تتجه الجزائر، بخطى ثابتة نحو الانتصار على أزمة عالمية تفاقمت منذ عقدين، بسبب تغيّرات وتحوّلات المناخ وشحّ التساقطات المطرية، طالته على غرار ساكنة كلّ دول المعمورة، وتجاوزها متسلّحاً بأدوات قِوامها الوطنية، والعمل الجادّ الكفء، أسفر في وقتٍ وجيزٍ لا يتعدّى 25 شهرا عن إنجاز خمس محطات كبرى لتحلية مياه البحر، تسمح بتغطية نسبة معتبرة من احتياجات البلاد من مياه الشرب والفلاحة والصناعة وغيرها من القطاعات السيادية.
وأشرف رئيس الجمهورية، السيد عبد المجيد تبون، قبل أيام قليلة، على تدشين أولى مشاريع المصانع منتهية الأشغال في ولاية وهران (الرأس الأبيض)، ستُغطّي ستّة ولايات كاملة بالماء الصالح للإستهلاك متعدّد الاستخدامات اليومية.
كما دشّن رئيس الجمهورية مؤخراً محطة تحلية المياه بولاية تيبازة (فوكة 2)، وتواصلت سلسلة زياراته التاريخية الميدانية لإعطاء إشارة انطلاق محطة الطارف (كدية الدراوش)، ولاحقا محطة بومرداس (كاب جنات)، ومحطة بجاية (تيغرمت)، وكل هاته المنشآت الخمسة الجديدة بطاقة إنتاجية سعتها 300 ألف متر مكعب يومياً لكل واحدة منها على حدة، أي ما يعادل 300 مليون لتر يومياً للمحطة.
هذه الإنجازات تمّت بسواعد صنع جزائرية، وطاقات مالية وهندسية وطنية صرفة، قامت بتنفيذ الأشغال بنظام الدّوامَيْن طيلة أشهر عديدة، بتوجيه خاصٍ من رئيس الجمهورية، بهدف الحدّ سريعاً من مشكل ندرة الموارد المائية، وتعويض النقصان التقليدي الناجم عن تراجع مستوى تجميع السدود عبر التراب الوطني، وكذا احتواء زيادة الطلب على المياه بسبب النموّ الديمغرافي والفلاحي والصناعي وغيرها من القطاعات الإنتاجية الحيوية.
وبلغ غلاف برنامج المحطات الخمس الصناعية لتحلية مياه البحر، قيمة مالية تقارب 2.4 مليار دولار، جرى إنجازها وتجسيدها في ولايات وهران وبجاية والطارف وتيبازة وبومرداس، بقدرة إنتاجية تبلغ 300 ألف متر مكعب يوميا لكلّ واحدة، بسعة 1.5 مليون متر مكعب يومياً ( 1.5 مليار لتر يومياً)، ممّا سيسمح بتزويد قرابة 15 مليون مواطن جزائري بالمياه المحلاة.
وستتبوّأ الجزائر الجديدة المركز الأول على الصعيد الإفريقي، والثانية عربياً بعد المملكة العربية السعودية، من حيث القدرة الإنتاجية للمياه المحلاة، بعد رفع مستوى تلبية الاحتياجات الوطنية للشرب من 18 % إلى 42 %، وذلك مع نهاية تنفيذ البرنامج ودخول المشاريع حيّز التّموين بالماء للولايات المعنية به.
وجاء إقرار هذه الخطة المائية الضّخمة قبل سنتين، في إطار رؤية استباقية استشرافية لرئيس الجمهورية، تُجاه مسألة تعزيز الأمن المائي وتحقيقه في البلاد، الذي تحوّل إلى رهان عالمي ذو أولوية قصوى، خاصة مع صدور تقارير من علماء المناخ تشير إلى تضخم متوسط درجات الحرارة في الشرق الأوسط بمقدار 5 درجات مئوية مع نهاية القرن 21، بسبب تغيّرات المناخ الحادّة، ستُحوّل تدريجيا مناطق كثيرة من الإقليم الجغرافي غير صالحة للعيش البشري إذا لم تتخذ الإجراءات المناسبة والسريعة لمواجهة الجفاف، وهو ما تعكف على تجسيده السلطات العمومية واقعاً بكفاءة وصرامة، قصد توفير الاحتياجات الحالية للجزائريين على نطاق أشمل، وحتّى ضمان مستقبل مائي أفضل للأجيال القادمة.
