أشـاوس جـيش التحرير الوطني تصـدّوا للمخطّطات الآثمة..

هكذاأحبطـت الولايــة السادســة مشـروع ديغول (2)

د. عبد الحميد دليوح جامعة الجزائر 2

مع بداية هيكلة الولاية بدأت وحدات جيش التحرير الوطني في الانتشار وتكثيف العمليات العسكرية ضدّ ثكنات الجيش الفرنسي في المناطق الجنوبية وضرب المواقع الاستراتيجية المتعلّقة بالمنشآت النفطية وأنابيب البترول وشاحنات النقل والطرق البرية، فتضاعفت المعارك والهجومات والكمائن نذكر منها على سبيل المثال إرسال دوريه  تنشط بالمناطق الجنوبية بقياده المجاهد الملازم رابح الأبيض، حيث نفّذت عدّة عمليات عسكريه بنواحي غرداية وبريان ومتليلي.

قامت مجموعة من الفدائيين بمدينه الأغواط بقياده قلوزة محمد، يوم 13 جويلية 1957، بتفجير مجمع توليد الكهرباء. وفجّرت خطوط السكك الحديدية التي تربط ما بين الشمال والجنوب، خط تقرت سكيكدة والجلفة البليدة، وقام أحد عناصر جيش التحرير الوطني، بتخريب في أماكن التنقيب عن البترول في تين السما قرب ايجلي 7 أوت 1957، وتم الهجوم على شاحنة نفط بالقرب من الحدود الجزائرية الليبية يوم 21 سبتمبر 1957، وفي 22 جانفي 1959 تم تفجير القطار رقم 3387 المحمّل بالبترول والمتوجّه من حاسي مسعود إلى سكيكدة، واستشهد خلالها منفّذي العملية الزواوي شراونة يوسف إيدير ومحمد عياش، كما سجّلت أيام 6 و 7 و 8 نوفمبر 1957 سلسلة هجمات شمال تيميمون على قافلة فرنسية تحمل تجهيزات ومعدّات ثقيلة للتفتيش عن البترول ومعها عدد كبير من الإختصاصيين في التنقيب عن النفط، ما بعث الاضطراب في صفوف العدوّ الذي لحقت به خسائر قويّه في العتاد الذي تم إحراقه، وفي الأرواح.
وفي يوم 04 أفريل 1959 ليلا، هجم كوموندوس لجيش التحرير الوطني بالأغواط على مركز ضباط شؤون الأهلية ومخيم عسكري، كما هجم كموندوس آخر على حظيرة البترول ومنبع للغاز الطبيعي على بمنطقه حاسي الرمل، وقام بتخريب عدد هام من الأجهزة والمعدات قدّرتها المصادر العسكرية الفرنسية بـ15 مليون فرنك.
وضعت الشركة الفرنسية للبترول الجزائري مع شركه ريبال مخطّطا لصنع أنبوب الغاز يمتدّ من حاسي الرمل ويمرّ بالأغواط وتيارت وغليزان، وأنبوب ثان يمتدّ من حاسي مسعود إلى بجاية، وقد حاولت السلطات الفرنسية أن يتم إنشاء هذا الأنبوب في أقرب وقت لكن نشاط جيش التحرير الوطني حال دون ذلك، وتوقّف العمل واضطرت الشركات البترولية إلى أن تطلب مزيدا من الإمداد لحماية أشغال بناء الأنبوب، وهكذا تم تعطيل أنبوب حاسي مسعود عام 1959.
ومع تنصيب محمد شعباني على رأس الولاية، برزت شخصيته القيادية، حيث أظهر كفاءة وقدرة سياسية وعسكرية كبيرة، ووعيا تاما بالسياسيات الفرنسية، لذلك، وبأمر من القيادة، كثف العقيد شعباني من العمليات العسكرية في الصحراء بهدف الضغط على فرنسا لدخول المفاوضات.
في هذا السياق، نسجّل شهادة المجاهد معراج جديدي : “كلّما تعثرت المفاوضات كانت وحدات جيش التحرير الوطني تقوم بعمليات عسكرية في قلب الصحراء، وبالمواقع التي تظن فرنسا أنّ الثورة لن تصل إليها، وأنا شاهد على أربع معارك مهمّة - على الأقلّ - مخصّصة لضرب أهداف ومصالح الشركات البترولية، ثم تلتها معارك في 1959 إلى غاية الاستقلال.
الشاهد من خلال ما سبق، أنّ العمليات العسكرية بالولاية السادسة، كانت تتناغم مع مسار المفاوضات، وتردّ ميدانيا على التعنّت الفرنسي في ملف الصحراء، وهذه هي الرسالة التي أرادت قيادة الولاية تبيانها للإستعمار الفرنسي، فالمسار التفاوضي متواز مع المسار العسكري، خاصّة في الصحراء في ظلّ “التفاوض تحت البندقية”، وهو المنطق الذي استطاعت جبهة التحرير فرضه على الجانب الفرنسي.
