شعلة أضاءت درب الشعوب الساعية نحو التحـرر في مختلـف أنحــاء الـعـالم
في الذكرى السبعين لثورة نوفمبر المجيدة، يقف الشعب الجزائري مجدّدًا أمام واحدة من أهمّ محطات تاريخه الوطني في العصر الحديث، التي قدّم فيها أكثر من مليون ونصف مليون شهيد في سبيل نيل الحرية والاستقلال من نير الاستعمار الفرنسي، ولم تكن ثورة نوفمبر مجرّد حدث وطني عابر، بل كانت شعلة أضاءت درب العديد من الشعوب الساعية نحو التحرّر في مختلف أنحاء العالم لاسيما الشعبين الصحراوي والفلسطيني..
ويمثل بيان أول نوفمبر 1954، المرجعية الثابتة التي لا تزال تُلهم الجزائر في بناء دولة ديمقراطية اجتماعية، كما أنّه يقدّم دروسًا قيّمة للأجيال القادمة حول معنى الاستقلال والحرية والنضال.
مرجعية الجزائر المنتصرة
لم يكن بيان أول نوفمبر مجرّد إعلان عن ثورة ضدّ الاستعمار الفرنسي الغاشم فقط، بل كان وثيقة تأسيسية لمستقبل الجزائر، حيث أرسى مبادئ دولة ديمقراطية واجتماعية تقوم على أساس المساواة والعدالة، ومنذ الاستقلال، اعتمدت الجزائر على هذا البيان كمرجعية ثابتة لا تقبل التقادم لبناء مؤسّساتها السياسية والاجتماعية، وهو ما يعكس توجّه الدولة اليوم نحو ضمان حقوق جميع مواطنيها والعمل على تحقيق التنمية بالتساوي بين مختلف المناطق وجهات الوطن.
المبادئ التي وردت في البيان النوفمبري، لا تزال تترجم اليوم في الحركية الاقتصادية التي تعرفها الجزائر منذ تولى الرئيس تبّون سدّة الحكم، ليطبّق سياسة رشيدة مرجعيتها ثورة نوفمبر، ومسارها الوفاء للشهداء، ويكرّسه في الدور الاجتماعي للدولة باعتبارها مسألة غير قابلة للنقاش، وهو ما ثبّته في دستور 2020 في المادة 223، حيث لا يمكن لأيّ تعديل دستوري أن يمسّ بالطابع الاجتماعي للدولة، وكذلك العلم الوطني والنشيد الوطني باعتبارهما رموز ثورة نوفمبر 1954 المجيدة والجمهورية والأمة.
نـوفمبر 2024.. إحياء الرسالـــــة وتجســيــد السـيـادة
وفي السياق، تستعدّ الجزائر لإقامة عرض عسكري ضخم، غدا الجمعة، بمناسبة الذكرى السبعين لثورة نوفمبر المجيدة، في احتفال وطني يجسّد استمرارية الروح الثورية، واستحضارًا لقيم النضال التي أرسى أسسها بيان أول نوفمبر 1954. ويأتي هذا العرض في لحظة تاريخية تحمل دلالات عميقة، حيث يعكس التزام الجزائر بترسيخ مفاهيم السيادة والحرية التي ضحّى من أجلها شهداء الثورة، وربط الأجيال الجديدة بالموروث التحرّري.
هذا الحدث لا يمثل استعراضًا للقوّة العسكرية الجزائرية فحسب، بل يرمز إلى أبعاد أعمق تتعلّق بإحياء الذاكرة الوطنية وترسيخ قيم الاستقلال التي شكّلت جوهر الهوية الجزائرية، كما يحمل العرض العسكري رسالة واضحة للأجيال الجديدة، مفادها أنّ بناء الدولة الجزائرية المنتصرة لم يكن مجرد مسعى سياسي أو اقتصادي، بل هو نتاج كفاح مرير وتضحيات لا تُنسى.
كما يعدّ العرض العسكري جزءًا من الرؤية الوطنية الشاملة التي تربط الماضي بالحاضر، حيث تسعى الجزائر إلى تعزيز هويتها التاريخية وتثبيت سيادتها عبر استعراض يعكس قوّة الجيش الوطني الشعبي، باعتباره الدرع الحامي للوطن ومكتسباته، كما أنّ هذا الاحتفال هو تعبير عن الالتزام الوطني تجاه استكمال مسيرة البناء والاستقلال التي تظلّ وفية لرسالة الشهداء الذين ناضلوا وضحّوا من أجل جزائر مستقلّة وذات سيادة.
في هذا السياق، يبرز العرض العسكري كحدث رمزي عميق يعكس قوّة الدولة واستمرارية مشروعها الوطني، ممّا يعزّز من تلاحم الشعب مع مؤسّساته وإرثه الثوري، ويجدّد العهد مع المبادئ التي تأسّست عليها الجزائر.
انتصــار للحريـة..
لطالما ربط المؤرخون بين ثورة التحرير الوطنية والنضال الفلسطيني، لاسيّما وأنّ كلا الشعبين واجها التحدّيات نفسها من ظلم واحتلال، وكلاهما كان هدفهم الأسمى تحقيق الحرية والاستقلال، هذا التشابه في المصير جعل من القضية الفلسطينية جزءًا لا يتجزأ من تاريخ ودور الجزائر في دعم حركات التحرّر في العالم، وفي مقدّمتها النضال الفلسطيني ضدّ الاحتلال الصهيوني.
