طباعة هذه الصفحة

من المزارع الجزائريـة إلى الأسواق العالميـة..

المعرض الدولي للفلاحة.. نجاحٌ يتأسّس على الابتكار والأمن الغذائي

خالدة بن تركي

 رفـع الإنتاجيـة وتحسـين جودة المحاصيل الزراعيــة.. تعزيــز فــرص التصديــر

 الـرّي الذّكي.. تحسـين المردوديــة.. تقليل هدر الميـاه وخفــض تكاليـــف الإنتــاج

 تبادل الخبرات.. عرض الابتكارات وتعزيز الشراكــات.. منظومــة فلاحيـة متكاملــة

سجّل المعرض الدولي للفلاحة وتربية المواشي “سيبسا” هذا العام إقبالًا واسعًا من الزوار والمهنيين على حد سواء، ليؤكد - من جديد - مكانته كمنصة محورية لتبادل الخبرات والاطلاع على أحدث الابتكارات في قطاعي الزراعة وتربية المواشي.. ولم يقتصر دور المعرض على عرض المنتجات والخدمات فحسب، بل عكس أيضًا التوجه المتنامي للشركات نحو التصدير. يأتي هذا التوجه تماشيًا مع الاستراتيجية الوطنية الرامية إلى تعزيز الصادرات وتنويع الأسواق الخارجية، مما يبرز الأهمية الاقتصادية المتزايدة للقطاع الفلاحي في الجزائر.

لعلّ ما يلفت انتباه الزائر لأجنحة المعرض الدولي للفلاحة وتربية المواشي، جناحا لمؤسسات المتخصّصة في الصناعات الغذائية والمخابر البيطرية، وعرض المشاركون مجموعة واسعة من المنتجات الزراعية والحيوانية، ما أتاح للزوار فرصة فريدة لاستكشاف المنتجات المحلية ذات جودة عالية.. ويعكس التنوّع الجهود المبذولة لدعم الإنتاج الوطني وتشجيع المستهلكين على تفضيل المنتجات المحلية، هذا ما وقفت عليه “الشعب” خلال زيارة قادتها إلى “سيبسا”.

الابتكار الزراعي.. تعزيز الإنتاجية والتعاون القاري

حرصت المؤسسات الوطنية المشاركة في المعرض على تبني التقنيات الحديثة، ما يؤكد التزامها بتشجيع الابتكار في القطاع الزراعي، ويسهم هذا التوجه بشكل مباشر في رفع الإنتاجية وتحسين جودة المحاصيل الزراعية، كما يعزّز فرص التعاون بين دول القارة الإفريقية من خلال تبادل الخبرات والتجارب الناجحة.
تعمل المؤسسات الزراعية جاهدة على تشجيع استخدام تقنيات الرّي الحديثة والبذور المحسّنة، وتوفير الدعم والتدريب اللازم للفلاحين لتحسين مردودية الإنتاج. ومن خلال مشاركتها الفعّالة في المعارض الإفريقية، تسعى الجزائر إلى بناء علاقات تعاون قوّية مع دول الجوار وتبادل أفضل الممارسات الزراعية. يهدف هذا التعاون إلى خدمة مصالح القارة وتعزيز أمنها الغذائي.
روح المقاولة في مجال التكنولوجيا، طبعت المعرض، إذ تم التركيز على أهمية الابتكار في تطوير قطاعي الزراعة والصناعة. عُرضت العديد من الأفكار والأدوات الجديدة التي تساعد الفلاحين على تحسين إنتاجهم باستخدام التقنيات الحديثة مثل الذكاء الاصطناعي. كما تم تقديم مشاريع صناعية مبتكرة تستخدم التكنولوجيا لتسهيل العمل ورفع مستوى الجودة.
وحظيت هذه المبادرات باهتمام كبير من المستثمرين والفاعلين الاقتصاديين الذين أبدوا استعدادهم لدعم المشاريع الجديدة بالتمويل والإرشادات اللاّزمة. بالإضافة إلى ذلك، تم تنظيم ورشات عمل جمعت بين المبتكرين والشركات الكبرى لتبادل الخبرات وبحث فرص التعاون، ما يؤكد على وجود توجّه جديد نحو بناء اقتصاد يعتمد على المعرفة والابتكار المحلي.

