تجربـة غامرة وغنية بالتفاصيـل تحفـز الحـواس وتعـزز الانتمـاء
في ظل التحولات الرقمية المتسارعة، برز الواقع الافتراضي أداةً ثوريةً في تنشيط السياحة الثقافية، حيث أتاح استكشاف التراث بأساليب تفاعلية وغامرة تعيد تشكيل العلاقة بين السائح والمكان. وبفضل هذه التقنية، أصبح ممكنا الوصول إلى المواقع التراثية وتعزيز التجربة السياحية دون قيود، إلى جانب التحفيز على زيارة المواقع فعليًا، وتحقيق الاستدامة، ودعم الاقتصاد السياحي..في المقابل، وجب الوعي الكافي بأهمية توظيف التكنولوجيا في هذا القطاع، وإلا فإن إمكاناتها ستبقى غير مستثمرة بالشكل الأمثل.
يمكن تعريف السياحة الثقافية بأنها السفر المُوجّه نحو استكشاف الفنون والتراث وأسلوب الحياة الفريد لوجهة ما، وهكذا، فهي تجمع بين مجالين حيويين، الأول هو الثقافة بما لها من دور محوري في المجتمع، وباعتبارها مكونا أساسيا في القوة الناعمة للدول، والثاني هو السياحة بأهميتها الاقتصادية على وجه الخصوص.
والسياحة الثقافية رافد هام في صناعة السياحة العالمية، وقد برزت كقطاع حيوي في اقتصاد السفر العالمي، فقد أشارت تقديرات منظمة السياحة العالمية إلى تمثيل السياحة الثقافية حوالي 40% من إجمالي السياحة الدولية، وهي نسبة كبيرة لها دلالتها الاقتصادية، حينما نعلم، وفقا لذات المنظمة، أن قطاع السياحة والسفر يمثل حوالي 10.4% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، أي ما يعادل 9.6 تريليون دولار، كما أسهم القطاع بنسبة 28% من إجمالي صادرات الخدمات على مستوى العالم.
الواقع الافتراضي..الفرص والتحديات
من جهته، يعرّف الواقع الافتراضي بأنه مجموعة من التطبيقات التكنولوجية التي تستخدم عن طريق أجهزة الحاسوب لخلق محاكاة افتراضية لبيئة ثلاثية، فالواقع الافتراضي هو خلق تفاعل مع بيئة متكاملة باستخدام جهاز الكمبيوتر، يسمح للمشاركين والزوار بالتعايش مع تجربة محاكاة واقعية وغير واقعية.
ويُعد كل من الواقع الافتراضي (VR) والواقع المعزز (AR) من التقنيات الناشئة والأدوات الواعدة الموظفة في المجال الثقافي. حيث تتيح هذه التكنولوجيا بناء بيئات رقمية غامرة تساعد على إحياء التحف والطقوس الثقافية بطريقة لم تكن ممكنة في السابق. كما تُمكِّن المستخدمين من معايشة أحداث أو سياقات تاريخية بشكل مباشر، مما يفتح آفاقًا جديدة للتفاعل مع التراث.
وقد أتاحت الرقمنة إنشاء معارض رقمية وتجارب غامرة تقدم تجارب تفاعلية داخل مواقع تراثية وأعمال فنية وممارسات ثقافية، مثل منصة «غوغل للفنون والثقافة» التي توفر جولات افتراضية لمتاحف ومواقع ومعالم ثقافية من مختلف أنحاء العالم. كما يقدم موقع التراث الثقافي غير المادي التابع لليونسكو خريطة تفاعلية تتيح استكشاف أشكال متنوعة من التراث حول العالم. وقد أتاح المتحف البريطاني في لندن أكثر من 4.5 مليون قطعة رقمية للاستكشاف عن بُعد، ما يعزز من فرص التفاعل مع التراث من أي مكان.
وقد أصبحت المتاحف الافتراضية شائعة، مؤخرا، لما توفره من سهولة الوصول إلى التحف والمعروضات من أي مكان وفي أي وقت، متجاوزة الحواجز الجغرافية، ومانحة الزائر حرية الاستكشاف وفق وتيرته الخاصة.
ومع ذلك، تفتقر المتاحف الافتراضية إلى التجربة الحسية والانغماس المكاني الذي توفره المتاحف التقليدية، كما قد تعاني من مشكلات تقنية، أو تخلق فجوة رقمية لدى من يفتقرون للمهارات أو الوسائل التكنولوجية. وتُثار تساؤلات حول أثرها على المتاحف المادية، هذه الأخيرة قد يؤدي تراجع الزيارات الفعلية لها إلى تهديد استقرارها المالي.
