لقد غادر الرئيس الفرنسي، فرنسوا هولاند، الجزائر بعد أن خاض في مختلف ملفات الذاكرة والجانب الاقتصادي وبعض القضايا الإقليمية والدولية التي تهم الجزائر من بعيد أو من قريب، وقد أفصح الرجل الأول في الإليزيه عن جرأة وذكاء سياسي وواقعية ستفرز الكثير من التغيرات على المستوى القريب والمتوسط والبعيد والتي يجب أن نتأهب لها لنكون في المستوى خاصة في ظل التفاوت الكبير بين البلدين في التقدم الاقتصادي والرخاء الاجتماعي والثقافي وعليه فأي اختلالات مستقبلية ستجعل مسؤوليتنا كبيرة لأن التحولات الحالية لن تسمح بالمزيد من تضييع الوقت.
وعرف خليفة الرئيس نيكولا ساركوزي كيف يستميل عواطف الجزائريين تجاه قضايا الذاكرة من خلال تركيزه على معاناة الشعب الجزائري قبل استنكار سلوكات فرنسا الاستعمارية، لامتصاص رغبة الجزائريين في الاعتراف وإدانة وحشية الاستعمار حيث قال «اعترف بالمعاناة التي كبدها النظام الاستعماري الفرنسي للشعب الجزائري» حيث يكون قد وضع نفسه إلى جانب الجزائريين وانتقد الاستعمار بطريقة لا توحي بأنه فرنسي بينما كان الأمر سيكون أكثر تأثيرا لو انه انتقد النظام الاستعماري من باب أنه فرنسي دون الحديث عن الجزائريين وبالتالي يكون هولاند في خطابه أمام نواب البرلمان قد أرضى الكثير من الجزائريين ولم يغضب اليمين الفرنسي الذي يترصد حركاته وتصريحاته بدقة لمحاسبته على ما وعد به في الحملة الانتخابية وعدم المساس بالخطوط الحمراء غير المعلنة للسياسة الخارجية الفرنسية.
ونجح هولاند في تسيير الضغط الذي كان مفروضا عليه بخصوص ملف الذاكرة بعد الأمل الذي بعث به بالاعتراف بمجازر ١٧ أكتوبر ١٩٦١ حيث حاول تشبيه الفترة الاستعمارية بالعشرية الدموية التي عاشتها الجزائر وطلب مصالحة مع فرنسا مثلما فعله الجزائريون فيما بينهم وهي مقاربة جعلت الكثيرين يتساءلون عن هذا التشبيه، وذهب الرئيس الفرنسي بعيدا عندما قال «لقد خرجتم منتصرين في المعركة ضد الإرهاب، لكن لا أعتقد أنكم ستتوقفون هنا لأنكم تحاولون بناء مشروع للمستقبل» وهي العبارات التي حاول تمريرها بين السطور من خلال تلميحه للطبقة المثقفة من جامعة تلمسان بالعمل على تجاوز ملف الذاكرة لبناء مستقبل مشترك بالنظر لتأثير الطبقة المثقفة على المجتمع وقدرتها على التأثير في المجتمع.
وقد أكد المؤرخ الفرنسي، بن جامان سطورا، كلام هولاند وهو الذي يكون قد استشاره في كل كبيرة وصغيرة بالنظر لخبرة سطورا في تاريخ الجزائر وتأليفه الكثير من المؤلفات بخصوص تاريخ الجزائر، وتحدث سطورا عن اتجاهين في الجزائر واحد يكون قد استساغ بناء علاقات استراتيجية مع فرنسا من أجل المستقبل بينما مازال البعض يطالب الاعتراف بالجرائم والاعتذار كقاعدة لأي علاقات مستقبلية مع فرنسا، وبالتالي تكون فرنسا قد نجحت في تقسيم الرأي العام ومنه نقل الصراع بين الجزائر وفرنسا إلى صراع جزائري/جزائري حول التعامل مع العلاقات الفرنسية الجزائرية.
وفي نفس السياق، عمل هولاند على إثارة عواطف الشباب وخاصة الجامعيين الذين لم يحضروا لسنوات جمر الاستعمار مطالبا منهم مساعدته على حل ملف الذاكرة من خلال القبول باستثمارات فرنسية خالقة للثروة ومناصب العمل لتحقيق أمانيهم في الحياة وهو ما من شانه أن يحدث انقساما بين الأجيال في بلادنا حول النظرة إلى فرنسا وماضيها الاستعماري ولهذا فنتائج زيارة هولاند لبلادنا ستظهر نتائجها مستقبلا من خلال رجع صدى الجزائريين حول مختلف الملفات والاتفاقيات الموقعة.
واستثمر هولاند في أهم شيء يقلق الفرنسيين وهو تراجع اللغة الفرنسية واستعمالها أمام الهيمنة الأمريكية وطالب من الجزائريين إنقاذ ما يمكن إنقاذه من خلال الانخراط في مشروع ألمانيا ـ فرنسا ـ إفريقيا لوضع حد للسيطرة الثقافية الأمريكية وانتشار استعمال اللغة الانجليزية التي تحقق توغلا جديدا كل سنة وهو ما جعل الفرنسيين لا ينامون وجعلهم يخططون لإستراتيجية ثقافية وإعلامية لاسترجاع جزء كبير من الرأي العام العالمي والحفاظ على المكاسب ومناطق النفوذ الفرنسية التي تعتبر قاعدة خلفية لقوة فرنسا التي تراجعت بشكل رهيب.
ويبقى المفيد من زيارة هولاند لبلادنا هو قياس مدى تقدمنا في مختلف المجالات لمنح القوة اللازمة لمطالبنا وسياستنا ومواقفنا لأن الاختلال واضح كثيرا بين السياسة والاقتصاد والعلاقات الدولية تعترف بالقوة الاقتصادية والعسكرية لتبني المواقف والقرارات بينما تبقى المواقف السياسية.
بعد زيارة هولاند للجزائر
الرسـائل الخفية ..
بوغرارة حكيم
شوهد:400 مرة