فرنسا تعلن أنها تسحب قواتها من مالي وتعيد هي وعدد من حلفائها نشر قواتهم. إنه خبر حدث.
لكن هناك مقدمات سبقت هذا القرار، وهي تقول إن القرار لم يكن فرنسيا بالأساس، لأنه نتيجة لتطورات ونتيجة لتجربة وممارسات، قيّمتها قيادة دولة مالي أنها لم تعد مقبولة، وأن فوائد وجود القوات الفرنسية، بذريعة مكافحة الإرهاب، محدودة في أحسن الأحوال ولها سلبيات كثيرة. ومثلما قال الرئيس الفرنسي، فمكافحة الإرهاب لا يمكن أن تكون ذريعة مقبولة إلى ما لا نهاية، لا لتبرير التواجد ولا لانتقاد قرارات نخب دولة قدرت أن مصلحة بلدها ودولته لا تتطابق مع حسابات الدولة الاستعمارية السابقة.
على كل التقييم كان يقول، منذ مدة زمنية، إن حسابات الدولة الفرنسية ومصالحها، لم تعد تتطابق مع مصالح الكثير من البلدان الإفريقية. نتذكر «الثورة» المتصاعدة ضد «الفرنك الإفريقي» وتقدير الكثير من النخب في جل البلدان الإفريقية الفرانكفونية، أن هذا النظام يخدم الاقتصاد الفرنسي أكثر مما يخدم اقتصاديات البلدان التي تتعامل به، وأنه كان عامل تعطيل وعامل تبعية غير نافعة.
لهذا يمكن القول إن مؤشرات كثيرة تدفع للاعتقاد أن الزمن اليوم غير الزمن الذي تلى نهاية النظام الكولونيالي وأن طبيعة العلاقة بين القوة الاستعمارية السابقة والقوى الجديدة في الكثير من بلدان القارة وشعوبها، ينبغي أن تعرف تحولات متناسبة مع التحولات العميقة التي عرفتها، وينبغي أن تتناسب مع تطلعات الشعوب إلى مزيد من الحرية وإلى التخلص ما أمكن من التبعية.
وينبغي القول أيضا، إن «التعاون» الإفريقي الأوروبي، أو مع الغرب ككل بشكل خاص، ينبغي أن يذهب، ليس فقط نحو معالجة انشغالات الشمال، بل ينبغي أن يذهب أيضا لانشغالات بلدان الجنوب ومنها بلدان القارة الإفريقية.
إن «محاربة الفساد» ومحاربة «الفقر» وتقليص «ظلم» قواعد التبادل الدولي كما هي قائمة، صار ضرورة، لا ترفضها دول الغرب فقط، بل لا تعيرها الاهتمام إلا بقدر ما يخدم مصالحها. فالأنظمة التابعة والتي لا تعمل على التخلص من التبعية، ومهما كان نظامها السياسي ومهما كانت طبيعة علاقتها بمواطنيها، هي أنظمة «مقبولة»، أما كل من يتجه نحو العمل على انتزاع قواعد علاقة جديدة وانتزاع منافع أكبر لصالح بلاده وشعبه فهو «مارق» وينبغي نعته بأسوإ النعوت. تلك ممارسات متكررة وواضحة منذ زمن بعيد؛ زمن ما بعد الظاهرة الاستعمارية وزمن الاستعمار الجديد.
حاجيات شعوب القارة الإفريقية، في مالي وفي السودان، في جنوب إفريقيا وفي الجزائر وغيرها، لا تتطابق اليوم مع حسابات بلدان الشمال وحسابات تدافعهم المصلحي غير النزيه. على القارة أن تنحاز لشعوبها وتنتزع قواعد تعامل وتبادل جديدة أكثر إنصافا.