاد الوطني مرونة أكبر أمام تقلبات الأسواق العالمية.
وأضاف الخبير، أن كل مشروع متجدد بقدرة 1000 ميغاواط يوفر ما يعادل 1.5 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي، أي ما يكفي لتغطية استهلاك ملايين المنازل الأوروبية لعدة أشهر. وبهذا الشكل، يمكن للجزائر أن تستفيد من الهيدروجين مرتين: الأولى داخليا عبر تحرير الغاز من محطات الكهرباء لتوجيهه إلى قطاعات أخرى، والثانية خارجيا عبر تصدير وقود نظيف يزداد الطلب عليه عالميا.

تحديــات الهيدروجـين الأخضـر

رغم الآفاق الواعدة، يظل إنتاج الهيدروجين الأخضر مليئا بالتحديات، إذ يتطلب استثمارات ضخمة في البنية التحتية والتكنولوجيا الحديثة، إضافة إلى الحاجة لتطوير شبكات نقل وتخزين قادرة على استيعاب هذا النوع الجديد من الطاقة. كما أن تكلفة الإنتاج لاتزال مرتفعة مقارنة بالطاقات التقليدية، وهو ما يفرض على الدول البحث عن شراكات دولية وتمويلات مبتكرة لتسريع الانتقال نحو هذا المجال الواعد.
من بين التحديات مسألة المياه، فإنتاج كيلوغرام واحد من الهيدروجين يحتاج إلى حوالي 9 لترات من الماء النقي. بالنسبة لمحطة بقدرة 1 جيغاواط، فهذا يعادل 200 متر مكعب في الساعة، وهو ما يستدعي حلولا عملية، مثل تحلية مياه البحر أو إعادة تدوير المياه الصناعية. في حين أن تكلفة سعر الكيلوغرام من الهيدروجين الأخضر تتراوح حاليا بين 4 و6 دولارات، بينما لا يتجاوز 1.5 دولار للهيدروجين الرمادي. ومع ذلك، فإن الهيدروجين الأخضر يصبح أكثر تنافسية بفضل الانخفاض المستمر في أسعار الكهرباء المتجددة، إذ يمكن بيعه بنحو 50 يورو للميغاواط/ساعة، وهو أقل من سعر الغاز الطبيعي الحالي في أوروبا.
أما بخصوص البنية التحتية، أوضح الدكتور مفلاح عيسى أن نقل الهيدروجين النقي صعب وخطير، لكونه خفيفا وسهل الاشتعال، لذلك يحوَّل عادة إلى مشتقات مثل الأمونيا أو الميثانول أو “الميتانول الصناعي”.
الأمونيا، على سبيل المثال، تحتوي على 18٪ هيدروجين من حيث الوزن، ويمكن نقلها بسهولة عبر السفن والأنابيب القائمة، وهي أقل عرضة للاشتعال.
هناك أيضا –يقول المتحدث– تحديات مرتبطة بضرورة تطوير المحلّلات الكهربائية لخفض أسعارها وزيادة كفاءتها، وتكوين يد عاملة متخصصة قادرة على تشغيل وصيانة هذه التقنيات. التمويل يمثل عائقا آخر، إذ أن بناء صناعة هيدروجين كاملة يتطلب استثمارات بمليارات الدولارات، ما يستلزم شراكات دولية واسعة النطاق.

مركز إقليمــي للهيدروجين

وعرج الباحث في مجال الطاقة على موقع الجزائر كمركز إقليمي للطاقة النظيفة، حيث أوضح أن موقعها الاستراتيجي على بعد أقل من 300 كلم من السواحل الأوروبية يمنحها ميزة تنافسية فريدة، فهي تمتلك أنابيب غاز قائمة يمكن تكييفها لنقل الهيدروجين أو مشتقاته.
مشروع “الممر الجنوبي للهيدروجين” يعد أحد أبرز المشاريع قيد الدراسة، حيث سيربط الجزائر عبر تونس بإيطاليا ثم النمسا وألمانيا بطاقة استيراد قد تتجاوز 4 ملايين طن سنويا بحلول 2030.
إلى جانب ذلك، تدرس الجزائر إعادة تشغيل أنبوب “غالسي”، ليتحول إلى ناقل للهيدروجين بطاقة 2.5 مليون طن سنويا، وهو ما يمكن أن يغطي نحو ربع احتياجات أوروبا من هذا الوقود الجديد. هذه المشاريع تجعل الجزائر ليست فقط مزودا للغاز، بل أيضا شريكا محوريا في مستقبل الطاقة الأوروبية.
أما على المستوى الإقليمي، يمكن للجزائر أن تكون حلقة وصل بين أفريقيا وأوروبا من خلال ربط مشاريع الغاز والهيدروجين القادمة من نيجيريا ودول غرب أفريقيا بشبكاتها وموانئها. فموقعها القريب من أوروبا وخبرتها في مجال الطاقة يسمحان لها بأن تصبح معبرا رئيسيا لنقل هذه الموارد. هذا الدور لا يعني فقط تصدير الطاقة، بل يفتح أيضا فرصا للتعاون مع دول الجوار الأفريقي، مما يساعد على تنمية المنطقة ويعزز مكانة الجزائر كمركز مهم للطاقة النظيفة.