وقد تفاءل مختصّون وخبراء في تصريحات متطابقة لجريدة «الشعب»، بكفاءة نجاح تشغيل هذا النوع من الإنشاءات التنموية الكبرى في الجزائر؛ كونه سيعود بفوائد جمّة على قطاع الفلاحة بالتحديد، من خلال اقتصاد وتوجيه جزء كبير من مياه السدود لصالح الرّي الفلاحي، مع إمكانية الترخيص بإنجاز هذا النوع من المحطات لصالح القطاع الأخضر، بتمكين مؤسّسات عمومية، حصراً، على غرار شركة كوسيدار –الفرع الفلاحي- بإنشاء محطات صناعة مياه محلاة على السواحل تشتغل بالطاقة الشمسية، لسقي استثمارات زراعية جديدة في إنتاج المحاصيل الإستراتيجية أو تكثيف محميات مليونية لأشجار الزيتون والحمضيات.
على أن يكون منتوج تلك الاستثمارات الفلاحية موجهاً بدرجة أولى للتصدير واستجلاب العملة الصعبة للخزينة العمومية، نظرا إلى ارتفاع أسعار السلع الزراعية سالفة الذكر في البورصات العالمية، وبالتالي تتوفر القدرة لهذا النوع من المشروعات على تغطية تكلفة تحلية الماء وتحصيل أرباح مضاعفة، حسب صعود مؤشر ثمن البيع في السوق.
طارق مشري: المستحيل ليس جزائريا
أكّد الخبير والمهندس الرئيسي في الموارد المائية بمديرية الريّ لولاية الوادي، طارق مشري، أنّ إنجاز وتجهيز محطات تحلية مياه البحر الخمسة في الجزائر، يعتبر خيارا إستراتيجيا، أقرّه رئيس الجمهورية، السيد عبد المجيد تبون، من أجل تحقيق واستدامة الأمن المائي القومي، وحماية موارد الأجيال المتعاقبة القادمة.
وقال المهندس طارق مشري، في تحليل خصّ به «الشعب»، أنّ المنجز الجزائري «المُعجزة»، جرى تجسيده واقعاً من طرف شركات ومؤسّسات وطنية، وبكفاءات وسواعد جزائرية، وتكنولوجيات جدّ متقدمة، بآجال تنفيذ قياسية لتأمين التزويد بمياه الشرب للمواطنين عبر ولايات الوطن بشكل أسرع، مشيراً أنّ الدولة انتهجت واحدة من أفضل الإستراتجيات لمحاربة مشكل الجفاف وتخفيف حدّة نقص مياه الأمطار في الجزائر.
وأوضح مشري أنّ الإستراتيجية الوطنية للمياه (2021-2030م) تهدف إلى تلبية حاجة الجزائريين من الماء الشروب عن طريق تحلية مياه البحر بنسبة تصل إلى 60 %، حيث يتم حاليا تغطية 40 % من الغرض بهذا النوع من المياه، وسترتفع تدريجيا لتصل 60 % إلى غاية سنة 2030م، كما ستستفيد ولايات الجنوب الكبير من برنامج خاص بنزع الأملاح من المياه الجوفية، وهو ما سيؤمن لها إمدادات ضخمة جدّاً من المياه مستقبلاً.
وأبرز المهندس طارق مشري، إنّ استمرار شحّ الأمطار ونقص التساقطات الذي حلّ بالبلاد خلال العشرية الأخيرة، على غرار كلّ دول المنطقة والعالم، عجّل بوضع خطة وطنية شاملة لمواجهة ظاهرة الجفاف، وتحييد تداعياته الإجتماعية والتنموية والإقتصادية الخطيرة على مقدرات الأمة الجزائرية، ومنه ضمان الأمن المائي المستدام.