الرّي الذّكي.. مواجهـة التحدّيــات المناخيـة

يُعد الرّي الذكي أحد الحلول الحديثة التي تستجيب لتحدّيات الفلاحة العصرية، خاصّة في ظل التغيرات المناخية وشحّ الموارد المائية. يعتمد هذا النظام على تقنيات متطوّرة مثل الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء لقياس رطوبة التربة واحتياجات النباتات بدّقة، مما يتيح توصيل كميات المياه المناسبة في الوقت المناسب.
ويساهم الري الذكي في تحسين مردودية المحاصيل، تقليل هدر المياه، وخفض تكاليف الإنتاج، مما يجعله خيارًا استراتيجيًا لتحقيق الأمن الغذائي والتطوّر الزراعي. وقد عُرضت هذه الحلول المتكاملة من قِبل “مجمع شي علي”، الرائد في حلول الري الزراعي على المستوى الوطني. وتميزت مشاركة المجمع في هذه النسخة من المعرض بتقديم باقة واسعة من الحلول المصممة خصيصًا لتلبية احتياجات الفلاحة العصرية.
من جهتها، قدّمت مسؤولة التسويق والاتصال بالمجمع فاطمة الزهراء قاديري، أمثلة من تجارب ناجحة في الميدان، أظهرت كيف تساعد تقنياتهم في تحقيق نتائج ممتازة حتى في الظروف المناخية والتربة الصعبة. وركزت أيضًا على أهمية تدريب الفلاحين ومرافقتهم لضمان استفادتهم القصوى من هذه التقنيات.
وتشمل هذه التقنيات معدات الرش القابلة للتعديل بحسب المساحات، أنظمة التنقيط عالية الكفاءة لترشيد استهلاك المياه، أنظمة الري المحوري الأوتوماتيكية للمزارع الكبرى، إلى جانب ابتكارات أخرى تهدف إلى مواجهة التحدّيات المناخية وتلبية متطلبات الفلاحين المتغيّرة.
ولقيت الحلول المعروضة اهتمامًا كبيرًا من الزوار، ما يعكس الحرص على إدخال التكنولوجيا في مجال الفلاحة. وأبدى العديد من الحاضرين إعجابهم بالأدوات الحديثة والتطبيقات التي تساعد الفلاحين على تحسين إنتاجهم.. هذا التفاعل يدل على إدراك واسع بأن مستقبل الفلاحة يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالتكنولوجيا الحديثة، لا سيما في مواجهة التحدّيات وتحسين المردودية.
تجدر الإشارة إلى أن مشاركة “مجمع شي علي” في معرض “سيبسا فلاحة” تهدف أساسًا إلى تبادل الخبرات، تطوير الشراكات، وتعزيز المنظومة الفلاحية في الجزائر من خلال الاطلاع على الابتكارات واستقطاب الاستثمارات.

إنتـاج الأعـــلاف.. خطّـة استراتيجيــة

في إطار السعي لتعزيز الأمن الغذائي وتقليل الاعتماد على الاستيراد، تولي الدولة اهتمامًا كبيرًا لتشجيع الإنتاج المحلي، لا سيما في قطاع أعلاف الدواجن. تعمل المؤسسات المشاركة في المعرض بجد لتلبية احتياجات السوق الوطنية من الأعلاف، خاصّة خلال فترات الذروة مثل شهر رمضان، حيث يزداد استهلاك اللّحوم البيضاء. تركز هذه المؤسسات على تحسين جودة الأعلاف وزيادة الكميات المنتجة، مع السعي لزيادة الاعتماد على المواد الخام المحلية لدعم الاكتفاء الذاتي وتقليل الواردات.

ريــادة في الإنتـاج..