وتجنّدت الدبلوماسية الجزائرية بقوّة في قضية فصل الصحراء، ويظهر ذلك خلال أشغال الندوة العالمية الخاصة بالبترول التي انعقدت في نيويورك من 30 ماي إلى 5 جوان 1959، حيث سلّم وفد الحكومة الجزائرية ملفا يبين موقفه حيال قضية البترول الجزائري إلى المشاركين في الندوة، ونقتطع من هذا التقرير ما يلي: “إنّ النشاط العسكري لجيش التحرير الوطني الجزائري، نشاط شرعي يمكن أن تنجرّ عنه أضرارا خطيرة بأملاك الشركات الأجنبية وأرواح الفنيين العاملين بالمنشآت التابعة لهذه الشركات. إنّ مساهمة الشركات البترولية الأجنبية في العملية الفرنسية واهية، ترمي إلى استغلال خيرات بلادنا الطبيعية.. هذه المساهمة تتعرّض لأخطار كبيرة.. إنّ الحكومة المؤقّتة للجمهورية الجزائرية، تتبرّأ من الآن، من كلّ مسؤولية في هذا الصدد، وتأمل من الحكومات المسؤولة عن المحافظة على الأملاك والأرواح لرعاياها في الخارج، نأمل من هذه الحكومات المعنية بالأمر أن تعلم رعاياها بالأخطار التي يتعرضون لها عند مشاركتهم في عملية الحرب الاقتصادية الفرنسية بالجزائر.
وسارع عبد القادر شندرلي -ممثل الحكومة المؤقّتة في نيويورك - بإصدار بلاغ للشركات النفطية الكبرى، كان له أثر كبير في توضيح الحقائق وتفنيد المزاعم الفرنسية ودعايتها حول الأوضاع بالصحراء، جاء فيه إنّ “جيش التحرير الوطني متحكّم في كلّ ذرة من ذرات الوطن وهو في حالة استعداد لمواجهة المعتدين”.. ولقد كانت هذه الكلمات تعبّر عن الواقع في الصحراء الجزائرية بفضل الاستراتيجية القتالية التي تبنّتها قيادة الولاية وتتّضح مظاهرها في:
^ وضع الولاية في حالة استنفار قصوى وذلك بتكثيف العمليات الفدائية وزرع الألغام ونصب الكمائن والقيام بالهجومات على مراكز العدو ومنشآته الاقتصادية.
^ التنسيق التام مع مناطق الطوق المنطقة الثانية بالجنوب الغربي والمنطقة الثالثة في الجنوب والمنطقة الرابعة في الجنوب الشرقي، وبذلك تكون منشآت العدو تحت الضغط المستمر وتشعر الشركات الفرنسية والأجنبية أنّها محاصرة ومهدّدة يوميا في الأرواح والأموال والعتاد، وهذا ما يعزّز حالة اللاّأمن لدى هذه الشركات.
- تعزيز وتدعيم الجبهة الجنوبية التي بدأها مسؤوليها الأوائل الشيخ زيان عاشور وسي الحواس بإطارات تكون في مستوى الأحداث والمستجدات مثل احمد طالب، رشيد صايم، السعيد عبادو، احمد بن شرودة وغيرهم، لتنشيط الخلايا وتفعيل الأفواج التي زرعها المجاهدون محمد جغابة وعثمان حمادي وإبراهيم حليلو ومزيان صندل وبلقاسم مسعودي من منطقة غرداية ومتليلي حتى تمنراست.
المتتبع للوقائع والأحداث، يستنتج أنّ الولاية السادسة تكيّفت مع الحملات التمشيطية التي قادها الجنرال شال المدعّمة بقوات الحلف الأطلسي، واستطاعوا تجاوزها فكثفوا هجوماتهم على المواقع الاستراتيجية وضرب الأنابيب البترولية وتدمير شاحنات النقل البري والتفجير اليومي لخط السكة الحديدية الرابط بين مدينتي تقرت وسكيكدة.
وتعدّ المنطقة بين قرية السطيل والقنطرة، من أخطر المناطق أمنيا، حتى إنّ السلطات الاستعمارية لم تتوان عن استعمال المواطنين كدروع أمنية عند مرور القطار، تأمينا لجيشها ونقل البترول نحو الشمال، زيادة على الاشتباكات والمعارك الكبرى التي دارت رحاها في بوكحيل ومناعة وبوديرين والمحارقة، وفيها معارك دامت يومين كاملين، مثل معركة الكرمة وجريبيع المعروفة بمعركة 48 ساعة، لقد كانت الولاية السادسة أرضا ملتهبة في وجه الشركات البترولية ومحرقة لجيش الاستعمار.

