المنتـوج الوطني يفـرض نفسـه ضمــن سلاسـل القيمـة العالميــة
حوّلت الجزائر تنظيمها للطبعة الرابعة من معرض التجارة البينية الإفريقية إلى حدث استثنائي تجاوز حدود التظاهرات الاقتصادية العادية، ليشكل محطة مركزية في مسار بناء شراكات قارية متوازنة ومرنة ومربحة، ويجدد عزيمة القارة في المضي قدما نحو تعاون نموذجي، وتبادل أمثل يفتح الآفاق أمام مستقبل اقتصادي واعد.
أثبتت الجزائر، مرة أخرى، أنها مركز محوري للتجارة القارية، بعد أن نجحت في رفع سقف التعاون الإفريقي إلى مستويات غير مسبوقة، تجسدت في صفقات قياسية ينتظر أن تمهد لنهضة تنموية شاملة.
على امتداد أسبوع كامل، تحولت الجزائر إلى قبلة لرجال الأعمال والخبراء وصناع القرار الأفارقة، حيث اجتمعوا لاكتشاف فرص الاستثمار والتجارة داخل القارة نفسها، في وقت يزداد فيه الوعي الجماعي بأن مستقبل إفريقيا لن يُبنى إلا بقدراتها الذاتية، وبإرادة قادتها في تجاوز التحديات المشتركة.
لقد كان المعرض مناسبة لتقريب الفرص من أصحابها، وفتح نقاشات مفتوحة تابعها الإعلام الإفريقي والعالمي باهتمام بالغ، وهو ما جعل الطبعة الجزائرية تُصنّف كواحدة من أكثر المحطات نجاحا وربحية في مسيرة المعرض منذ انطلاقه.
قناعة متجددة بفرص القارة
ما ميّز هذه الطبعة بالجزائر، هو الإدراك المتزايد لدى الشركات الإفريقية بأن الأسواق القريبة أوفر فرصا وأقل تكلفة مقارنة بالأسواق البعيدة. فقد شكّلت التظاهرة لحظة وعي جماعي بضرورة تجاوز النسبة الضئيلة للتجارة البينية الإفريقية، التي لا تتجاوز 15٪، والعمل على رفعها عبر شراكات واقعية ومشاريع مشتركة. ولعل أبرز ما ظهر خلال الجلسات والنقاشات، هو قناعة القادة وممثلي الوفود، بأن إفريقيا تملك كل مقومات النهوض، بدءاً من الموارد الطبيعية الضخمة، وصولا إلى الطاقات البشرية الشابة، وما ينقصها سوى استغلال الفرص المتاحة بحكمة ورؤية طويلة المدى.
في هذا السياق، برزت الجزائر كقدوة حقيقية، بفضل تجربتها في تطوير قطاعات الفلاحة، الصناعة التحويلية، الطاقة والبنى التحتية، وهي مجالات لفتت انتباه المشاركين الذين حرصوا على الاستفادة من التجارب الجزائرية، ومن تجارب بلدان مثل جنوب إفريقيا ونيجيريا ومصر، التي تشهد بدورها حركية اقتصادية متسارعة.
نجاح تنظيمي وأرقام قياسية
المعرض في طبعته الجزائرية عكس نجاحا على عدة أصعدة. فمن حيث التنظيم، سجّل حضور 14 رئيس دولة، إلى جانب مشاركة أغلب الدول الإفريقية، وحضور 21 دولة من خارج القارة. كما استقطب ما لا يقل عن 11 قطاعا حيويا، ضمّت مستثمرين، منتجين ومورّدين، ما جعل هذه الطبعة الأكثر كثافة من حيث المشاركين والنوعية في تاريخ المعرض.
كما عرف المعرض تغطية إعلامية واسعة، خاصة من القنوات والصحف الإفريقية، التي تابعت عن كثب حجم العقود المبرمة، والتي تجاوزت سقف 48 مليار دولار، وهو رقم قياسي بالمقارنة مع الطبعات السابقة. وقد ارتفعت الطموحات بشكل لافت منذ حفل الافتتاح، الذي حضره كبار القادة الأفارقة، حيث رُفعت الأهداف إلى مستويات لم تكن مألوفة في التظاهرات السابقة.إلى جانب ذلك، شكلت القمة المصغرة لوكالات ترقية الاستثمار لحظة فارقة، حيث تدارست آليات جذب الاستثمارات بشكل أكثر نجاعة، بما يضمن تدفقها داخل القارة، بدلا من تسربها إلى الخارج. وفي خطوة غير مسبوقة، أُعلن عن إطلاق صندوق لتمويل المؤسسات الناشئة والمشاريع الشبابية المبتكرة، ما يعكس وعيا بضرورة تشجيع المقاولاتية وتوفير مصادر تمويل مستمرة لرواد الأعمال الأفارقة.
استثمارات ضخمة وصفقات نوعية
على صعيد العقود، تمكنت الجزائر من تسجيل حضور قوي، حيث وقعت اتفاقيات بارزة سيكون لها أثر مباشر على التنمية في عدة بلدان إفريقية. من بين أبرز هذه الاتفاقيات، توقيع مجمع سوناطراك اتفاقا مع المؤسسة الوطنية الكينية للنفط لإنجاز مشاريع مشتركة في مجالات الاستكشاف والإنتاج، بهدف تزويد السوق الكينية بغاز البترول المسال والمنتجات البترولية.