تعـدد الاستخــدامــات

أما بالنسبة للاستخدامات والتطبيقات، فقال الباحث في الطاقات المتجددة، إن استخدامات الهيدروجين الأخضر واسعة ومتنوعة، فهو لا يقتصر فقط على توليد الكهرباء. ففي الصناعة الثقيلة، مثل صناعة الفولاذ، يمكن أن يقلل الانبعاثات بنسبة كبيرة قد تصل إلى 90٪، كما يستخدم أيضا في صناعة الأسمدة والمواد الكيماوية.
وفي مجال النقل، يمكن أن يكون وقودا نظيفا للسفن عبر تحويله إلى أمونيا سائلة، كما يستعمل لتشغيل السيارات والشاحنات والحافلات المزودة بخلايا وقود هيدروجينية، بل وحتى الطائرات بعيدة المدى قد تعتمد عليه في المستقبل.
وأضاف أيضا، أن للهيدروجين دورا مهما في الكهرباء، حيث يساعد في تخزين الطاقة من الشمس والرياح ليستخدم لاحقا عند زيادة الطلب أو انقطاع الإمدادات. كما يمكن أن يصل إلى المنازل، إذ يُمزَج مع الغاز الطبيعي بنسبة تصل إلى 20٪ ويستخدم في التدفئة والطبخ دون الحاجة إلى تغييرات كبيرة في الشبكات الحالية.
وأكد الباحث أن هذه الاستخدامات تجعله “وقودا مرنا” قادرا على خدمة مختلف القطاعات، من الصناعة الثقيلة إلى النقل وتخزين الطاقة، مما يفتح الباب أمام بناء اقتصاد جديد قائم على الهيدروجين. فبفضل تعدد مجالاته، يمكن أن يساهم في تقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري، وخلق فرص استثمارية وتشغيلية جديدة، إلى جانب دعمه للتحول نحو طاقة أنظف وأكثر استدامة.

نحـو مستقبـل طاقــوي مستـدام

يمثل الهيدروجين الأخضر بالنسبة للجزائر فرصة كبيرة تتجاوز كونه مجرد مشروع تقني، فهو خيار استراتيجي يمكن أن يغير مستقبل البلاد الاقتصادي، ويجعلها لاعبا مهمّا في سوق الطاقة العالمية.
تمتلك الجزائر إمكانات طبيعية هائلة بفضل شمسها الساطعة ورياحها القوية، إضافة إلى خبرتها الطويلة في مجال الطاقة، كما أن موقعها القريب من أوروبا يمنحها ميزة تنافسية لتصدير هذه الطاقة النظيفة.
وأوضح الخبير، أنه رغم كل هذه الموارد، فإنها لا تكفي لتحقيق النجاح. فحتى تستفيد البلاد منها، فهي تحتاج إلى استثمارات كبيرة، وإلى بيئة مشجعة تسمح بإنجاز المشاريع على أرض الواقع بدل بقائها مجرد حبر على ورق.
كما أن الأمر يتطلب تكوين كفاءات بشرية قادرة على تسيير هذه المشاريع الحديثة، والاستفادة من خبرات الدول الأخرى. وعندما تنتقل الجزائر بسرعة من مرحلة الدراسات إلى مرحلة التنفيذ، ستتمكن من بناء مكانة قوية كمصدر للطاقة النظيفة في المنطقة والعالم.
وعليه، فإن الهيدروجين الأخضر يمثل فرصة واعدة للجزائر لتعزيز تنويع اقتصادها وبناء مستقبل طاقوي مستدام. فرغم التحديات، فإن ما تملكه من موارد طبيعية وموقع استراتيجي يؤهلها لتكون مركزا إقليميا للطاقة النظيفة، وداعما رئيسيا للانتقال نحو اقتصاد صديق للبيئة.