وأفاد مشري أنّ رئيس الجمهورية، السيد عبد المجيد تبون، اتخذ عدّة تدابير وإجراءات شجاعة وناجعة لإحتواء مشكل الجفاف العويص، بدأها برسم برنامج أول لإنجاز 11 محطة لتحلية مياه البحر على الشريط الساحلي الوطني بقدرة إنتاجية تبلغ 2.11 مليون متر مكعب يومياً، بالإضافة إلى ثلاث محطات أخرى بسعة 70 ألف متر مكعب يومياً في إطار المخطط الإستعجالي، موازاةً مع إنجاز 05 محطات إضافية بعنوان مشروع البرنامج التكميلي الأول لتحلية مياه البحر بقدرة 1.5 مليون متر مكعب يومياً، ستُضاف كلّها إلى حجم الإنتاج الحالي، الذي سيرفع إسهام صناعة وضخّ المياه المحلاة لتلبية احتياجات الشروب إلى 40 %.
وأضاف المحلل شارحاً: «تستهلك الجزائر في جميع الميادين القطاعية ما يناهز 17 مليار متر مكعب من الماء في العام، بينما تتعدّى حاجاتها الحقيقية 20 مليار متر مكعب، ولتلبية تلك الحاجيات شرعت السلطات العليا في تنفيذ عديد الإستثمارات العملاقة في مجال الريّ والموارد المائية، منها تشييد مصانع لتحلية مياه البحر، وهنا لا بدّ من إبراز فوائد مشاريع التحلية لتغطية الاستهلاك الوطني خاصة ما ارتبط بضمان استمرارية التّزوّد بمياه الشروب المناسبة لمختلف الإستعمالات اليومية، إلى جانب سلامة التأثيرات البيئية للمحطات على مختلف النظم الوطنية، استنادا إلى مجموعة من المؤشرات المتصلة بأدائها، ناهيك عن معطيات أخرى تتعلق بتشغيل محطات تحلية مياه البحر عبر أنحاء العالم».
عربون الريادة..
ثمّن الخبير في الموارد المائية المهندس طارق مشري، السياسة الرشيدة التي انتهجها رئيس الجمهورية، السيد عبد المجيد تبون، في قطاع المياه والريّ، الذي يشهد اليوم ثورة حقيقية مكتملة الأركان، ستجعل من الجزائر دولة رائدة في توفير المياه وصناعة الماء المحلى في العالم، بما يتّسق مع خطط ضمان الأمن المائي الوطني في الأمد القريب.
ولم تقتصر النهضة الحاصلة في البلاد على حقل الموارد المائية، بحسب مشري، وإنّما تعدّتها إلى كافة القطاعات الأخرى، بدأت بإنفاذ إصلاحات اقتصادية كبرى تمّ تطبيقها بحذافيرها، بوّأت الجزائر بالسنوات الأخيرة المراتب الأولى في تصنيفات النموّ السريع بالمؤسّسات المالية العالمية، بمؤشرات خضراء وإيجابية بشهادة كلّ التقارير الدولية المتخصّصة.
ياسين عبيدات: حماية الأمن القومي المائي
أكّد رئيس المركز الجزائري للدراسات الاقتصادية والبحث في قضايا التنمية المحلية، الدكتور ياسين عبيدات، أنّ الجزائر قطعت أشواطا متقدّمة وقفزات نوعية في سبيل تحقيق أمنها المائي القومي، من خلال تطوير موارد مائية حديثة غير التقليدية، ومواصلة العمل على تنمية قدراتها وإمكاناتها الطبيعية. وأفاد الدكتور ياسين عبيدات، في تصريح لـ»الشعب»، أنّ الجزائر أصبحت من الدول الرائدة في مجال تحلية مياه البحر، وتحتلّ حاليا المرتبة الأولى إفريقيا والثانية عربيا بعد المملكة العربية السعودية، بحجم إنتاج يقدّر بـ 3.8 مليون متر مكعب، أيّ ما يعادل 42 بالمئة من احتياجات المياه الصالحة للشرب في البلاد، كما تهدف إلى الرفع من ذلك إلى 5.6 مليون متر مكعب في آفاق 2030، بما يعادل 60 % من احتياجاتها عبر الرفع من عدد محطات صناعة المياه المحلاة إلى 25 محطة.