وفي قطاع الصناعات الكهربائية، أبرم المجمع الصناعي الجزائري “جي.إي.إس. بي إلكتريك” اتفاقا بقيمة 480 مليون دولار مع مجمع “سوجوليكس”، لتزويد أسواق غرب إفريقيا بمعدات كهربائية جزائرية، مع التزام بتصدير معدات تفوق قيمتها 300 مليون دولار على مدار ثلاث سنوات. إضافة إلى ذلك، أعلن المجمع نيته إطلاق استثمارات بقيمة 2.5 مليار دولار في الجزائر، لإنشاء قاعدة صناعية تشمل قطاعات الطاقة المتجددة والصناعات الكهربائية.أما الشركة الجزائرية القطرية للصلب، فقد نجحت في توقيع أربعة عقود تصدير بقيمة 420 مليون دولار، بالإضافة إلى ثماني اتفاقيات أولية بقيمة 950 مليون دولار لإقامة استثمارات في مجالات صناعة قطع الغيار والهياكل المعدنية وهياكل الشاحنات. هذه العقود مجتمعة تعكس حجم الطلب الكبير على المنتجات الجزائرية، وتؤكد قدرتها على اختراق أسواق إفريقية واسعة.
حصة الجزائر: 11.4 مليار دولار
الأرقام النهائية كشفت أن الجزائر افتكت حصة معتبرة من إجمالي العقود المبرمة، بلغت 11.4 مليار دولار، أي ما يعادل 23,6٪ من مجموع الصفقات. هذه النسبة تعكس ليس فقط قوة العرض الجزائري وتنوعه، بل أيضا مدى جاهزية المؤسسات الوطنية للانخراط في السوق القارية بثقة وتنافسية عالية.
القطاعات التي تميزت الجزائر فيها، شملت الصناعات الميكانيكية، الإلكترونية، الصيدلانية، الغذائية، الحديد والصلب، الطاقة والطاقات المتجددة والفلاحة. وهي مجالات تؤكد أن المنتوج الجزائري تجاوز حدود السوق المحلية، وبدأ يفرض نفسه ضمن سلاسل القيمة العالمية.
نحو قارة مندمجة ومزدهرة
الطبعة الرابعة لم تكن مجرد تظاهرة اقتصادية، بل كانت محطة سياسية بامتياز. فقد أجمع القادة الأفارقة، الذين حضروا المعرض بوفود رسمية وازنة، على ضرورة السير نحو التكامل القاري، وإقامة شراكات حقيقية تحقق التنمية المستدامة.
وأبرز رئيس المجلس الاستشاري للمعرض، أن النجاح الذي تحقق في الجزائر ارتقى إلى مستوى الامتياز، وأن اللحظة التاريخية التي عاشتها القارة خلال هذه الأيام تستوجب البناء عليها لمستقبل أكثر إشراقا.
هذا الإجماع عكس رغبة إفريقية مشتركة في تجاوز التجزئة، والسير بخطوات ثابتة نحو قارة موحدة ومزدهرة. وقد ساهمت الجزائر في تجسيد هذه الرؤية من خلال تطوير بنيتها التحتية، تحسين مناخ الأعمال وإطلاق إصلاحات تشريعية شجعت على الاستثمار، وهو ما منحها مكانة مؤثرة في القارة.
الشباب والاقتصاد الثقافي
من بين النقاط اللافتة في المعرض، الحضور القوي للشباب، الذي استفاد من منصات خاصة للتواصل مع المستثمرين وعرض ابتكاراته. هذا الحضور لم يكن رمزيا، بل كان فعليا من خلال توفير فرص تمويل وتوجيه، بما يساهم في بروز جيل جديد من رواد الأعمال.
كما أُعطي اهتمام خاص للاقتصاد الثقافي، باعتباره قطاعا واعدا يمكن أن يساهم في خلق الثروة ومناصب العمل، ويعزز صورة إفريقيا كقارة مبدعة وغنية بتراثها وطاقاتها الإبداعية. هذه الإضافة جعلت من المعرض أكثر شمولية، حيث لم يقتصر على القطاعات التقليدية، بل فتح المجال أمام قطاعات جديدة تدعم التنمية.
تجسيد طموحات “زليكاف”
في النهاية، برز المعرض كمنصة لتجسيد أهداف منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية “زليكاف”، حيث تُرجمت المحادثات إلى عقود فعلية وشراكات ملموسة.لقد كان التنظيم الجزائري فرصة لإبراز دور البلاد كقاطرة للتكامل الإفريقي، خاصة من خلال الدفع نحو توسيع التجارة البينية وتفعيل الصادرات وربط القارة بسوق موحدة وقوية.
إن ما تحقق في الجزائر خلال هذه الطبعة، ليس مجرد أرقام وعقود، بل هو خطوة استراتيجية نحو بناء اقتصاد قاري متكامل، يستند إلى رؤية مشتركة وإرادة سياسية واقتصادية متينة. وبقدر ما شكلت هذه الطبعة منصة تجارية، فإنها كانت أيضا رسالة سياسية قوية، مضمونها أن إفريقيا قادرة على رسم مستقبلها بيدها، وأن الجزائر تضع نفسها في صدارة هذا المسار.
بهذا يمكن القول إن الطبعة الجزائرية لمعرض التجارة البينية الإفريقية، ستبقى محطة فارقة في مسار القارة، ليس فقط لأنها حطمت أرقاما قياسية، ولكن لأنها جددت الأمل في بناء قارة مندمجة، قوية ومزدهرة.
الجزائر لم تستضف مجرد معرض، بل أطلقت ديناميكية جديدة ستبقى آثارها ممتدة لسنوات قادمة.