طباعة هذه الصفحة

رؤية شاملة لأمن مستدام وتنمية عادلة وصوت مسموع..خبراء لـ “الشعب”:

الأمن والسلام الدّوليين..التزام متجذر في العقيدة الجزائرية

علي مجالدي

بوعقبي: الجزائر تسعى إلى تحويـل فلسفـة السلم إلى مشــروع تنمــوي متكامل

بوحــاتم: انتقـال غـير مسبــوق إلى الشراكـة الاقتصاديـة في الأمـن الإقليمـــي

في عالمٍ تتعدد فيه الأزمات وتتشابك التحديات، وتغدو فيه خريطة المصالح الدولية أكثر ضبابية، تبرز الجزائر من جديد من على منبر مجلس الأمن الدولي، لا باعتبارها مجرد عضو غير دائم، بل كفاعلٍ يحمل رؤية عميقة تنبع من تجربتها التاريخية في التحرر، ومن فهمها البنيوي لطبيعة الأزمات في الجنوب العالمي، وخاصة في القارة الإفريقية.
شكلت كلمة السفير عمار بن جامع، ممثل الجزائر الدائم لدى الأمم المتحدة، خلال جلسة مجلس الأمن المخصصة لبحث العلاقة بين الفقر، سوء التنمية والنزاعات، مرآة ناطقة لهذه الرؤية الجزائرية المتبصّرة، التي لا تنشد حلولاً آنية، بل تقترح مسارات استراتيجية ذات طابع شمولي ومستدام.
وفي سياق متصل، أكّد السفير بن جامع على أن الجزائر لا تعتبر السعي للسلام والتعاون الدولي ترفاً دبلوماسياً، بل التزاماً أصيلاً متجذّراً في عقيدتها السياسية، فبينما يستعد العالم لإحياء الذكرى 80 لتوقيع ميثاق الأمم المتحدة، تنبري الجزائر، عبر صوت ممثلها، لتذكير المجتمع الدولي بأن التعهدات لا تكتسب شرعيتها من تكرارها، بل من تجسيدها العملي. ومن هذا المنطلق، تطرح الجزائر نفسها كوسيط نزيه وفاعل ملتزم، يسعى لبناء السلم من خلال مقاربة تنموية قائمة على مواجهة الجذور العميقة للنزاعات، لا على مجرد إدارة أعراضها.
بالإضافة إلى ذلك، لم يغفل بن جامع الإشارة إلى التحديات الهيكلية التي تهدد الاستقرار العالمي، لاسيما في إفريقيا، حيث تتفاقم مستويات الفقر والعنف. وفي لغة صريحة تعكس الإحساس بالمسؤولية الدولية، أبدى أسفه لكون أقل من ربع أهداف التنمية المستدامة 2030 قد تم بلوغها، وهو ما يؤكده تقرير الأمم المتحدة لعام 2023 حول التنمية، الذي أشار إلى أن 1 من كل 3 بلدان إفريقية يعيش في حالة نزاع مسلح أو هشاشة أمنية، مع ارتفاع معدل الفقر إلى أكثر من 40٪ في بعض الدول مثل النيجر وجنوب السودان وبوركينا فاسو.
علاوة على ذلك، أكد أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية الدكتور بوعقبي أسامة في تصريح لـ«الشعب” أن ما يميز المقاربة الجزائرية في مجلس الأمن هو أنها لا تقوم بإعادة إنتاج الخطاب النمطي حول السلم، بل تسعى إلى تحويل فلسفة السلم إلى مشروع تنموي متكامل. مضيفا أن “الجزائر تدرك أن السلام الحقيقي لا يمكن أن يتحقق في بيئة تغيب فيها العدالة الاجتماعية والتنمية المستدامة. ومن خلال المشاريع المهيكلة مثل الطريق العابر للصحراء والمشاريع الطاقية المشتركة، ترسّخ الجزائر مقاربة أمنية جديدة تربط بين التنمية الجهوية والاستقرار الإقليمي. وما يُقدّم اليوم عبر هذا الخطاب هو تصور بعيد عن الحلول التقنية، ويعكس إرادة سياسية لتفكيك الأزمات من جذورها، وليس فقط احتوائها مؤقتاً”. وأشار الدكتور بوعقبي إلى أهمية دعوة الجزائر إلى تمويل مستدام لمبادرات الوساطة والسلم، معتبرًا أن هذا الطرح يكشف عن وعي عميق بالتحولات التي يعرفها النظام الدولي، حيث أضحت الأدوات التقليدية لحفظ السلم عاجزة أمام الأزمات المركبة.
وفي نفس السياق، اعتبر أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية الدكتور بوحاتم مصطفى في تصريح لـ “الشعب”، أن الكلمة التي ألقاها السفير عمار بن جامع “تُترجم عمقا استراتيجيًا في الخطاب الجزائري داخل المنظمات الدولية”، وأضاف موضحًا: “لم تعد الجزائر تكتفي بالدفاع عن قضايا عادلة من منطلق أخلاقي أو تضامني فقط، بل أصبحت تُقدّم بدائل مؤسسية مدروسة، تراعي التحديات الواقعية التي تواجه الدول النامية، خصوصًا في إفريقيا. والدعوة إلى تفعيل التعاون مع الاتحاد الإفريقي وتكييف آليات الأمم المتحدة مع الأولويات الإفريقية، يعكس رفضًا ضمنيًا للنموذج الأمني الفوقي الذي فشل في احتواء أزمات الساحل والقرن الإفريقي، ويؤسس لسيادة تنموية حقيقية”.وأشار الدكتور بوحاتم إلى أن تأكيد بن جامع على البُعد التمويلي في عمليات حفظ السلام، وتخصيص الجزائر لمليار دولار ضمن الوكالة الوطنية للتعاون الدولي، يمثل انتقالًا مهمًا من دور الشريك السياسي إلى الشريك الاقتصادي في الأمن الإقليمي، موضحا أن “تمويل التنمية الإفريقية من داخل القارة هو الرهان الأهم، لأن التمويلات المشروطة من الخارج كثيرًا ما تعيد إنتاج التبعية، والجزائر تُدرك هذه المعادلة، وتحاول من خلال أدواتها المالية والمؤسساتية أن تضع حدًا لهذا النمط، عبر تقديم نموذج جديد للتعاون جنوب-جنوب”.
بالإضافة إلى ذلك، يرى العديد من المتابعين أن كلمة السفير بن جامع كشفت عن وعي جزائري متقدم بخطورة الربط التعسفي بين الأمن ومكافحة الإرهاب في إفريقيا، دون معالجة مسببات الفقر والإقصاء. فالدعوة إلى حلول شاملة ومستدامة تعني ضمنيًا رفض اختزال الأزمات الإفريقية في مجرد تهديدات أمنية يجب تطويقها، بل الإقرار بأنها ظواهر اجتماعية عميقة الجذور لا يمكن محاصرتها دون خطط إنمائية مدروسة.
وإذا كان العالم يعيش ما وصفه بن جامع بـ«نقطة تحول كبيرة”، فإن الجزائر، من خلال هذا الخطاب، لا تتموقع كضحية لهذا التحول، بل كشريك فاعل يسعى إلى التأثير فيه، وتقديم تصورات عملية تتكامل فيها التنمية مع الوساطة، وتمويل البنى التحتية مع دعم المؤسسات، في سبيل بناء سلام لا يُفرض من الخارج، بل يُصاغ من داخل المجتمعات.