مــا يـراه الباحـثون..
في أكتوبر 2024، نشر كل من إسراء رضا ومروة فاروق وسامي إبراهيم، وهم دكاترة في مجال الدراسات السياحية بمصر، دراسة ميدانية حول «دور تقنية الواقع الافتراضي في تنشيط سياحة التراث الثقافي المادي».
وأشارت الدراسة إلى أن شركات السياحة أصبحت أكثر وعيا بإمكانات توظيف تقنيات الواقع الافتراضي في تسويق التراث الثقافي المادي وتنشيط الطلب عليه، وذلك من خلال إنشاء مواقع إلكترونية تقدم جولات افتراضية تتيح للسائحين استكشاف المعالم التراثية بطريقة تفاعلية.
كما أبرزت الدراسة دور الواقع الافتراضي في تحفيز السائح على زيارة المواقع التراثية فعليا، حيث تسهم العروض الافتراضية المقدمة عبر المواقع الإلكترونية في تكوين انطباع إيجابي لدى الزائرين، وتحفز الرغبة في خوض التجربة الواقعية. وانعكس ذلك في ارتفاع نسب التفاعل مع هذه المنصات ورضى المستخدمين عنها. وتؤدي هذه التطبيقات إلى رفع معدلات مبيعات الشركات من خلال التأثير العاطفي على السائح، وتعزيز ارتباطه بالمكان قبل زيارته، ما يمنح الواقع الافتراضي دورا مهما ضمن استراتيجيات التسويق السياحي الإلكتروني.
ووفقا للدراسة نفسها، تتضح أهمية الواقع الافتراضي كذلك في دعم استدامة السياحة، حيث يتيح للجهات المسؤولة تنظيم أعداد الزوار والحفاظ على المواقع المحمية من الضغط البشري الزائد، إذ يمكن للسائحين خوض تجربة الزيارة افتراضيا دون الإضرار بالموقع الأثري.
غير أن الدراسة رصدت أيضا بعض التحديات، أبرزها ضعف الوعي المجتمعي (لا سيما لدى السكان المحليين) بدور السياحة في التنمية الاقتصادية، مما قد يؤثر على فرص استثمار هذه التقنيات في بعض المناطق. كما أشارت الدراسة إلى الدور المتوقع لتقنيات الذكاء الاصطناعي في تحسين التفاعل مع المحتوى الثقافي، وتخصيص التجربة السياحية بحسب تفضيلات كل مستخدم.
وأوصى الباحثون الثلاثة بضرورة تعزيز التعاون بين شركات السياحة والجهات الرسمية لتوسيع نطاق تطبيق تقنيات الواقع الافتراضي، وتوفير التجهيزات اللازمة، مع إنشاء أقسام مختصة تتابع تنفيذ هذه المشاريع. كما دعوا إلى رفع كفاءة العاملين ببرامج تدريب متخصصة، والاستفادة من الخبرات العالمية، بالإضافة إلى استثمار هذه التقنيات في فترات الأزمات والركود السياحي كوسيلة فعالة لتعويض التراجع في الحركة الفعلية، وتحفيز الطلب المستقبلي. وركزت التوصيات أيضا على أهمية تنسيق المحتوى بين شركات السياحة ومكاتب التنشيط السياحي، لضمان أن تكون الجولات الافتراضية المقدمة ذات طابع تشويقي وجذاب يدفع الزائر نحو اتخاذ قرار الزيارة.
وفي ضوء ما كشفت عنه الدراسة من معيقات، مثل ارتفاع تكلفة أجهزة الواقع الافتراضي، ومحدودية العمالة المؤهلة، وغياب الخبرة المحلية في تصميم المحتوى، إضافة إلى ضعف الحملات التسويقية الخاصة بهذا النوع من السياحة، فإن تجاوز هذه التحديات يتطلب تدخلا مؤسسيا منظما، وسياساتٍ داعمة من الجهات الرسمية.
وخلصت الدراسة إلى أن تقنيات الواقع الافتراضي تقدم فوائد شاملة للعملية السياحية، إذ تتيح للسائحين استكشاف المعالم بتكلفة منخفضة والحصول على معلومات تساعد في التخطيط، بينما توفر للشركات أداة تسويقية فعالة تقلل التكاليف وتعزز قدرة منظمي الرحلات على جذب العملاء من خلال تجارب تفاعلية، كما تُسهم في تحسين بيئة العمل وترشيد الموارد ودعم استدامة المواقع التراثية.
