طباعة هذه الصفحة

مهرجانات..سهرات وتبـادل ثقافي

الصيف الجزائري يـزهر فنًـا وتراثـــًا يُنعش الفضاء العمومي ويعزّز الهوية

سمية عليان/الهادي.ش

تشهد سهرات الصيف حركية ثقافية استثنائية عبر مختلف ولايات الوطن، حيث تعيش الساحات العمومية والمسارح المفتوحة عودة قوية للأنشطة الفنية والموسيقية والمعارض الثقافية، في مشهد يعكس انتعاش الحياة الثقافية ويعزز الديناميكية الاجتماعية.

وتندرج هذه الأنشطة ضمن البرنامج الوطني لموسم الاصطياف الذي تُشرف عليه وزارة الثقافة والفنون، بهدف تحويل عطلة الصيف إلى مساحة للفن والإبداع، وإعادة الاعتبار للثقافة كعنصر حيوي في التنمية المجتمعية وتعزيز الانتماء الوطني.

ليـــالٍ فنيـــة تُعيـــد الـروح لتبســـة..

في تبسة، أطلقت دار الثقافة “محمد الشبوكي” فعاليات “ليالي صيف تبسة 2025”، وهي تظاهرة تجمع بين الموسيقى، المسرح، الفنون التشكيلية، والورشات الإبداعية، وتستهدف مختلف الفئات العمرية من أطفال وشباب وعائلات.
وقد تم اختيار فضاء مسبح المركب الرياضي الجواري بـ«طريق عنابة”، ليكون نقطة انطلاق للأنشطة، ما يعكس الرغبة في استثمار الفضاءات المفتوحة وربط الترفيه الرياضي بالثقافة. كما تُقام فعاليات أخرى داخل دار الثقافة، وتتنقل إلى بلديات مجاورة، في إطار استراتيجية تقريب الخدمة الثقافية من المواطن.
وأكد منير مويسي، مدير دار الثقافة، في تصريح له، أن البرنامج يراعي التوازن بين الترفيه والتثقيف، ويعتمد على التنسيق مع الجمعيات المحلية والشركاء المؤسساتيين لضمان إشراك واسع للمجتمع، موضحًا أن الطابع الموسيقي للتظاهرة سيرتكز هذا الأسبوع على الأغنية الملتزمة والمالوف، لما لهما من صلة بالتراث الموسيقي للجهة الشرقية، إلى جانب إحياء الطبوع المحلية. كما أشار إلى أن هذه الفعاليات تعزز العلاقة بين الشباب ومحيطه الثقافي، وتوفر بديلًا ترفيهيًا صحيًا خلال العطلة الصيفية.

الــتراث بإيقــاع عصــري في القالــة

وفي القالة، كان الجمهور على موعد مع سهرة استثنائية بمسرح الهواء الطلق “عمار العسكري”، ضمن البرنامج الصيفي الثقافي المحلي.
أحيا السهرة الفنان القدير كمال القالمي، الذي قدّم باقة من الأغاني التراثية لامست وجدان الحضور، إلى جانب الفنان الشاب خالد الصغير، الذي تفاعل معه جمهور الشباب بأدائه العصري المنسجم مع تطلعات الجيل الجديد.
وقد تميزت السهرة التي نشّطها الإعلامي محمد بن قريد، بحضور جماهيري غفير وغير مسبوق، ضم العائلات والمصطافين وحتى أفرادًا من الجالية الجزائرية المقيمة بالخارج، الذين وجدوا في الفضاءات الفنية متنفسًا ثقافيًا يعكس تنوع المشهد الجزائري.
ولقي التنظيم إشادة من قبل الحضور، خاصة من حيث توفير الأمن والانضباط، بفضل جهود مصالح الأمن التي سهرت على ضمان سلامة التظاهرة، ما يعكس نضج تجربة تنظيم الفعاليات الفنية بالولاية، وقدرتها على استقطاب الجمهور وتوفير مناخ فني راقٍ.

