طباعة هذه الصفحة

يضع اللغة في صلب الاهتمام الفكري والثقافي

”تصـورات لغويـة”.. تحليـل نظـري وتفكـير عملي

فاطمة الوحش

أصدر الدكتور محمد بن عبد القادر حراث كتابا جديدا بعنوان “تصورات لغوية”، يندرج ضمن جهوده الأكاديمية المتواصلة في خدمة اللغة العربية، ويعكس رؤية علمية عميقة تُقارب قضايا اللغة من زوايا تركيبية وتأويلية وتداولية، تجمع بين التحليل النظري والتفكير العملي.

جاء الكتاب ليترجم رؤية علمية متكاملة، لا تقتصر على جمع مقالات متفرقة، بل تسعى ـ كما أشار المؤلف في مقدمته ـ إلى معالجة إشكاليات لغوية مهمّة، تمّت الإجابة عنها في بعض الفصول، وفتح باب النقاش في بعضها الآخر، ضمن مشروع معرفي يروم وضع اللغة في صلب الاهتمام الفكري والثقافي.
وفي مقدمة العمل، يشير المؤلف أيضا إلى أن الهدف من جمع هذه الورقات هو إتاحتها للطلبة والباحثين، كي تكون معينًا علميًّا لهم في دروب البحث، ووسيلة لفهم أعمق لقضايا اللغة من زوايا اصطلاحية وتداولية وتأويلية. بهذا التصور، يتحوّل الكتاب من كونه مجهودا فرديًا إلى مساهمة مفتوحة في نقاش جماعي حول اللغة في علاقتها بالهوية، والواقع، والمستقبل.
ويمتد الكتاب عبر ثلاثة عشر فصلا، كل منها يعالج قضية أو ظاهرة لغوية ضمن رؤية نقدية تحليلية، من أبرزها: العلاقة بين الجغرافيا والزمن في تطور اللغة، فلسفة المعنى النحوي، أثر دلالة المفردة في تفسير النص القرآني، ظاهرة الاعتزاز اللغوي وأثرها في تصحيح الأخطاء الشائعة، والتخطيط اللغوي في ظل الواقع الجزائري متعدد الألسن، حيث يقترح المؤلف مراجعة جادة لسياساتنا اللغوية الوطنية.
كما لا يغيب عن الكتاب البعد التطبيقي العملي، إذ يتناول فيه المؤلف قضايا كالدور الذي تلعبه اللغة في المجال السياحي، والبعد النفسي والثقافي للإشهار والدعاية، إلى جانب فصول حول الترجمة والهوية، خصوصًا في ما يتعلّق بالترجمة الطفلية التي تعاني غالبًا من التبسيط المخل أو ضعف الترجمة الثقافية، وهي مسائل قلّما تُطرق بهذا الوضوح في الدراسات العربية.
ولعلّ من بين الفصول المهمة، الفصل الذي خصصه لتوثيق جهود المجلس الأعلى للغة العربية، بوصفه مؤسسة محورية في الدفاع عن اللغة وخدمتها، إلى جانب التوقف عند رهانات الترجمة في توطين الهوية الثقافية، إذ يرى المؤلف أن الترجمة ليست مجرد تقنية لغوية، بل هي خيار استراتيجي في بناء وعي ثقافي وسياسي مستقل.
وما يجعل هذا العمل مهما في سياقه هو استناده إلى مراجع أصيلة، وتناوله القضايا بنَفَس تحليلي متدرج، يراعي تباين الخلفيات المعرفية للقراء، من طلبة الماستر والدكتوراه إلى المشتغلين في اللسانيات، مرورا بالمترجمين، والمدرّسين، والفاعلين في المؤسسات الثقافية والإعلامية.
الحضور الأدبي للمؤلف الذي أصدر عدة دواوين شعرية منها: “تراتيل يراع ولا إكراه في الحب” يظهر جليا في طريقة صياغته للمفاهيم والمعاني، إذ لا يُعامل اللغة كمادة تحليلية فقط، بل ككائن حيّ نابض، له روح وحسّ وزمن. وهو ما يجعل القارئ يشعر بأنه يتجوّل في فضاء لغوي غني، لا يخلو من عمق ولا من جمالية، كما أن المفاهيم لا تأتي جافة، بل مفعمة بروح إنسانية وفكرية.
للإشارة، الدكتور حراث محمد بن عبد القادر، من مواليد مدينة الشلف، يُعرف في الأوساط الأكاديمية بمشروعه المتدرج في خدمة اللغة منذ صدور أول كتبه سنة 2013 بعنوان “اعتراضات ابن طراوة النحوية على أبي علي الفارسي”. هذا الإصدار، الذي يعد التاسع في سلسلة أعماله، يكرّس مسيرة علمية تجمع بين البحث الدقيق والوعي برسالة اللغة في المجتمع.