طباعة هذه الصفحة

الهيدورة..الشكوة والخليـع..

هذه ثوابت عيد الأضحى بالجلفـة..

موسى دباب

في ولاية الجلفة، لا يستقبل عيد الأضحى كأي مناسبة عابرة، بل تعيش المنطقة على وقع تحضيرات واسعة تعيد إلى الأذهان طقوسا متجذرة، تنبعث رائحة الماضي في تفاصيل حاضرة. إنه أشبه بإحياء ذاكرة جماعية تستفيق من سباتها مرة في السنة، تلبس فيها المدينة “الهيدورة” التقليدية، وتشتعل الأفران القديمة برائحة “ الخليع” المعلق تحت شمس الفناء، وتنبعث في الأزقة أصوات التكبير وصدى الخراف التي تقاد نحو شعيرة الأضحية بحرص ووقار.

مع اقتراب العيد، تتحول أسواق المواشي بالجلفة إلى مهرجانات غير معلنة. الشيوخ يقفون كقضاة خبرة في تقييم الأحجام، تفحص القرون والأسنان، لمس الظهر، وسؤال صاحب الحظيرة عن نوعية العلف. الشراء هنا ليس مجرد صفقة مالية، بل طقس اجتماعي يشارك فيه الأب، والابن، وأحيانا الجد.
بين الحظائر، يتنقل الناس كمن يبحث عن قطعة من البركة. وكثيرون يشترون الأضحية حتى لو تطلب الأمر الاستدانة أو التقسيط. “الخروف لازم ولو على حساب أشياء أخرى”، يهمس أحد الآباء، بينما يقبض على يد ابنه الذي لا يهمه السعر بقدر ما يترقب لحظة وصول الكبش إلى البيت.

ليلة العيد..تزيين الكبش بالحناء

بعد صيام يوم عرفة، تبدأ الأجواء الاحتفالية، النساء ينشغلن بتنظيف البيوت وتزيينها، والرجال يشحذون السكاكين ويجهزون أدوات الذبح. الأطفال تزين أيديهم الحناء، والعجائز يضعن العطور والحناء في طقس رمزي يجمع بين الزينة والبركة. ويزين الكبش بالحناء على جبهته، في إشارة إلى التقدير والنية الطيبة.

صلاة العيد وشعيرة النحر

في صباح العيد، تعود الجلفة إلى ملامحها القديمة، ومع أولى التكبيرات، تمتد سجاجيد الصلاة في ساحات المساجد والمصليات. يرتدي الرجال لباسهم التقليدي ويتوجهون لأداء الصلاة، بينما يترقب الأطفال أضاحيهم بشغف.
عند العودة، لا تنحر الأضاحي إلا بعد أن يذبح الإمام أضحيته، احتراما للسنة. وغالبا ما يتكفل بعملية النحر رب الأسرة، يساعده الأبناء في تجربة تربوية تترسخ في الذاكرة. يبدأ بالتسمية “بسم الله، والله أكبر”، ثم يشرع في عملية سلخ الجلد بعناية ليحضر لاحقا كـ “هيدورة”.

الهيدورة والشكوة..حين تعود الحياة للجلد

تسلم الهيدورة إلى العجائز، اللواتي يغسلنها بصابون البلدي المعروف بـ “صابون الطرف”، وتفرك بالحليب والملح حتى تلين. لتستخدم هذه الهيدورة كفراش أو سجادة صلاة. وفي الأرياف، تتحول إلى “شكوة” يمخض فيها الحليب لاستخلاص الزبدة واللبن، استمرارا لدورة الفائدة من الأضحية.

الخليع..ذوق العيد الممتدّ إلى عاشوراء

في تلك الدقائق المبكرة، تبدأ حركة نسائية نشطة في باحة الدار، حيث تجهز المساحة للعمل الجماعي، تشوى رؤوس الأضاحي “البوزلوف”، تنظف الدوارة، وتعد القدور استعدادا لأول وجبات العيد.
ويوزع جزء من اللحم على الفقراء، وجزء يخصص لوجبات العيد. ويبدأ رب الأسرة بلقمة من كبد الأضحية، وأول طبق تقليدي يعد هو “الدوارة”، ثم طبق الـ “بوزلوف” المحبوب.
ومن تقاليد المنطقة أيضا إعداد “الخليع” وهو لحم يغلى في الماء والخل والملح، ثم يجفف في الشمس لعدة أيام، ويخزن ليستهلك لاحقا، غالبا في عاشوراء.

صـــــــوف الأضحية..مداد في الكتاتيب

ما يزال في بوادي الجلفة وقراها من يجمعون صوف الأضاحي بعناية، ثم يحرقونه ببطء لاستخلاص مادة “المداد” أو “الدواية”، تلك المادة السوداء التي كانت تستخدم كحبر في كتابة الدروس على الألواح الخشبية في الكتاتيب القرآنية.
ومع انقضاء طقوس نحر الأضاحي، تعود الحياة إلى ساحات البيوت، حيث تشتعل جلسات الشواء، وينتشر عبق الطعام بين الجيران الذين يتبادلون الأطباق ويزورون الأقارب، مستعيدين بذلك دفء الروابط الأسرية وأصالة العيد.