تمنراسـت في ضيافــة الطـارف

أما في الطارف، فقد تحوّلت الولاية إلى فضاء تلاقي بين الشمال والجنوب، من خلال احتضان فعاليات أسبوع التبادل الثقافي مع ولاية تمنراست، بتنظيم مشترك بين محافظتي المهرجان المحلي للفنون والثقافات الشعبية بكل من الطارف وتمنراست، وبإشراف والي الولاية محمد مزيان.
وتهدف هذه التظاهرة إلى مد جسور التعارف بين المكونات الثقافية المختلفة، وترسيخ البعد الوطني من خلال الفن، حيث قدّمت فرق فلكلورية عروضًا صحراوية تعبّر عن هوية تمنراست، تخللتها معارض للصناعات التقليدية والحرف اليدوية التي تعكس براعة الصناع المحليين.
كما شهدت الفعالية تنظيم معرض للكتاب يوثق لذاكرة الجنوب، وآخر للفنون التشكيلية والصور الفوتوغرافية، جسدت بعدًا بصريًا غنيًا لجغرافيا وتاريخ المنطقة. وقد نُظّم عرض وثائقي عن مقومات تمنراست السياحية والثقافية، أعقبه حفل موسيقي للفرقة الفنية “قيثار”، تخللته وصلة شعرية من أداء الشاعر فتحي عبد الوهاب، وعزف تقليدي على آلتي الإمزاد والتازمرت، اللتين ترمزان إلى الموسيقى العريقة للأهقار.

ليالي الصيـف..متعة السهر

ما يجمع بين هذه التظاهرات الصيفية، على اختلاف أنواعها، هو قدرتها على إعادة دمج الفعل الثقافي ضمن الحياة اليومية للمواطن. فالعروض ليست مجرد مناسبات فنية، بل أدوات لإحياء التراث، واستعادة الذاكرة، وتعزيز العلاقات الاجتماعية داخل المجتمع، كما تُعد هذه الأنشطة وسيلة فعالة لتكريس مبدأ العدالة الثقافية، خاصة حين تُنقل السهرات والعروض إلى البلديات والمناطق الداخلية، ما يُعيد التوازن الجهوي في توزيع الثقافة كخدمة عمومية.
وفي السياق ذاته، تُساهم هذه الفعاليات في تنشيط السياحة الداخلية، من خلال جذب الزوار إلى الفضاءات الثقافية، وربطهم بالمنتوج الفني المحلي، إضافة إلى تشجيع الاقتصاد الثقافي عبر تحفيز الجمعيات والحرفيين والمبدعين على المشاركة.
ولا شكّ أن هذه الدينامية الصيفية تعكس وعيًا متزايدًا بضرورة ترسيخ الثقافة كركيزة من ركائز التماسك الاجتماعي والانتماء الوطني. فمن خلال السهرات، الورشات، والعروض التراثية، يُعاد بناء الجسر بين الماضي والحاضر، ويُمنح الجيل الجديد فرصة لاكتشاف التنوّع الثقافي وثرائه.
وإذا كانت وزارة الثقافة والفنون قد وضعت هذه الأنشطة ضمن أولوياتها خلال موسم الاصطياف، فإن نجاحها على أرض الواقع يُحسب أيضًا للمجتمع المحلي الذي أبدى استعدادًا للتفاعل والانخراط، سواء من خلال الحضور المكثف، أو عبر المشاركة التنظيمية والفنية.
يبقى الصيف الجزائري هذا العام موسمًا للفن والفرح، تُكتب فيه حكايات التعدد الثقافي، وتُعزف على مسارحه نغمة الانتماء..هو صيف لا يكتفي بالترفيه، بل يصنع ذاكرة ثقافية جديدة، ويُعيد للثقافة دورها الحيوي كمساحة للحرية، الجمال، والتلاقي. وهو ما يؤكد أن الاستثمار في الثقافة ليس ترفًا، بل أداة استراتيجية لصناعة المواطن والمجتمع.