ومنذ الاستقلال، كرّست الجزائر دعمها للقضية الفلسطينية على مختلف المستويات السياسية والدبلوماسية والاقتصادية، معبّرة بذلك عن روح التضامن التي زرعها بيان أول نوفمبر، الذي أكّد على الوقوف إلى جانب الشعوب المظلومة والطامحة للتحرّر. فقد قدّمت الجزائر دعمًا سياسيًا ومعنويًا كبيرًا للفلسطينيين، وشكّلت المنصّة التي انطلقت منها محطات مفصلية في تاريخ القضية الفلسطينية.
إعـلان دولـة فلسطــين بالجزائـر
لطالما كانت الجزائر حاضنةً لمشروع الدولة الفلسطينية، حيث شهد العالم في نوفمبر 1987 حدثًا تاريخيًا بارزا عندما أعلن الرئيس الراحل ياسر عرفات من أرض الجزائر قيام دولة فلسطين، هذا الإعلان جاء تتويجًا للجهود الجزائرية الحثيثة في دعم حقوق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وإقامة دولته المستقلّة، وقد أكّد هذا الإعلان على العلاقة العميقة التي تربط بين الجزائر وفلسطين، والتي تتجاوز الجانب الدبلوماسي لتصبح رمزًا للصمود والمقاومة.
مؤتمر لمّ الشـمل الفلـسـطيني..
ولقد واصلت الجزائر مساعيها في دعم قضية الشعب الفلسطيني، فكانت الحاضنة لجميع الفصائل الفلسطينية بمختلف أطيافها، ففي أكتوبر 2022، احتضنت الجزائر مؤتمر لمّ الشمل بين الفصائل الفلسطينية الذي جاء كجزء من الجهود الجزائرية لإعادة توحيد الصفّ الفلسطيني، وكانت الجزائر تدرك أنّ الوحدة الفلسطينية هي المفتاح الأوحد لمواجهة الاحتلال وتحقيق طموح الشعب الفلسطيني، وهو ما دفعها إلى تقديم المبادرات والمقترحات التي تهدف إلى إنهاء الانقسام الداخلي، وترجم هذا المؤتمر التزام الجزائر الدائم بدعم القضية الفلسطينية دون أيّ شروط، معتبرة أنّ الوحدة الفلسطينية تصبّ في مصلحة النّضال المشترك من أجل التحرّر.
دعم مـتواصل في مجلس الأمن
علاوة على ذلك، عملت الجزائر خلال العام الحالي، ومنذ انتخابها عضوا غير دائم في مجلس الأمن في جانفي 2024، على تكثيف جهودها لدعم القضية الفلسطينية على الساحة الدولية، واستخدمت الجزائر دبلوماسيتها الفاعلة لفضح جرائم الاحتلال الصهيوني في قطاع غزّة، والتي تصاعدت مع استمرار الهجمات الوحشية ضدّ المدنيين الفلسطينيين، ورغم الضغوطات التي تتعرّض لها الجزائر من قِبل بعض القوى الدولية، إلاّ أنّها بقيت ثابتة على مبادئها، رافضة التنازل عن دعمها الكامل لحقوق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلّة وعاصمتها القدس الشريف، وهو ما أكّد عليه رئيس الجمهورية، السيد عبد المجيد تبّون في خطابه التاريخي من منبر الأمم المتحدة في سبتمبر 2023.
ويرى العديد من المتابعين، أنّ الدور الفاعل للجزائر في مجلس الأمن يعكس التزامها التاريخي بدعم القضايا العادلة في العالم، وخاصّة قضية فلسطين، وكانت الجزائر ولا تزال صرخة في وجه الظلم، تدافع عن حقوق الشعب الفلسطيني في المحافل الدولية، وتعمل جاهدة لكشف الحقيقة وتوجيه الأنظار نحو معاناة الشعب الفلسطيني.
دعــم حركــات التحـرّر
وفي السياق، يوضّح أستاذ التاريخ الجزائر المعاصر، محمد بوعاتي، في تصريح لـ«الشعب”، أنّ ثبات الجزائر على موقفها الداعم للقضية الفلسطينية يأتي امتدادًا لرسالة الشهداء التي أكّد عليها بيان أول نوفمبر، فهو الوثيقة المؤسّسة للثورة الجزائرية - يقول بوعاتي - وشدّد على ضرورة الوقوف إلى جانب جميع الشعوب المضطهدة في العالم، ولم تكن القضية الفلسطينية استثناءً، بل على العكس، كانت جزءًا أساسيًا من هذه المبادئ التي تحملها الجزائر في كلّ مراحلها التاريخية.
ويضيف الدكتور بوعاتي: في ظلّ هذه الرسالة، بقيت الجزائر صامدة في وجه الضغوطات السياسية والدبلوماسية، مواصلةً دعمها غير المشروط للشعب الفلسطيني، ولم يقتصر هذا الدعم على الجانب السياسي والدبلوماسي فحسب، بل شمل أيضًا الدعم المعنوي والمادي، تأكيدًا على وحدة المصير بين الشعبين الجزائري والفلسطيني، والشعب الجزائري متناغم مع قيادته معبّرا على موقف ثابت وموحّد تجاه القضية الفلسطينية.
علاوة على ذلك، أكّد الدكتور بوعاتي أنّ التاريخ هو مصدر لا ينضب للعبر والدروس، وأنّ قوّة إلهامنا تنبع من ثورة التحرير المجيدة. ونحن اليوم، في احتفالنا بذكرى أبطالنا، نواجه المستقبل بأمل وتفاؤل كبيرين، وجيل اليوم يتحمّل مسؤولية بناء مستقبل مشرق يليق بتضحيات الأجداد.