طباعة هذه الصفحة

كلمةٌ عن المِنهاج التّربوي التّعْليمي

من وَحْي تَجرِبَتنـا فِي المَيدان التّربوِيّ

الأستاذ علي كشرود جامعة الجزائر 2

 يعدّ المِنهاج التربوي التعليمي وسيلَة ضرورِيّة لِتحقيقِ أهدافِ التربية الشاملة المُعبرِ عنها في الوثيقَة المَرْجعِية التيْ تُوجّهُ النّظامَ التربوِي وتُعزّزه بِالفلسفَةِ المُستوحاةِ مِن واقِعِ المُجتمَعِ في بُعدِهِ التّاريخيِّ، والحضارِيّ، والدّينيّ، والاِجتِماعِيِّ، والثّقافِيِّ. وبِهذا، فهوَ نِظامٌ فرْعِيٌّ لِنِظامٍ كلّي أشمَلَ وأوسَعَ، هوَ: المُجتمَعُ، ومِن ثَمَّ يَنعَكِسُ عليهِ كلُّ ما يُصيبُ التّربِيّةَ مِن مُتغيِّراتٍ.

والمِنهاجُ التّربوِي، عبارَةٌ عن فضاءٍ تتحقَّقُ فيهِ كرامَةُ المُتعلِّمِ، وتتَشكَّلُ فيهِ كذلِك شخصيّةُ رجُلِ الغَدِ بل لِنَقُل: المُواطِنَ الرّقمِيَّ؛ لأِنّ مِنَ الغاياتِ النّبيلَةِ لِلمِنهاجِ التّرْبوِي، هوَ جعلُ المتعلِّمِ عُضوًا فاعِلا في عالَمِ المعرِفَةِ، وأداةً لا مَفرَّ منها لِتحقيقِ التّقدُّمِ المأمولِ لأِيِّ مُجتمَعٍ؛ ولِذا باتَتِ الدُّوَلُ المُتقدِّمةُ والأُمَمُ المُتحضِّرَةُ تُعطيهِ قَدرًا كبيرًا مِنَ العِنايَةِ والرِّعايَةِ بِهدَفِ تحقيقِ التّنميّةِ المُستدامَةِ، ودعمًا لِعِزّةِ المُواطِنِ حينَ تَمنحُهُ كلُّ المَواثيقِ المكانةَ اللَّائقَةَ في المُجتمَعِ. فالاِهتِمامُ بِالجانِبِ التّربوِيِّ والتّعليميِّ، معناهُ حِصانُ طَروادَةَ لِلاستثمارِ الحقيقيِّ في الإنسانِ، إذ بِهِما يتَقَدَّمُ المُجتمَعُ ويَزدهِرُ في مجالاتٍ شتّى، ومِن خِلالِهِما يَرسُمُ الإنسانُ تَصوُّراتِهِ لِمَنظومتِهِ الشّاملَةِ والمُتكاملَةِ، ويُحدِّدُ الفلسفَةَ المُجسِّدَةَ لِحرَكةِ حياتِهِ المُتعدِّدَةِ المناحي، سَعيًا منهُ إلى بِناءِ حياتِهِ، وما التّربيّةُ في أساسِها إلَّا مجموعةٌ مِنَ الأنشِطةِ الإنسانيّةِ الإيجابيّةِ المُرتبِطةِ بِمُتغيِّراتِ الحياةِ وتَطوُّرِها.
واِنطِلاقًا مِن هذا المَنظورِ الواسِعِ لِلمِنهاجِ التّربوِيِّ التّعليمي، فإنَّ الأُمَمَ تسعى في ظلِّ التّوجُّهاتِ الحديثَةِ لِعلمِ النّفسِ التّربوِيِّ إلى تطويرِ المناهِجِ الدِّراسيَّةِ، وبِناءِ الآليّاتِ الّتي تَسمَحُ بِتقويمِها وتَجديدِها لِتتّخِذَ مَنحًى مُغايِرًا يُميِّزُها عنِ المَناهِجِ السّابقَةِ. فالجزائرُ مثلًا، عَمِلَت على وضعِ مَناهِجَ تربوِيّةٍ جعلَتِ التّركيزَ فيها يَتَمَحوَرُ حولَ المُتعلِّمِ؛ لأِنّ تَحوُّلًا كبيرًا حدَثَ في دَورِ المُعلِّمِ في ظلِّ عناصِرِ النِّظامِ التّعليميِّ الجديدِ الّتي تَرمي إلى تَطويرِ التّعليمِ نحوَ اِقتِصادِ المَعرِفَةِ، هذا المُعلِّمُ الّذي تَنازَلَ عن دورِ المُلَقِّنِ لِيُصبِحَ المُوجِّهَ والمُشرِفَ، والباحِثَ، والمُقوِّمَ، ولِمَ لا: والمُتعلِّمَ أحيانًا! وفعلًا، فتَحَتِ المَنظومَةُ التّرْبوِيّةُ بِالجزائرِ عِدَّةَ وَرشاتٍ في ظلِّ ما يُعرَفُ بِالإصلاحِ القائمِ على النّظرَةِ التّطويريّةِ، مِن أَجلِ تَحديثِ المناهِجِ الدِّراسيّةِ، والكُتُبِ المدرَسيّةِ وتَضمينِها المفاهيمَ المُعاصِرَةَ مثلُ: ترْسيخِ الدِّمُقراطيّةِ، ودَعمِ حُقوقِ الإنسانِ، وتَثبيتِ الأبعادِ الوطنيّةِ والقَوميّةِ والإنسانيّةِ، وتَعزيزِ مَهاراتِ البحثِ العِلمِي لَدى المُتعلِّمِ.