في هذا الصدد، أكد المدير التنفيذي لشركة برباش رابح لـ«الأعلاف والدواجن” ومقرها سطيف، أن الأخيرة تعمل بالتعاون الوثيق مع الديوان الوطني لتوفير كميات كافية من الأعلاف، مما يساهم في استقرار أسعار اللّحوم البيضاء. كما تدعم الشركة مربي الدواجن بتوفير الأعلاف بأسعار معقولة، مما يشجع الإنتاج المحلي ويدعم تحقيق الاكتفاء الذاتي.
وفي سياق تطوير الإنتاج المحلي، أشار المتحدث إلى أن الشركة تمتلك حاليًا مصنعًا لإنتاج الأعلاف بطاقة إنتاجية تصل إلى 250 طن يوميًا، بالإضافة إلى نشاط تربية دجاج اللّحم بطاقة سنوية تبلغ مليون ومائتي ألف دجاجة. تعمل الشركة كذلك على مضاعفة الإنتاج من خلال برامج التوسّع، وذلك بإنشاء وحدة ثانية لإنتاج الأعلاف في المنطقة الصناعية حمام السخنة بسطيف، بطاقة إنتاجية تقدر بـ 400 طن يوميًا.
وأضاف أن الشركة تولي أهمية كبيرة للتوجه نحو السوق الإفريقية، وتسعى جاهدة لتعزيز حضورها الإقليمي من خلال تصدير الدجاج الجاهز إلى كل من موريتانيا وليبيا. أوضح أن هذه الخطوة الاستراتيجية تعد جزءًا من خطة توسعية طموحة، حيث تعوّل الشركة بشكل كبير على مشروع المذبح لزيادة حجم الإنتاج وتحسين جودة الخدمات، وبالتالي دعم نشاط التصدير وتوسيعه نحو السوق الإفريقية.
من جهته، أوضح الدكتور البيطري مراد برباش، أن العديد من الشركات النشطة في هذا المجال تعتمد على تحويل المواد الأولية إلى أعلاف متكاملة، مشيرًا إلى أن جزءًا من هذه المواد لا يزال يُستورد من الخارج. غير أن التوجه الجديد للشركة يتماشى مع مخطط رئيس الجمهورية الرامي إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي في المواد الأولية، خصوصًا الذرة والصويا. أكد الدكتور برباش أن الجزائر تمتلك كل الإمكانيات اللازمة لتحقيق هذا الهدف.
وأشار برباش إلى أن تحقيق هذا الهدف يتطلب دعم الفلاحين وتشجيعهم على إنتاج الذرة والصويا محليًا، مع تحسين طرق الزراعة والإنتاج. كما أبرز أهمية التعاون مع المنتجين من أجل توفير المواد الأولية محليًا، بدلًا من الاعتماد على الاستيراد، موضحًا أن الجزائر تملك الأراضي والمناخ والإمكانات البشرية لتحقيق الاكتفاء الذاتي.

إنجـازات جزائريـــة رائــدة

في إطار جهود الجزائر لدعم الإنتاج المحلي وتقليل الاعتماد على الاستيراد، برزت مبادرات ناجحة من مؤسسات جزائرية. من بين هذه المؤسسات، شاركت شركة “كوك حضنة” في معرض “سيبسا” وقدمت إنجازًا مهمًا: مصنع تبريد لحفظ الدواجن والنباتات الفلاحية. هذا المنتج، الذي كان يُستورد بالكامل، أصبح يُصنع الآن محليًا بنسبة 100بالمائة.
وأكد مراد رحماني، مالك المؤسسة، أن هذا الإنجاز لا يكتفي بتلبية احتياجات السوق الوطنية فحسب، بل أصبح محط اهتمام في عدد من الدول الإفريقية، حيث بدأت الشركة فعليًا في تصديره. ما يعكس قدرة الصناعة المحلية على المنافسة إقليميًا والمساهمة في تنويع الصادرات الوطنية خارج قطاع المحروقات.

جودة.. توسّع وتصدير إقليمي

تعمل المؤسسة ضمن سياسة تهدف إلى تحسين جودة منتجاتها وزيادة قدرتها على الإنتاج، لتلبية الطلب المتزايد داخل الجزائر وخارجها. أكد رحماني أن التوجه نحو السوق الإفريقية يُعد فرصة استراتيجية لتعزيز مكانة الجزائر الاقتصادية في القارة.
وأشاد المتحدث - في السياق ذاته - بالقرارات الحكومية الداعمة لمناخ الاستثمار، التي ساهمت في إعادة إطلاق مشاريع كانت معلقة. على سبيل المثال، عادت مزرعتان كبيرتان إلى النشاط بعد سنوات من الجمود. أكد أن الشركة تحقق طاقة سنوية تصل إلى 30 مليون كتكوت، إلى جانب إنتاج لحوم الدجاج، الدجاج البياض، والديك الرومي، مما يسهم بشكل ملموس في تلبية احتياجات السوق المحلية.
إن مشروع مصنع التبريد ليس سوى محطة جديدة في مسار الشركة، التي تواصل تجسيد رؤيتها القائمة على الابتكار والإنتاج المحلي والانفتاح الإقليمي. تؤكد هذه التجربة أن الاستثمار في الصناعة الوطنية، خاصة في قطاعات حيوية كالفلاحة والأغذية، يمثل ركيزة أساسية لتحقيق الاكتفاء الذاتي والتنمية المستدامة، بعيدًا عن التبعية للمحروقات.