وأبرز عبيدات أنّ هذه الإستراتيجية تُمثّل بالفعل نظرة استشرافية عميقة لإدارة الموارد المائية، وجعلها أكثر فعّالية واستدامة، وهذا حماية للأمن القومي المائي أمام ما يعرفه العالم من تذبذب وشحّ في المصادر المائية الطبيعية، حيث أظهرت التقارير والدراسات الأكاديمية إنّ الجزائر أصبحت تصنّف ضمن الدول الفقيرة مائياً، وهو حالة تعبر عن نقص كميات المياه العذبة المتاحة للاستخدام البشري اليومي، تقدّر نسبتها الاستهلاكية السنوية للفرد بأقلّ من 600 متر مكعب، في حين يُحدّد البنك الدولي النسبة بمقدار 1000 متر مكعب.
وفي ظلّ هذه الظروف، ربحت الجزائر، اليوم، معركة إنشاء وتسيير وصيانة محطات تحلية مياه البحر، التي أصبح تجسيدها بسواعد وكفاءات جزائرية في كلّ مراحلها، تحت إشراف شركات وطنية لها خبرة كبيرة في المجال، وفي وقت قياسي بمتوسط إنجاز 25 شهرا بنظام عمل 24/24 ساعة و7/7 أيام في الأسبوع، وهذا بعدما كان سابقا تنفيذها حكراً على المؤسّسات الأجنبية، بحسب قوله.
إنشاء مجلس وطني للأمن المائي
اقترح الدكتور ياسين عبيدات، إنشاء المجلس الوطني للأمن المائي تحت إشراف رئيس الجمهورية، وتفعيل دور الوكالة الوطنية لتحلية المياه من أجل استحداث محطات جديدة عبر الشريط الساحلي، والعمل على تصدير عملية بناء المحطات والدراسات المتعلقة بها والصيانة إلى الخارج، وكذا جذب استثمارات الشركات الأجنبية الرائدة في مجال تصنيع وإنتاج مدخلات ومعدات هذه الصناعة المستقبلية الهامة لخفض فاتورة الواردات.
علاوة على ذلك، الدفع نحو بعث موارد تقليدية طبيعية جديدة مثل تشييد سدود في المناطق الشرقية الأكثر إمطارا، ورفع نسبة إدماج المنتوج الوطني في محطات تحلية مياه البحر، وضرورة العمل على خفض تكاليف الإنتاج بالنظر إلى حجم استهلاك المحطات للطاقة الكهربائية، من خلال دمج الكهرباء المنتجة من الطاقة الشمسية والاستغناء عن الطاقات التقليدية تدريجياً، حيث أصبح إدماج الطاقات المتجدّدة عبر استحداث مزارع شمسية لتغطية نسب كبيرة من احتياجات الطاقة مطلبا ملحّاً للمساهمة في خفض تكاليف إنتاج المياه المحلاة، وكلّ هذا من شأنه أن يخلق فرصا للعمل بشكل أكبر وعلى نطاق أوسع في الوطن.
كما بات من الضروري استحداث تخصّصات في الجامعات الوطنية وفي قطاع التكوين المهني، مثلما هو معمول به في دول رائدة علميا وتقنيا، قصد تكوين طلبة وإطارات في ميدان تحلية مياه البحر، وجعل الجامعة ومراكز التكوين قاطرة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، بإدراج فروع تدريبية مستديمة مطوّرة للمهارات الفردية، ومفيدة في نفس الوقت للإقتصاد الوطني حسب احتياجاته، مع الاستفادة من الخبرات الأجنبية عبر إرسال بعثات طلابية بشكل دوري لاكتساب المعارف التكنولوجية المحدثة والإبتكارات الجديدة، وبالتالي ضمان الخبرة اللازمة لتسيير مختلف المنشآت العمومية الوطنية الكبرى، وفقاً للمختصّ ذاته.
