طباعة هذه الصفحة

بين نصرة القضايا العادلة وتجسيد مبادئها الخالدة

جزائر الأحرار.. دبلوماسية الثوابت والمواقف المشرفة

علي مجالدي

دعم أزلي لحركات التحرر.. ولا تراجع عن مساندة الشعــوب المضطهدة ومناهضة بقايــــا الاستعمـار


 في زمن تتقاذفه أمواج المصالح العابرة للحدود، وتختفي فيه أصوات الحق تحت ضجيج القوة، تظل الجزائر كصخرة شامخة في وجه تيار الإنكسار، حاملة راية المبدأ قبل المصلحة، والوفاء قبل التنازل.

 هي الجزائر التي لم تعرف الحياد أمام الظلم، ولم تساوم على حق الشعوب في الحرية، فبقيت سياستها الخارجية امتدادًا لروح نوفمبر التي جعلت من التضامن مع قضايا التحرّر عقيدةً لا تقبل التغيير. ومن هنا، جاء العدد الأخير من مجلّة الجيش ليجدّد التذكير بمكانة القضية الفلسطينية والقضية الصّحراوية في قلب الموقف الجزائري، وليعكس في طياته رؤية سياسية متجذّرة في التاريخ، ومتّجهة نحو المستقبل.
القضية الفلسطينية، التي تشكّل عنوانًا للصمود في وجه أعتى محاولات الإبادة والتهجير القسري، حضرت بقوة في صفحات المجلّة، ليس كملف سياسي عابر، بل كجرح مفتوح في الضمير الإنساني. المجلة عرضت صورًا وأرقامًا تكشف حجم الجرائم الممنهجة ضدّ الفلسطينيّين، حيث لم يعد الاحتلال يكتفي بمصادرة الأرض وبناء المستوطنات، بل اتجه نحو سياسة الأرض المحروقة عبر استهداف البنية التحتية، وقطع أشجار الزيتون التي تمثل رمز الانتماء والجذور. في سياق متصل، أبرزت المجلة كيف أنّ هذه الجرائم ليست أحداثًا معزولة، وإنما امتداد لخطة طويلة الأمد تستهدف اقتلاع الفلسطيني من أرضه، وهو ما يجعل التمسّك بالأرض خيارًا وجوديًا لا يحتمل المساومة.
كذلك، انتقلت المجلة إلى القضية الصّحراوية لتؤكّد أنّ مسارها هو الآخر يواجه أشكالًا متعدّدة من محاولات التهميش والطمس، بدءًا من عرقلة حق تقرير المصير وصولًا إلى محاولات فرض الأمر الواقع عبر الإحتلال المغربي. في نفس السياق، أوضحت المجلّة أنّ الجزائر لم تكتف بالدعم الخطابي، بل جعلت من القضية الصّحراوية بندًا دائمًا في تحرّكاتها الإقليمية والدولية، موظفة كل أدواتها الدبلوماسية والقانونية لتذكير العالم بأنّ الشرعية الدولية لا تُجزَّأ، وأنّ الاستفتاء الذي وعدت به الأمم المتحدة الشّعب الصّحراوي ليس منةً من أحد، بل حقّ أصيل لا يسقط بالتقادم.
علاوة على ذلك، ربطت المجلّة بين ما يتعرّض له الشعب الفلسطيني وما يعيشه الشعب الصّحراوي، في صورة مزدوجة لواقع الاحتلال وسياسة الإقصاء. كلا الشعبين يواجهان قوى تستند إلى منطق القوة بدل قوة المنطق، وكلاهما يجد في الجزائر نصيرًا ثابت الموقف، لا تغيّره الضغوط ولا تحرّفه المغريات. وهنا تتجلّى ملامح السياسة الخارجية الجزائرية التي تقوم على مبدأ دعم حركات التحرّر، وهو مبدأ وُلد من رحم الثورة الجزائرية التي استمدت شرعيّتها من رفض الاستعمار بكل أشكاله.التحليل الأعمق لمحتوى العدد الأخير يكشف أنّ المجلّة لم تكتف بسرد الوقائع، بل حاولت وضعها في إطارها الاستراتيجي الأوسع، فالجزائر ترى أنّ المساس بحق تقرير المصير، سواء في فلسطين أو الصّحراء الغربية، ليس قضية تخصّ شعبًا بعينه، بل هو تهديد لمبدأ دولي يُفترض أن يشكّل أساس النظام العالمي. ومن هذا المنطلق، فإنّ الدفاع عن هذه القضايا هو في الوقت نفسه دفاع عن استقرار النظام الدولي ومنع الإنزلاق نحو قانون الغاب.كذلك، يتّضح أنّ الجزائر تدرك الترابط بين البعدين الإنساني والسياسي في هذين الملفين. فهي تعتبر أنّ الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، سواء عبر الإبادة في غزة أو عبر التضييق المستمر على الصّحراويّين، ليست فقط جرائم موضعية، بل أدوات سياسية تهدف إلى كسر إرادة الشعوب. لذلك، فإنّ خطابها في المحافل الدولية يجمع بين لغة القانون الإنساني الدولي ولغة السياسة الواقعية، ساعيًا إلى خلق توافق دولي يعيد لهذه القضايا مركزيّتها.
في هذا الإطار، يأتي دعم الجزائر للقضيّتين كجزء من سياق أوسع يتضمّن التمسّك بمبادئ عدم الإنحياز، ورفض التدخّلات الخارجية التي تمسّ سيادة الدول، والعمل على بناء تحالفات إفريقية وعربية وأممية من أجل تعزيز صوت الشعوب في المحافل الدولية. وهذا التوجه لم يكن وليد ظرف طارئ، بل هو امتداد لخط دبلوماسي حافظت عليه الجزائر منذ استقلالها، عندما جعلت من الدفاع عن قضايا التحرّر شرطًا أخلاقيًا لسياساتها الخارجية.
وفي المحصلة، فإنّ العدد الأخير من مجلّة الجيش لم يكن مجرّد عرض إعلامي للمواقف الجزائرية، بل كان بمثابة بيان سياسي يعيد تثبيت البوصلة نحو المبادئ التي صاغت هوية الجزائر الدبلوماسية. وفي زمن تكثر فيه الحسابات الضيقة، تبقى الجزائر مثالًا للدولة التي تضع القيم في صدارة أولوياتها، مدركة أنّ نصرة المظلومين في فلسطين والصّحراء الغربية ليست مجرّد تضامن، بل هي دفاع عن ذاتها وعن تاريخها، وعن الحق الإنساني الذي لا يسقط بالتقادم.