معركة 48 ساعة “الكرمة وجربيع” 17 و 18 سبتمبر 1961

إنّ السبب المباشر في وقوع هذه المعركة الكبرى، هو الاجتماع الموسّع لقيادة الولاية السادسة بالمنطقة الثالثة، وتواجد هذا الكم والنوع من قيادات الولاية يعتبر بالنسبة للاستعمار الفرنسي فرصة من ذهب للقضاء على كلّ النشاط الثوري بالولاية، وإنعاش مشروع التقسيم الذي وقفت الولاية حجر عثرة في تنفيذه، عن طريق استهداف المنشآت النفطية والعسكرية الصحراوية، بالإضافة إلى التقدّم بخطوات عملاقة في المسار التفاوضي، خاصّة وأنّ العمليات العسكرية في الجنوب كانت تنعش المفاوض الجزائري وتقوّي موقفه من مسألة فصل الصحراء، والتي أخذت جهدا ووقتا كبيرين؛ لهذا كان تواجد كلّ قيادة الولاية السادسة بمنطقة الكرمة بمثابة الصيد الثمين الذي لا يجب أن يضيع بالنسبة لفرنسا، وهذا ما يفسّر القوّة النارية المستعملة.
عقد الاجتماع الموسّع برئاسة العقيد محمد شعباني بمنطقة الكرمة ببوكحيل ليلة 15 سبتمبر، بهدف تقديم التوجيهات وتوزيع الترقيات لقادة المناطق، وحضره على الخصوص: عمر صخري قائد المنطقة الرابعة، سليماني سليمان قائد المنطقة الثانية، مخلوف بن قسيم قائد المنطقة الثالثة، ومحمد شبشوب ملحق بقيادة الولاية الأولى، فاجتماع بهذا الحجم، لابدّ أن تتناهى أخباره للاستعمار الفرنسي ويلفت الأنظار، إضافة إلى فرار ثلاثة مجنّدين من الجيش الفرنسي من مركز مسعد والتحاقهم بجيش التحرير الوطني ببوكحيل في 12 أوت 1961 حاملين معهم ثلاثة بنادق خماسي ألمانية الصنع، وثلاثة رشاشات ماط 49، وألف خرطوشة وألبسة ووثائق مهمة يتقدّمهم الملازم الأول عيساني موسى، وكان هذا الفرار قاسيا وشديدا على قيادة الجيش الفرنسي بالمنطقة، الأمر الذي خلق جوّا هيستيريا ورغبة شديدة في الانتقام، وإلقاء القبض عليهم.
جرت أحداث المعركة في موقعين هما: الكرمة يوم 17 سبتمبر، وجريبيع يوم 18 سبتمبر، ويبعدان عن بعضهما بـ10 كلم، وهما عبارة عن جبال صخرية ترابية تتخللها شعاب عميقة وتتدفّق منها مياه عذبة، تغطيهما نباتات الحلفاء وبعض أشجار العرعار، ويعتبر الموقعان من الأماكن الاستراتيجية المحصّنة والمفضّلة للقتال لدى المجاهدين، خاصّة أنّ تسلّقهما صعب، ويكاد يكون مستحيلا بالنسبة للعربات، فهما بمثابة الحاجز الطبيعي الذي تحصّن به جيش التحرير الوطني، وكلا الموقعين في الوجه الجنوبي لجبل بوكحيل غير أنّ موقع جريبيع أكثر استراتيجية وحصانة من الكرمة.
أما من جهة التقسيم الإداري الثوري: الكرمة في قسمة 57 الناحية 2 المنطقة 3 الولاية 6، وجريبيع في قسمة 56 الناحية 2 المنطقة 3 الولاية 6، وهما في التقسيم الإداري الحالي بتراب بلدية عمورة دائرة فيض البطمة ولاية الجلفة (حوالي 110 إلى 115 كم جنوب مقر الولاية). وبلغ تعداد جيش التحرير الوطني في هذه المعركة 372 جنديا من مختلف مناطق الولاية، وقدّر تعداد الجيش الفرنسي بـ1400 جندي من الأغواط بسكرة بوسعادة وتقرت والجلفة، مدعّمين بـ40 طائرة والمدفعية الثقيلة و250 دبابة.