التّضامن المائي
تحدّث الباحث في قضايا التنمية المحلية، الدكتور ياسين عبيدات، عن أهمية تجسيد فكرة التضامن المائي بين ولايات الوطن الكبير، القائمة على نقل المياه من منطقة إلى أخرى عبر شبكة أنابيب معدّة سلفاً، وربط السدود الوطنية مع بعضها البعض لمحاربة ظاهرة هدر المياه أثناء التساقطات والهطولات المطرية الكثيفة، والتركيز أكثر وبجدية على إنشاء مشاريع تصفية المياه المستعملة، باعتبارها خطوة ناجعة لتوفير كميات إضافية من الماء لمختلف الاستعمالات اليومية، سواء في المجال الصناعي أو الفلاحي، من دون إغفال مسألة ترشيد استهلاك المياه وضمان عدم تبذيرها في الأوساط الإجتماعية والزراعية. هذا وقد أشاد الدكتور عبيدات برؤية الحكومة الجزائرية المبنية على توجيهات رئيس الجمهورية، السيد عبد المجيد تبون، الرامية إلى تحقيق الأمن المائي في الأمد القريب، بالإرتكاز على عدّة محاور أساسية منها استراتيجية تحلية مياه البحر المعدّة وسيلة ضامنة لتزويد وتموين المواطنين بهذه المادة الحيوية اليومية خاصة في المدن الكبرى، التي صار يتزايد استعمالها بشكل ملحوظ في ظلّ النمو الديموغرافي وتزايد عدد سكان الجزائر، بالإضافة إلى الذهاب نحو تطوير مجال تصفية المياه المستعملة لإستخدامها في الصناعة والفلاحة، واستغلال المياه الجوفية بأسلوبٍ أمثلٍ، ومواصلة بناء السدود وفق دراسات تقنية دقيقة، لبلوغ قدرات تخزين معتبرة بها قِوامها 12 مليار متر مكعب.
محمد حيمران: مشاريع استراتيجية تجسّدت
ومن جهته، أكّد البروفيسور محمد حيمران، وهو خبير بمركز البحث في الاقتصاد المطبق من أجل التنمية، أنّ الجزائر شرعت في تجسيد استثمارات ضخمة لتحلية مياه البحر كأولوية وطنية، وتقديمها كتحدّي ومشروع سياسي بامتياز من أجل عدم الاعتماد مستقبلا فقط على الموارد التقليدية المرتبطة بحالة الطقس والمناخ.
وأبرز البروفيسور محمد حيمران، في تحليله لـ»الشعب»، أنّ شحّ المياه الذي تعاني منه الجزائر بسبب الجفاف الحاصل، دفع السلطات العمومية إلى إطلاق برنامج طوارئ لتأمين إمدادات الماء الصالح للشرب في المناطق الساحلية، لتأمين تزويد السكان بهذا المورد الحيوي، من خلال اللجوء إلى استغلال الموارد غير التقليدية خاصّة ما تعلق بصناعة تحلية مياه البحر وبناء محطات جديدة تضاف إلى المحطات الموجودة سابقاً.
وتعمل الحكومة الجزائرية، بحسب حيمران، على مضاعفة الوتيرة لإنهاء إنجاز محطات التحلية الجديدة، حيث أمرت بضرورة استغلال هذه المشاريع الكبرى قيد الإنجاز لدمج الكفاءات الجزائرية، خاصة الشبانية والجامعية منها، وتشجيع المصنّعين المحليين على إنتاج التجهيزات والعتاد والأجزاء الميكانيكية وقطع الغيار المُكوّنة لهذا النوع من المحطات، بالإضافة إلى التقدّم أكثر في هذا التخصّص، تحقيقا للتحكّم الواسع في تقنياته؛ لأنّه حسب تقديرات الأمم المتحدة، فإنّ عام 2026 سيكون ثلثي سكان العالم معنيين بتحدّيات المياه الصالحة للشروب.