المعـارض الفلاحيــة.. تطوير القطاع الزراعـــي

من جهته، أكد الخبير الفلاحي أحمد المالحة، في تصريح لـ«الشعب”، أن تنظيم المعارض الفلاحية يمثل محطة هامة وأساسية للفلاحين والمتعاملين في القطاع الزراعي. هذه التظاهرات تتيح لهم فرصة الاطلاع على أحدث ما توصل إليه البحث العلمي من تكنولوجيا، ومعدات حديثة، وبذور محسّنة، مما يواكب تطوّر الفلاحة نحو مفاهيم عصرية مثل الفلاحة الذكية.
إلى جانب ذلك، تؤدي هذه المعارض دورًا محوريًا في تبادل الخبرات والأفكار بين الفلاحين والخبراء، خاصة وأن المعرض رافقته أيام دراسية وندوات تقنية في مختلف الفروع الزراعية. غالبًا ما يأتي الفلاحون حاملين تساؤلات أو مشاكل ميدانية، وقد يجدون في هذه المعارض إجابات عملية من أهل الاختصاص، كما أن تنوّع الشعب الفلاحية المعروضة، من تربية الحيوانات إلى الزراعات الكبرى والأشجار المثمرة، يجعل من هذه المعارض فضاءً غنيًا لتبادل التجارب والبحث عن حلول ابتكارية. والأهم من ذلك أيضًا، هو إدراج مسابقات موجهة للشباب ورواد الأعمال في المجال الفلاحي، خاصة في مجالات الزراعة الذكية، الزراعة المائية، والزراعة بدون تربة، لما لها من أهمية في تطوير منظومتنا الزراعية.

التعريـــف بالمنتـج المحلـي وتعزيز الصادرات

من جهة أخرى، تعتبر هذه المعارض فرصة مهمة للتعريف بالمنتجات الوطنية، خاصة الخضر والفواكه، والترويج لها في الأسواق الإفريقية والأوروبية. تُستخدم هذه المعارض لعرض جودة وتنوّع هذه المنتجات، كما تفتح المجال أمام المصدّرين للتعرف على زبائن جُدد، سواء من داخل الوطن أو خارجه، بحكم مشاركة أكثر من 40 دولة. وتساعد هذه التظاهرات المصدرين أيضًا على فهم احتياجات الأسواق الأخرى، مما يمكنهم من تحسين منتجاتهم وتكييفها مع متطلبات الزبائن في الخارج.
كما تساعد هذه الصالونات على التعريف بالصناعة المحلية القادرة على إنتاج سلع ذات جودة عالية تحترم المعايير المطلوبة. فهي لا تقتصر فقط على عرض المنتجات وبيعها، بل تُعد فضاءً مهمًا للقاء بين المنتجين، المستوردين، والموزعين، مما يتيح فرصًا لتبادل الخبرات وتوسيع شبكة العلاقات المهنية.
من خلال هذه اللقاءات، يمكن للمشاركين اكتشاف أسواق جديدة وفهم متطلباتها بشكل أدّق، مما يساعدهم على تطوير منتجاتهم لتلائم تلك الأسواق من حيث الجودة والتغليف والتسويق. كما يتيح لهم ذلك التعرف على اهتمامات المستهلكين والمعايير الفنية، ما يعزّز فرصهم في التوسّع والتصدير.

مستقبــل زراعي واعـــد

أكد الخبير الفلاحي أن التفاعل الكبير الذي شهده المعرض يعكس الاهتمام المتزايد بالفلاحة العصرية، والدور المحوري للتكنولوجيا في تحقيق الأمن الغذائي وتعزيز الصادرات. كما أبرز المعرض الإمكانيات الكبيرة التي تملكها الجزائر للمنافسة إقليميًا، والفرص الواعدة التي يمكن استثمارها في السوق الإفريقية. وشدد على أن الرهان يبقى قائمًا على دعم الإنتاج المحلي وتحفيز المبادرات لبناء مستقبل زراعي مزدهر.
 وعليه، يمكن القول إن معرض “سيبسا 2025” شكّل محطة استراتيجية بارزة، لأنه تجاوز كونه تظاهرة فلاحية بحتة، ليصبح فضاءً لتبادل الخبرات والتجارب، وعرض الابتكارات، وتعزيز الشراكات، بهدف بناء منظومة فلاحية متكاملة ومستدامة.