تشكّل جيش التحرير الوطني إبّان المعركة من القادة المشاركين في اجتماع ليلة 15 سبتمبر والأفواج التي حضرت معهم، فشارك فيها من الناحية الأولى من المنطقة الثالثة: 12 مجاهدا من كتيبة قسمة 53 بقيادة العريف الأول العسكري بلقاسم مستاوي، و50 مجاهدا من كتيبة قسمة 54 بقيادة المساعد عبد الجبار بن المداني، ومن الناحية الثانية من المنطقة الثالثة : 70 مجاهدا من كتيبة قسمة 55 بقيادة المساعد محمد كحلة، و60 مجاهدا من كتيبة قسمة 56 بقيادة المساعد على قوجيل، و70 مجاهدا من كتيبة قسمة 57 بقيادة المساعد لخذاري زيان، و50 مجاهدا من كتيبة قسمة 58 بقيادة المساعد محمد الهادي عبد السلام الذي سقط شهيدا في خندقه، ومن مركز الناحية الثانية من المنطقة الثالثة، شارك 20 مجاهدا بقيادة الضابط على الشريف، ومن مركز قيادة المنطقة الثانية 10 مجاهدين بقيادة الضابط الشهيد البطل مخلوف بن قسيم والملازم الأول بوجمعة قرمة والملازم ثامر بشيري.
ومن مركز قيادة الولاية 30 مجاهدا على رأسهم العقيد محمد شعباني قائد الولاية والضابط شبشوب من الولاية الأولى أوراس النمامشة رفقة زوجته، وكانا ضيفين على الولاية السادسة.
وتوالت الأخبار.. في الساعات الأولى من يوم 16 سبتمبر 1961 أفادت بأنّ القوات الفرنسية متوجّهة نحو الكرمة، فاتخذت جملة من التدابير كأن تأخذ كلّ كتيبة موقعها الخاص وتحضير الأخاديد لكلّ فرد وترتيبهم حسب نوعية السلاح والتزوّد بالمؤونة الكافية ليوم واحد غذاء وماء وذخيرة. وفي مساء يوم 16 سبتمبر بدأت أولى الطلعات الجوية للطائرات الاستكشافية وتم اكتشاف الموقع بالنسبة للجيش الفرنسي.
في منتصف الليل، بدأت أضواء الشاحنات الفرنسية تظهر، وكانت أهمّها فرقة من اللفيف الأجنبي القادمة من الأغواط، بالإضافة إلى حشود أخرى من الجلفة بوسعادة وأولاد جلال ومسعد وعين الملح وفيض البطمة وتقرت.
وفي حدود الساعة السابعة صباحا يوم 17 سبتمبر 1961، امتلأ موقع “ الكرمة “ بالجيش الفرنسي بتقديرات تصل لـ1400 جندي و150 دبابة و18 بطارية مدفعية، وتم تطويق جيش التحرير الوطني بالكامل.. شرعت القوات الفرنسية أولا بالتحليق بالطائرات الكاشفة مدّة في سماء الموقع، ثم تلتها مباشرة الطائرات القاذفة والمقنبلة، حيث قصفت بوحشية المواقع مدّة ساعة تقريبا دون انقطاع، حيث يضمّ السرب الواحد بين 9 و 12 طائرة.. وكانت هذه الأسراب تنطلق من قواعد عين وسارة، تلاغمة، الأغواط والجلفة، أما طائرات الهيلوكوبتر فكانت من عين الديس بوسعادة وتعود إليها ذهابا وإيابا، وقد قدّر عدد الطائرات التي شاركت في المعركة بنحو 40 طائرة بأنواعها المختلفة: منها ب 26 ب 29 ، تس، والطائرات الصفراء (كما يسميها المجاهدون)، إضافة إلى طائرات الهيليكوبتر بأنواعها. وكانت بذلك سماء المعركة مغطاة بالطائرات طوال اليوم.
أما القنابل التي استعملت في القصف، فهي متعدّدة الأنواع منها القنابل الكبرى التي تزن بالأطنان والتي إذا سقطت في موقع تترك به حفرا عميقة، وكذا قنابل النار “المحرقة”، قنابل النابالم، قنابل الغاز المتعفّنة ذات الرائحة الكريهة والتي تأتي على الأخضر واليابس وقنابل الروكات.. هذه الأنواع لا يزال حطامها بالموقع، والوسيلة الوحيدة التي كان يحتمي بها المجاهد لم تكن تتمثل سوى في غطاء أو قشابية.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19628

العدد 19628

الأربعاء 20 نوفمبر 2024
العدد 19627

العدد 19627

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024
العدد 19626

العدد 19626

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024
العدد 19625

العدد 19625

الإثنين 18 نوفمبر 2024