وعي بقضايا المياه
أفاد البروفيسور محمد حيمران، أنّ الجزائر تمتلك 25 محطة لتحلية مياه البحر، وتحتلّ المركز الأول على المستوى الإفريقي في هذا المجال، إذ من المقرر إنشاء واستلام 11 محطة أخرى ضمن البرنامج التكميلي الذي تمّ إطلاقه في عام 2022م، منوّها أنّ تحلية المياه تتمّ أيضًا في الجنوب الكبير؛ نظرا إلى طبيعة ملوحة المياه الجوفية في بعض المناطق الصحراوية.
وأضاف حيمران أنّ الجزائر تملك أسطولاً مكوّناً من 14 محطة لتحلية المياه موزّعة على طول الشريط السّاحلي للبلاد، ومع إطلاق البرنامج التكميلي لرئيس الجمهورية، الذي يتكون من خمس محطات جديدة (كلّ محطة لها طاقة وحدوية 300 ألف متر مكعب يوميا)، ستصل الجزائر إلى 3.6 مليون متر مكعب يومياً.
ولفت الخبير إلى أنّ محطات تحلية المياه قيد الإنشاء حالياً ستبدأ العمل تدريجياً، اعتباراً من شهري فيفري ومارس 2025، وبمجرّد تشغيل البرنامجين التكميليين بالكامل، فإنّ القدرة الإجمالية لتحلية المياه في الجزائر ستصل إلى 5.6 مليون متر مكعب يومياً، متوقعاً أن تساعد هذه الزيادة المعتبرة في الإنتاج بالحدّ من مشكل نقص المياه الذي أرّق البلاد الآونة الأخيرة، في ظلّ تفاقم تأثيرات تغيّرات المناخ والطقس.
ويُمثّل كلّ هذا الأمر، خطوة كبيرة إلى الأمام بالنسبة للجزائر، حيث سترتفع حصة المياه المحلاة لتلبية احتياجات البلاد من مياه الشرب من 18 % حالياً إلى 42 %.
ورغم استهلاك محطات صناعة تحلية المياه المرتفع للطاقة، وضعت الدول الجزائرية في الحسبان بيع المياه المحلاة للمواطنين بالسعر المدعّم، بهدف ضمان وصول الماء إلى كافة الجزائريين بأسعار مخفّضة جدّا تتناسب مع قدراتهم الشرائية، بحسب قوله. ويعكس المُعطى الإيجابي، مثلما يرى حيمران، وجود رؤية استشرافية ووعي لدى الجزائر بالقضايا المتعلقة بالمياه؛ ذلك أنّه مورد أساسي ضامن للاستقرار والأمن والتنمية الاجتماعية والاقتصادية للوطن، بدليل ولوجها الاستثمار المكثّف في تحلية المياه، قصد تقليل اعتمادها على المصادر التقليدية المعرّضة للمخاطر المناخية، فضلا عن كون هذا الجانب من محدّدات السيادة الوطنية في شقّها المتعلق بالأمن المائي القومي؛ الذي هو جزء لا يتجزّأ من السيادة الغذائية والفلاحية، وعاملاً أساسياً في الحفاظ على استقلالية البلاد.
شركات جزائرية بكفاءة عالية
أثنى البروفيسور محمد حيمران، على خبرة وتمرّس وجدارة الشّركات والمؤسّسات العمومية، على غرار الشركة الجزائرية للطاقة فرع مجمع سوناطراك، التي باتت تلعب دورًا أساسيًا في إنجاز مثل هذه المشاريع الوطنية الكبرى، وتتمتّع بكفاءات ومهارات تمكّنها من دمج أحدث التكنولوجيا العالمية في تنفيذ الأعمال، وضمان الجودة المُثلى والعالية في التشييد وحتى في الآجال التجسيدية القريبة، معتبراً كلّ المسؤولين من إطارات وتقنيين ومهندسين وعمال مهنيين ممّن أشرفوا على بناء محطات تحلية المياه من أفضل كفاءات الجزائر.