لم تُغفِلِ الجزائرُ أهمِّيّةَ التّربيّةِ والتّعليمِ في بِناءِ المُجتمعاتِ، ولِذا عَمَدت إلى وضعِ اِستِراتيجيّةٍ مُستقبليّةٍ ترمي إلى بِناءِ مُجتمَعِ المَعرِفَةِ، هذِهِ الاِستِراتيجيّةُ المُرتكِزَةُ أساسًا على تَطويرِ النِّظامِ التّعليميِّ أينَ يوضَعُ فيهِ الفردُ الوضعَ اللَّائقَ، وأينَ تُعطى فيهِ الإنسانَ الأولويّةُ بِاِعتِبارِه أداةَ التّقدُّمِ والاِزدِهارِ، بِحيثُ تُوجَّهُ الأنشِطةُ جميعُها نَحوَ تَغييرِ ثَقافَةِ الفردِ داخِلَ مُجتمَعِه، إضافَةً إلى مَنحِ المِنهاجِ الدِّراسيِّ مَفهومًا مُرتبِطًا اِرتِباطًا شديدًا بِمُجتمَعِ المَعرِفَةِ على نَحوٍ دقيقٍ، لِيُجسِّدَ الخِبراتِ جميعَها الّتي تَعرَّضَ لها المُتعلِّمُ في مسارِهِ الدِّراسيِّ داخِلَ المدرسَةِ وخارِجَها، ويَصيرُ المتعلِّمُ في ضوءِ المَفهومِ الجديدِ لِلمِنهاجِ التّربوِيِّ عُنصُرًا مِن عناصِرِه، وتُصبِحُ المدرسَةُ بيئَةً تَعليميّةً اِجتِماعيّةً تَستوعِبُ المُجتمَعَ بِمُكوِّناتِهِ كلِّها: البشَريّةِ، والمادِّيّةِ، والمَعرِفيّةِ بعدَ أن كانت مُجرَّدَ مُحيطٍ مَحدودِ الأبعادِ يتعلّمُ الطِّفلُ في فضائهِ لا غيرَ.
ولأِنّ المعرِفَةَ وسيلَةٌ لا غايَةٌ، عَمِلَتِ المَنظومَةُ التّربوِيّةُ الجزائريّةُ على إكسابِ المُتعلِّمِ المهاراتِ والاِتِّجاهاتِ الّتي تَدفعُهُ وتُمكِّنُهُ مِن تَوْليدِ المعرِفَةِ واِستخدامِها في حياتِه اليوميّةِ مِن أجلِ تَحسينِ واقِعِ معيشَتِه، وأحوالِهِ المادِّيّةِ.
إنّ التَّطوُّراتِ السّريعَةَ الّتي يَشهدُها العالَمُ، وغزارَةَ المعارِفِ الإنسانيَّةِ والعلميّةِ المُتدَفِّقَةِ بينَ الفينَةِ والأُخرى، أحدَثَت شرخًا كبيرًا في المُجتمعاتِ البشرِيّةِ، وخَلَلًا في التّوازُنِ بينَ التِّكنولوجيّا الحديثَةِ وما نَتَجَ عنها مِن ثَورَةِ المَعلوماتِ، والحياةِ الاِجتِماعيّةِ بِمناحيها ومُكوِّناتِها، ما جعَلَ الفردَ غيرَ قادِرٍ على التّكيُّفِ معَ هذا الحَجمِ الكبيرِ مِن وسائلِ التِّكنولوجيّا، ما نجَمَ عن هذا العَجزِ لَدى الفردِ أن ظَهرَت وطفَت على السّطحِ مُشكِلاتٌ كثيرَةٌ ومُتنوِّعةٌ في المُجتمعاتِ البشرِيّةِ، وعلى وجهِ الخُصوصِ المُشكلاتُ المُرتبِطةُ بِالتّربيّةِ والتّعليمِ، مثلُ: تَدَهوُرِ العلاقَةِ بينَ المُعلِّمِ والمُتعلِّمِ، والتّأَخُّرِ المدرَسِيِّ، والتّسرُّبِ، والعُنفِ الجسَدِيِّ، وتَعاطي المُخدِّراتِ، وتَفشِّي السّرِقاتِ والاِعتِداءاتِ.. وغيرها مِنَ الآفاتِ الّتي تَنخُرُ جسَدَ المُجتمعاتِ وتُدخِلُها قاعاتِ الإنعاشِ؛ ولِهذا، أضحى مِنَ الضّرورِيِّ إيلاءُ التّربيّةِ والتّعليمِ العِنايَةَ الفائقَةَ كمًّا وكيفًا، وإعادةُ النّظرِ في كلِّ مُخرَجاتِها وبِخاصّةٍ المناهِج الدِّراسيّةُ بِالتّدقيقِ في مُحتواها، وفي الطّرائقِ واِستِراتيجيّاتِ التّدريسِ والتّقويمِ، والأنشِطةِ التّعليميّةِ، والوسائلِ الدّاعِمَةِ المُستخدَمةِ فيها معَ تَحديدِها وجعلِها مُواكِبَةً لِعالَمِ المَعرِفَةِ الجديدِ، عالَمِ التِّقانَةِ والرَّقمنَةِ، فضلًا عن تَعزيزِ المَناهِجِ الدِّراسيّةِ الجديدَةِ بِمبدأ التّعلُّمِ الذّاتِيِّ الّذي يَنبَغي أن يُغرَسَ في نَفسِ المُتعلِّمِ، والعَملِ على تَزويدِهِ بِآليّاتِ التّفكيرِ النَّقدِيِّ، وتَشجيعِهِ على البحثِ العلميِّ، والتّفتُّحِ على ثقافاتِ الغيرِ مِن غيرِ أن يَنسلِخَ عن تُراثِهِ الثّقافِيِّ الوطَنِيِّ والقَومِيِّ.