«احكيلي القصبة»..تجربة جزائرية
في جوان الماضي، نشرت أميرة بن حمودة (جامعة الجزائر 3) مقالا علميا بعنوان «دور تقنية الواقع الافتراضي في ترقية السياحة الثقافية»، واختارت الجولة ثلاثية الأبعاد في التاريخ «احكيلي القصبة» نموذجا لدراستها.
تقول الباحثة إن هذه التجربة طُوّرت باستعمال برنامج Unity، وتوظيف تقنيات التصوير بزاوية 360 درجة ونظارات الواقع الافتراضي (VR)، لتوفير عرض غامر يُحاكي تفاصيل الحياة والعمران في القصبة العتيقة بالجزائر العاصمة. وتمتد الجولة لثمانين دقيقة، باللغتين العربية والفرنسية، وتعتمد على تقنية التأثير البصري مازجة عناصر السرد التاريخي بالصوت والصورة، في أسلوب تواصلي حديث يُسهم في إعادة تشكيل العلاقة بين الزائر والمكان التراثي.
يُعرض هذا المشروع حاليا داخل محطة المترو بساحة الشهداء، يوميا من التاسعة صباحا حتى السابعة والنصف مساءً، بسعر 200 دينار جزائري للفرد. ويضم الفضاء الرقمي المخصص للعرض قاعتين تفاعليتين: الأولى مجهزة بشاشة عرض كبيرة و20 مقعدا، كل منها مزوّد بنظارات واقع افتراضي، وتتيح تجربة جماعية منظمة. أما القاعة الثانية فهي فضاء أصغر مفتوح يحتوي على خمسة كراسي فردية مزودة بنظارات VR، لتوفير تجربة أكثر خصوصية.
ويمثل عرض «احكيلي القصبة» تجربة ثقافية متعددة الأبعاد، لا تقتصر على الترويج البصري للمكان، بل تتناول أيضا أبرز المكونات التراثية للقصبة، مثل الزليج والمعمار والأزقة الضيقة، بالإضافة إلى عرض الصناعات والحرف التقليدية واللباس التقليدي.
وترى الباحثة أن هذه التجربة تنطوي على عدة محاور رئيسية تسهم في تحسينها وتطويرها، أولها الأبعاد التقنية من خلال توظيف تكنولوجيا الواقع الافتراضي كوسيلة تفاعلية وانغماسية، في تجربة غامرة وغنية بتفاصيل دقيقة تحفز الحواس وتعزز الانتماء الثقافي والوعي بالتراث.
كما تذكر الباحثة الأبعاد الثقافية من خلال التعريف بالتاريخ الثقافي للقصبة، وإتاحة استكشاف معالمها للجميع، خاصة أولئك غير القادرين على الزيارة الفعلية. وتوجد أيضا الأبعاد الاجتماعية، من تعزيز الهوية والانتماء الثقافي، إلى التفاعل المجتمعي وتبادل الثقافات بطريقة جذابة.
ومن النقاط اللافتة التي أثارتها الباحثة، الأبعاد الاقتصادية: فإلى جانب مسألة تحفيز السياحة وجذب السائح (المحلي والأجنبي)، أشارت بن حمودة إلى أن «احكيلي القصبة» تحوّلت إلى خدمة مدفوعة (بمعنى مصدر دخل)، بالتعاون مع مؤسسات ثقافية وسياحية، حيث تم تنفيذ هذا المشروع بالتعاون بين المجلس الشعبي الولائي للجزائر العاصمة، ومؤسسة «مترو الجزائر»، وبالشراكة مع الديوان الوطني لتسيير واستغلال الممتلكات الثقافية المحمية، ومؤسسة خاصة للتنفيذ والإشراف.
في الأخير، قامت الباحثة بمقارنة هذه التجربة بتجارب عالمية رائدة، على غرار «المتحف الافتراضي لروما القديمة»، ووجدت أن «احكيلي القصبة» ما تزال في مرحلة مبكرة من التطبيق، فهي تقتصر على جولة رقمية محدودة في الزمان والمكان، ولا تتوفر بيانات رسمية حول فعالية التجربة في جذب السياح. مع ذلك، تعتبر الدراسة بأن هذا النموذج من أبرز الأمثلة على إمكانية توظيف الوسائط التكنولوجية الحديثة في إحياء الذاكرة الجماعية، وترويج المواقع التراثية، والتفاعل مع التراث بطرق غير تقليدية.