ولتحقيق هذه الغاية المُثلى مبدئياً، فإنّ المصانع الخمسة الجديدة مع قرب موعد دخولها مجتمعة حيّز الخدمة، نهاية شهري فيفري ومارس 2025م، ستكون بمثابة مساعد قويّ لبلوغ الأهداف المسطّرة، والأهم من كلّ هذا هو جاهزيتها لموسم الصيف القادم عندما يكون استهلاك المياه مرتفعاً نسبيا في أوساط الجزائريين، كما أضاف محدّثنا.
وقال الخبير بمركز البحث في الاقتصاد المطبق من أجل التنمية، البروفيسور محمد حيمران، أنّ الجزائر استثمرت مبالغ مالية ضخمة في سبيل تحقيق الأمن المائي الوطني، من خلال بناء محطات تحلية مياه على امتداد الساحل الوطني؛ مشيرا إلى ضرورة إرفاقها ببرامج خاصة بترشيد الموارد لتجنّب الإسراف والهدر والتبذير والحفاظ على المقدّرات الوطنية.
وفي هذا الخصوص، شدّد الخبير حيمران، على ضرورة تنظيم حملات توعوية وتحسيسية موجّهة للمجتمع كافة، تكون متّسمة بالديمومة والوضوح عبر ومضات تمثيلية وإشهارية متكررة في وسائل الإعلام العمومي والخاص، ووسائل التواصل الإجتماعي، بغرض الإسهام في تنمية الوعي الوطني للحفاظ على هذا السائل الحيوي الحياتي والثمين الموجّه للمستهلكين والصناعيين والفلاحين؛ لأنّ المياه صارت، اليوم، قضية رئيسية في العالم، لاسيما خلال السنوات القادمة في ظلّ بروز عواقب الاحتباس الحراري المتزايدة.
6 محطات بالطاقة الشمسية
وفي ضوء الجهود الحثيثة لمُواجهة أزمة المياه المُتنامية الناجمة عن تغيّر المناخ والنّمو السّكاني المُتعاظم، شرعت الجزائر أيضًا في تنفيذ خطة طموحة جدّاً لبناء ستّ محطات جديدة لتحلية مياه البحر تشتغل بالطاقة الشمسية، بحسب حيمران. ووفقاً للمصدر ذاته، فإنّ هذه الإستراتيجية تهدف إلى زيادة قدرات الدولة على تحلية المياه مع تقليل تكاليف إنتاجها وصناعتها اعتمادا على الوقود الأحفوري لإنتاج الطاقة.
وفي إطار التزامها بالتنمية المستدامة وفق قواعد الإنتقال إلى الطاقات المتجدّدة والنظيفة، تنوي الجزائر دمج مصادر الطاقات المتجدّدة خاصة الطاقة الشمسية في تشغيل محطات تحلية المياه في المستقبل، حيث تأتي هذه الخطوة في إطار رؤية استشرافية طويلة الأمد للانتقال إلى مزيج طاقة أنظف وأقلّ تكلفة إنتاجية، يضيف الخبير محمد حيمران.
نجم الدين سلطاني: هذه هي البرامج النهضوية..
من جانبه، اعتبر أستاذ العلوم الفلاحية بجامعة العربي التبسي في ولاية تبسة، الدكتور نجم الدين سلطاني، المياه عنصراً أساسياً في تحقيق التنمية المستدامة، وتلعب دوراً حيوياً في وتيرة النموّ الاقتصادي والاجتماعي، وتوفير الطاقة، وإنتاج الأغذية الصناعية والطبيعية، وتحافظ على سلامة النظم البيئية وبقاء الإنسان في محيطه، فضلاً عن ذلك تساهم بشكل مباشر في جهود تطويع المناخ وترطيبه.
