طباعة هذه الصفحة

تنظيـم الاستيراد المصغّر للمقاول الذاتـي.. تحـوّل اقتصادي جوهري

تقنين تجارة “الكابة”.. تنظيم للسوق الموازية ونهاية “الطراباندو”

^ علــــي مجالـــدي

 ترشيـد المبـادرات الفرديـة وتحريرهـا نهائيـا مـن المنطقـة الرماديـــة

 موسـاوي لــ “الشّعـــب”: تعزيــز المنافســة وتوفــير خيارات بأسعـار مناسبـة للمستهلك

إدمـاج “الكابـة” فـي النشـاط الرسمـي مكسـب اجتماعي ومالــي

 في سياق البحث عن آليات جديدة لإدماج النشاطات غير الرسمية في النسيج الاقتصادي المنظم، وفي ظل التحوّلات العميقة التي تعرفها السوق الجزائرية، جاء المرسوم التنفيذي رقم 25/170 الصادر في العدد 40 من الجريدة الرسمية ليؤسس لأول مرة لإطار قانوني صريح ينظّم نشاط الإستيراد المصغّر من طرف المقاول الذاتي، باعتباره شكلاً من أشكال المبادرة الفردية التي طالما ظلت في المنطقة الرمادية، لاسيما تلك المرتبطة بما يُعرف في السوق باسم “الكابة”.

المقاربة المعتمدة في هذا النص لا تهدف فقط إلى تقنين ممارسات كانت تتم على هامش الاقتصاد الرسمي، بل تسعى إلى إعادة هيكلتها ضمن رؤية أشمل قوامها التنظيم بدل المنع، والإنخراط القانوني بدل الفوضى. ولعل ما يميّز هذا التنظيم هو الروح البراغماتية التي طُرح بها، حيث لم يُفرَض على المستورد المصغّر الالتحاق بمنظومة السجّل التجاري ولا استصدار رخص مسبقة، بل تم منحه إطارًا خاصًا ينطلق من صفة المقاول الذاتي ويُبنى على التزامات مبسّطة، مثل المحاسبة اليدوية والتسجيل في صندوق الضمان الاجتماعي لغير الأجراء، مقابل امتيازات جمركية وضريبية واضحة، أهمها تطبيق رسم جمركي مخفّض بنسبة 5 بالمائة.
في السياق، يمكن قراءة هذا المرسوم كجزء من استراتيجية الدولة لامتصاص البطالة الهيكلية، لا سيما في أوساط الشباب، حيث يمنح هذا التنظيم فرصًا عملية للراغبين في إنشاء مصدر دخل ذاتي دون الحاجة لرأسمال كبير أو إجراءات بيروقراطية معقّدة، فعملية الاستيراد تتم من خلال تنقل شخصي نحو الخارج واستيراد سلع بقيمة لا تتجاوز 1.8 مليون دينار جزائري لكل تنقل، بمعدل مرتين في الشهر، ممّا يجعل هذا النشاط مناسبًا تمامًا لصغار المستثمرين، خاصة في المناطق الحدودية والمناطق ذات الطابع التجاري.
التحول المفصلي الذي أحدثه هذا التنظيم، لا يقتصر على بعده الإقتصادي فقط، بل يلامس أيضًا الجوانب الجبائية والاجتماعية، فمن جهة، يتم إدماج شريحة واسعة من الناشطين في القطاع غير المهيكل ضمن منظومة الضرائب، دون أن يُفرض عليهم نظام جبائي ثقيل، وهو ما ينعكس إيجابًا على مداخيل الدولة في المدى المتوسّط، ومن جهة أخرى، يشترط النص الإنتساب إلى منظومة الحماية الاجتماعية، مما يُعزّز فكرة الأمن الاجتماعي لهؤلاء المقاولين ويضمن لهم الإعتراف القانوني والمهني.
يؤكّد الخبير في الاقتصاد الكلي والأستاذ الجامعي الدكتور محمد موساوي في تصريح لـ«الشّعب”، أنّ هذا المرسوم يُشكّل نقطة انعطاف حقيقية في علاقة الدولة بالمبادرات الفردية، موضّحا أنّ الاعتراف بنشاط كان يُعد لعقود غير رسمي واعتباره اليوم رافدًا اقتصاديًا قابلًا للتنظيم والتقنين، يعكس تحوّلًا جوهريًا في العقلية الاقتصادية الرسمية. ويضيف أنّ الدولة، عبر هذا النص، لم تكتف بتقنين نشاط قائم، بل وضعت الأسس الأولى لنظام اقتصادي مصغّر جديد، قابل للتوسّع ويُحاكي نماذج بعض الاقتصادات الصاعدة التي اعتمدت على المقاول الذاتي لخلق نسيج اقتصادي مرن.
علاوة على ذلك، فإنّ هذا التنظيم لا يُقوّي فقط الجباية ويُوسّع الوعاء الضريبي، بل يُساهم أيضًا في كسر بعض أشكال الاحتكار التجاري الذي قد يعرفه السوق، فتنوع مصادر الاستيراد، وانخفاض تكاليف الدخول إلى هذا النشاط، سيؤدي إلى زيادة المعروض من السلع، وبالتالي تعزيز المنافسة وتوفير خيارات أكثر للمستهلك بأسعار مناسبة، خاصة في السلع الخفيفة والتكميلية التي تُستورد عادة ضمن هذه الصيغة.
وفي ظل هذا الإطار القانوني الجديد، لم يعد المقاول الذاتي مجرّد فاعل اقتصادي هامشي، بل صار جزءًا من معادلة السوق المحلية، ومصدرًا محتملًا لمعلومات إحصائية دقيقة حول الواردات والمبادلات التجارية الفردية. كما أنّ إدماجه في الدورة الاقتصادية الرسمية سيسمح بإعادة قراءة مكوّنات الناتج الداخلي الخام بطريقة أكثر واقعية، بعدما ظل جزء كبير من المعاملات الاستهلاكية غير مرصود في مؤشّرات الدولة.
وفي خضم هذه الديناميكية التنظيمية، يجدر التذكير بتصريحات رئيس الجمهورية، السيد عبد المجيد تبون، الذي كان قد أكّد منذ فترة أنّ الدولة لا تسعى إلى التضييق على النشاطات الحرة، بل تدعمها شرط أن تكون منظمة وتخضع لحد أدنى من الرقابة والتقنين. وقد أوفى الرئيس بوعده، حيث جاء هذا النص ليؤكّد أنّ الجزائر اختارت أن تفتح المجال للمبادرات الفردية تحت مظلة القانون، ضمن رؤية اقتصادية واقعية تستجيب لحاجيات السوق والمجتمع.
إدماج “الكابة” ضمن النشاط الرسمي عبر بوابة المقاول الذاتي، لا يمثل فقط انتصارًا للمنطق الاقتصادي، بل هو أيضًا مكسب اجتماعي ومالي، وفرصة لإعادة تشكيل العلاقة بين المواطن والدولة في المجال الاقتصادي. فحين يُصبح النظام أكثر احتواءً وأقل إقصاءً، تنتصر دولة القانون وتنتعش ثقافة العمل والمبادرة.