يتّفق مختصّون ومراقبون للسوق الوطنية، أنّ الصناعة الغذائية في الجزائر، دخلت في السنوات الأخيرة، مرحلة إعادة هيكلة فعلية، دعمت بتسهيلات تشريعية واستثمارية غير مسبوقة، وقد ترجمت هذه الإصلاحات بتحقيق طفرة إنتاجية وتصديرية، بفضل تشجيع الإبتكار الغذائي، وبناء علامات تجارية قادرة على المنافسة خارجيا، فبرزت منتجات غذائية مصنّعة في الجزائر تحمل طابع الجودة والمنافسة وتمثل اليوم واجهة جديدة للجزائر في الأسواق الدولية.
اعتمدت الجزائر قبل 2020 بدرجة كبيرة على الاستيراد في تلبية حاجيات المواطنين من المنتجات الغذائية المصنّعة، على غرار العجائن الغذائية، المشروبات، البسكويت، الصلصات، حيث بلغت فاتورة استيراد هذه المواد قرابة 700 مليون دولار سنويا، غير أنّ السياسة الحكومية الجديدة المعتمدة على تشجيع الإنتاج المحلي وإحلال الواردات، مكّنت من تحقيق الاكتفاء الذاتي الكامل في هذه المنتجات، بل أكثر من ذلك انتقلت الجزائر في ظرف ثلاث سنوات فقط من الاستيراد إلى التصدير، حيث صدّرت ما قيمته 49 مليون دولار من هذه المنتجات سنة 2023، في حين سجّلت صادرات المنتجات الفلاحية والصناعات الغذائية الأخرى أعلى قيمة لها في نفس السنة، بـ397 مليون دولار، محقّقة نمو قدره 11 بالمائة مقارنة بالسنة السابقة، ما يمثل - حسب المختصين - تحوّلا استراتيجيا في مسار الصناعة الغذائية الوطنية، ويعكس هذا الأداء ديناميكية حقيقية في سلال الإنتاج الغذائي، واستجابة سريعة لمتطلبات السوق الداخلية والخارجية سواء من حيث الجودة أو الكمية.
وحسب أرقام وزارة الصناعة، تشكّل الصناعة الغذائية حوالي 45 بالمائة من القيمة المضافة الصناعية في الجزائر، وهي بذلك أكبر شعبة صناعية من حيث الحجم، كما ساهمت بقرابة 2.8 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي لسنة 2023، وتضم أكثر من 22 ألف مؤسّسة، منها ما يفوق 95 بالمائة مصنّفة كمؤسّسات صغيرة ومتوسّطة، توظف نحو 350 ألف عامل بشكل مباشر، إضافة إلى آلاف الوظائف غير المباشرة في سلسلة التوريد والنقل والتوزيع.
دعــم حكومـي ونجــاح مؤسّساتـي
يقف وراء هذه النتائج دعم الدولة للإنتاج الوطني، من خلال ترشيد الواردات وتسهيل دخول المنتجات الجزائرية للأسواق الدولية، حيث تبنّت الدولة، في الخمس سنوات الأخيرة، جملة من التسهيلات القانونية والضريبية والمؤسّساتية لدعم الصناعة الغذائية، أبرزها وضع إطار قانوني محفّز، عن طريق إصدار قانون الاستثمار الجديد الذي ينص على منح إعفاءات ضريبية لمدة 10 سنوات للمشاريع الاستراتيجية، وكذا منح تسهيلات في تحويل الأرباح للمستثمرين الأجانب، وإلغاء قاعدة 51/49 بالمائة بالنسبة للقطاعات غير الاستراتيجية، ممّا سمح بدخول شركاء أجانب للصناعات الغذائية، وقد أدى هذا الوضع إلى ظهور جيل جديد من المؤسّسات المحلية التي تحوّلت من الاستيراد إلى الإنتاج والتصدير.
كما ساعد إطلاق البوابة الرقمية للعقار الصناعي سنة 2023، في تقليص البيروقراطية، وضمان الشفافية في منح العقار للمشاريع الصناعية، خاصة في المناطق الفلاحية الكبرى مثل بسكرة، عين الدفلى، ومعسكر، وساهم الدعم المالي والتسهيلات البنكية في إعادة تفعيل آلية التمويل التشاركي البنكي لمشاريع تحويل المنتجات الفلاحية، ناهيك عن دعم القروض بدون فوائد للمؤسّسات الناشئة في الصناعات الغذائية من خلال صندوق دعم المؤسّسات الصغيرة.سمحت آليات الدعم المقدمة، والتحفيزات الممنوحة للمتعاملين الاقتصاديّين، في تسجيل أكثر من 580 مشروعا استثماريا في مجال الصناعات الغذائية بين 2020 و2024، منها 120 مشروعا دخل حيّز الإنتاج، و75 مشروعا بشراكة أجنبية فرنسية، تركية، إيطالية، تونسية، قطرية، سعودية، وبلغ إجمالي الاستثمارات في هذا القطاع ما يفوق 250 مليار دينار جزائري خلال الفترة نفسها.
اخـــتراق الأسـواق الخارجيـة
نجحت العديد من الشركات الجزائرية في تثبيت موطئ قدم لها في الأسواق الإفريقية والعربية، وحتى الأوروبية، بفضل منتجات غذائية تتّسم بالجودة العالية والأسعار التنافسية، والإحترام المتزايد للمعايير الدولية. ومن أبرز القطاعات التي سجّلت حضورا لافتا مشتقات الحبوب، التمور، زيت الزيتون، المعلّبات، الحلويات، والعجائن الغذائية، والتي توجّه بشكل أساسي نحو أسواق فرنسا، إيطاليا، كندا وبعض الدول الإفريقية.
وسمحت المشاركة في المعارض الدولية لبعض المؤسّسات الجزائرية، خاصة الخاصة منها، باختراق أسواق خارجية، كما يعود هذا النجاح إلى تطوير قدرات الإنتاج، وتحسين أساليب التعليب والتوضيب، وحرص عدد من المؤسّسات الوطنية على الحصول على شهادات المطابقة الدولية، ممّا سهّل دخولها إلى أسواق كانت إلى وقت قريب شبه مغلقة أمام المنتجات الجزائرية.