طباعة هذه الصفحة

تضفي لمسـات جماليـة علـى المولـد النبـوي الشريــف

الجلفـة..أفراح تعانــق نفحـات الإيمـان

موسى دباب

 في ذكرى المولد النبوي الشريف، تتشارك مختلف فئات المجتمع بولاية الجلفة في إحياء هذه المناسبة العطرة، وسط أجواء روحانية واجتماعية خاصة تمتزج فيها العادات الشعبية بالبعد الديني. وتبرز ملامح الاحتفال من خلال صور وطقوس متعددة، تعكس عمق ارتباط السكان بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم ومحبتهم له، وتجعل من الذكرى محطة لتوريث التقاليد للأجيال.

 قبل حلول الذكرى، تنشغل العائلات الجلفاوية بتهيئة البيوت وتحضير أطباق تقليدية مثل الرشتة، الكسكس، البركوكس، والرفيس، حيث تظل هذه العادات عنوانا للذاكرة الجماعية في المنطقة. وفي ليلة الاحتفال، تجتمع الأسر حول الموائد، وتكتمل الأجواء بفرحة الأطفال الذين يشعلون الشموع ويلعبون في الأحياء، بينما تتبادل العائلات الزيارات والتهاني، وغالبا ما تتقاسم الجارات الأطباق والحلويات في عادة متوارثة تجمع بين البيوت القريبة وحتى البعيدة.
ولا يقتصر الاحتفال على المنازل، إذ تحرص بعض الأسر على إخراج أطباق وحلويات إلى المساجد في صورة رمزية تؤكد الطابع الجماعي للمناسبة، ليظل المولد حدثا يجمع بين الدفء العائلي والمغزى الديني.

لمسـات التّكافــل ترسـم البهجـــة

 تعرف أسواق ومحلات الجلفة في هذه الأيام حركية استثنائية، حيث يقبل المواطنون على شراء مختلف المستلزمات من مواد غذائية ولحوم وفواكه ومكسرات، إضافة إلى الملابس والهدايا للأطفال. وتمتلئ محلات بيع الشموع والمفرقعات بالصغار المترقبين لليلة المولد، فيما تشهد محلات بيع مستلزمات الحلويات ازدحاما ملحوظا، في أجواء يغلب عليها طابع التحضير والفرح بالمناسبة.وبالموازاة مع ذلك، تلعب الجمعيات الخيرية والمحسنون دورا بارزا، إذ يطوفون على العائلات الفقيرة والمحتاجين حاملين إليهم مواد غذائية وهبات مختلفة، حتى تعم فرحة المولد الجميع دون استثناء. وتتحول هذه المبادرات إلى مناسبة لتجسيد قيم التكافل الاجتماعي التي يتميز بها المجتمع الجلفاوي.

نفحــات إيمانيـــة ومساجـد عامرة بالذّكر

 تلعب المساجد والزوايا في ولاية الجلفة دورا بارزا في إحياء المولد النبوي الشريف، حيث تبدأ التحضيرات مع مطلع شهر ربيع الأول، وقبله بأيام، لتتواصل الدروس والمحاضرات طيلة الشهر. وتتميز هذه الأنشطة بمحتواها التربوي والديني، إذ يقدم الأئمة والمثقّفون دروسا في السيرة النبوية، ويعرفون بأخلاق النبي الكريم وشمائله المحمدية وسيرة أصحابه الكرام، في جلسات تجمع بين جيل الشيوخ والشباب والأطفال.
وفي ليلة المولد، تتزين المساجد بحلل بهية، وتضاء الشوارع المحيطة بها بالمصابيح الملوّنة، بينما تعقد حلقات الذكر وقراءة “البردة” والمدائح النبوية. وتشكل هذه العادة مشهدا يجمع الصغار والكبار في أجواء تسقي الوجدان وتبعث في النفوس راحة وسكينة.
ويفضّل الكثير من المصلين البقاء بين صلاتي المغرب والعشاء، في الكثير من مساجد الولاية، مثل المتير، السعاداة، العباس، لحضور حلقات السيرة النبوية، حيث يجلس الجميع في حلقة واحدة يستمعون إلى الإمام أو المنشدين، ويسترجعون ذكريات جميلة مازالت راسخة في أذهانهم. وما زال هذا التقليد قائما، حيث يردد المصلون القصائد والمدائح بصوت واحد، في مشهد يثير الحنين ويغرس في الأجيال الناشئة حب النبي صلى الله عليه وسلم.
وتزداد الأجواء دفئا عندما تصل قصع الكسكس بالدجاج وأطباق الحلويات والمسمن والطمينة والمكسرات، من البيوت المجاورة وحتى البعيدة، لتوزع داخل المساجد على الحاضرين وتتقاسمها الأيادي في بيوت الله. كما يأخذ بعض المصلين قليلا منها إلى بيوتهم كبركة من المسجد.وتظل هذه الطقوس الروحانية علامة فارقة في وجدان سكان الجلفة، إذ تملأ الفراغ العاطفي للأجيال وتربطهم بمساجدهم وقيم دينهم، في مشهد يختصر عمق العلاقة بين المجتمع وسيرة نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم.

المولد فرصة لغرس المحبّــة في  القلوب

 ومن جانبه، أشار فضيلة الشيخ أبو الحسن الميلود قويسم إلى أنّ “الاحتفال بالمولد المحمدي يمثل فرصة لتربية الأجيال على حب النبي صلى الله عليه وسلم والتعرف على سيرته، ولكن ليس بالمفرقعات والغلاء والجشع والاختراقات والاحتكارات”، وأوضح أنّ “الذكرى لا تقتصر على المظاهر، بل تشمل المدائح والمحاضرات والتكريمات والتشجيعات والعيادات والزيارات والتوسعة والصدقات، والجلسات واللقاءات”، وأن “هذا هو الاحتفال الذي تعودناه لدى مجالس مشايخنا وعلمائنا ومساجدنا ومدارسنا وزوايانا، ولا زلنا ولله الحمد في منهجه وأريجه وأجوائه”، وأبرز أن مثل هذه المناسبات تجمع أفراد المجتمع على الخير وتعيد ترسيخ القيم الأصيلة التي توارثها الجزائريون جيلا بعد جيل. وشدّد الشيخ على أن إحياء المولد ينبغي أن يبقى مدرسة تربوية وأخلاقية، يتعلم فيها الناس الصدق والرحمة وصلة الأرحام، ليكون الاحتفال جامعا بين البعد الروحي والجانب الاجتماعي. واستطرد قائلا “أَبَانَ مَوْلِدَهُ عَنْ طِيْبِ عُنْصُرِهِ..يَا طِيْبَ مُبْتَدَإٍ مِّنْهُ وَمُخْتَتَمِ”، فأكرِم بها من ذكرى، وأنعم بها من مناسبة تباشرت بها الأملاك والأفلاك، وازدانت بها الملكوت، وَتَوَالَتْ بُشْرَى الْهَوَاتِفِ أَنْ قَدْ..وُلِدَ الْمُصْطَفٰى وَحَقَّ الْهَنَاءُ”.