ورأى الدكتور سلطاني نجم الدين أنّ الجزائر واجهت تحدّيًا متزايدًا فيما يتعلّق بمشكل المياه، يرجع إلى الظروف المناخية السائدة المتسمة بالجفاف وشبه جفاف الذي ضرب أقاليم الوطن، حيث أدّت إلى شحّ الأمطار والتساقطات وجعلتها غير منتظمة، ممّا هدّد جديا بتراجع الموارد المائية في وقت تتزايد فيه الحاجة الملحّة لهذا المورد الحيوي، بفعل النموّ السكاني المتصاعد، وازدهار القطاعات الاقتصادية الوطنية التي تعتمد أساسا على المياه مثل الصناعة والزراعة.
وقال سلطاني، في حديث مع «الشعب»، أنّ الجزائر لجأت إلى توطين مشاريع صناعة وتحلية مياه البحر لمواجهة المعضلة المطروحة، نظرا إلى توفرها على العديد من المزايا الهامة، وتعتبر ضرورية للمناطق التي تعاني من نقص في مصادر المياه العذبة التقليدية بما فيها السطحية والجوفية خاصة بشمال البلاد. كما تعمل السلطات الجزائرية بتوجيه سديد من رئيس الجمهورية، السيد عبد المجيد تبون، بكلّ جرأة وصرامة، على مواجهة شبح الجفاف المُقوِّض لوتيرة التنمية الشاملة والمستدامة، سعياً منه لضمان الأمن المائي القومي، وسط استمرار تراجع معدلات الأمطار على مدى العقد الأخير قاريا ومتوسطيا، الذي أثر كما هو الحال على بقية دول المنطقة.
وبفضل هذا البرنامج النهضوي في مجال صناعة وتوفير المياه، بحسب سلطاني، ستصبح الجزائر في المرتبة الأولى على مستوى إفريقيا، والثانية عربياً بعد المملكة العربية السعودية، في قدرات إنتاج مياه البحر المحلاة، بطاقة وطنية إجمالية ستصل تدريجيا إلى 3.7 مليون متر مكعب يومياً.
نصيب الفلاحة
أوضح الدكتور نجم الدين سلطاني، أنّ التدابير الرامية إلى تحسين وضعية الأمن المائي عبر تنفيذ سلسلة الإستثمارات الضخمة في مجال تحلية مياه البحر، من شأنها أن تقلّل الضغط تلقائيا على السدود والتجمّعات المائية الطبيعية، ويُعطي دفعة قويّة لمضاعفة مساحة الأراضي المسقية، وزيادة استصلاح الأراضي الخصبة في المناطق الساحلية والسهبية ذات الجودة والإنتاجية العالية لمختلف أصناف المنتجات الزراعية، خصوصا إنتاج محاصيل القمح والشعير والأعلاف، وهو ممّا سيؤدّي إلى تعزيز مسألة الإكتفاء الذاتي في الحبوب واللحوم الحمراء والبيضاء في المرحلة المقبلة.
كما تُساعد النظرة الجديدة لتسيير الموارد المائية في الجزائر، في الحدّ من الاعتماد على الموارد الطبيعية التقليدية العذبة، وفق ما يدعم نصيب الزراعة الوطنية ويضمن استدامتها، بتوفير قدر أكبر من مياه الرّي لفائدتها بموسمي السنة الواحدة «المتأخّر والمبكّر»، مع أهمية التوجيه باستخدام مياه تحلية البحر في السقي الفلاحي في المناطق الجافة الداخلية في خطوة ثانية بعد التغطية الإستهلاكية البشرية الكاملة في غضون السنوات القليلة القادمة، وفقاً للمختصّ ذاته.
وخلُص أستاذ العلوم الفلاحية بجامعة العربي التبسي، الدكتور نجم الدين سلطاني، إلى التأكيد على نوعية المكاسب الهامة التي حقّقتها الجزائر عبر تجسيد مشاريع كبرى في مجال تحلية مياه البحر في المنظور القريب، لاسيما على صعيد تحسين وضعية الأمن الفلاحي والغذائي، ورفع كفاءة التنمية الاقتصادية بالقدرة على تطوير مشاريع واستثمارات زراعية وصناعية على نطاق أوسع وأفسح في أقاليم الوطن الكبير.