طباعة هذه الصفحة

متحف سيرتا يوفّر لروّاده رحلة غير مسبوقة

قسنطينة قبل التّاريخ..قـاعـة جـديـدة في الخـدمة

قسنطينة: مفيدة طريفي

في إطار فعاليات شهر التّراث المنظّمة تحت شعار “التراث الثقافي في عصر الذكاء الاصطناعي”، شهد المتحف الوطني العمومي “سيرتا” افتتاح قاعة جديدة مخصّصة للفترة ما قبل التاريخ تحت عنوان “قسنطينة في عصور ما قبل التاريخ”، وذلك بعد خضوعها لعملية تهيئة علمية وبصرية شاملة.

 يأتي هذا الإنجاز في سياق المساعي الوطنية لإعادة الاعتبار للتراث الأركيولوجي الجزائري، وتقديمه للجمهور الواسع ضمن رؤية عصرية تراعي الدقة العلمية وجاذبية العرض، وتُشكّل القاعة الجديدة خطوة نوعية على درب إحياء الذاكرة التاريخية للمنطقة، وتسليط الضوء على إحدى أقدم فترات الاستيطان البشري التي شهدتها قسنطينة.

اكتشافات ثمينة

حسب مديرة المتحف الوطني العمومي سيرتا، فتيحة ساسي، فإنّ “القاعة الجديدة جاءت لتُبرز الوجه الخفي من تاريخ قسنطينة، ذلك الذي لا يعرفه الكثيرون، والذي يُظهر أن المدينة كانت مأهولة منذ عصور ما قبل التاريخ، وأنّها لعبت دورًا مهمًا في تطور الحضارات الأولى في شمال إفريقيا”، لتضيف “اعتمدنا على مقاربة علمية كرونولوجية في ترتيب المعروضات، ما يُمكّن الزائر من تتبع تطور الحياة البشرية في المنطقة، من خلال الأدوات الحجرية، والعظام، والرموز الفنية التي تعكس الحياة اليومية للإنسان القديم”.
وشهدت القاعة تسليط الضوء على الكهوف الشهيرة التي عُثر فيها على بقايا بشرية وحيوانية تُثبت استيطان الإنسان للمنطقة منذ آلاف السنين، على غرار كهف الدببة، كهف الأروي، وكهف الحمام. كما شملت التظاهرة عرضًا خاصًا لمواقع أثرية نادرة مثل المنصورة، جبل الوحش، بونوارة، سيدي مسيد وتيديس، وكلها مواقع شكلت عبر الزمن مراكز استيطان مبكرة تُبرز العلاقة المعقدة بين الإنسان والبيئة في تلك الحقبة.
وأكّد أستاذ الأنثروبولوجيا بجامعة قسنطينة، الدكتور عبد الحميد عزيزي، أنّ “القطع المعروضة لا تكتفي بعرض الأدلة المادية، بل تدفعنا إلى طرح أسئلة جديدة حول التفاعلات الثقافية والبيئية التي عرفتها المنطقة، هناك دلائل قوية على أن قسنطينة كانت مهدًا لحضارات قديمة، وربما هي ثاني أقدم موقع لتواجد الإنسان العاقل في إفريقيا، بعد وادي أومو في إثيوبيا”.

الذّكاء الاصطناعي في خدمة الذّاكرة الجماعية

وفي انسجام مع شعار شهر التراث لهذا العام، وظّف القائمون على المعرض تقنيات الواقع المعزز والذكاء الاصطناعي لتقديم شروحات مرئية وتفاعلية للزوار، ما يتيح فهماً أعمق للقطع المعروضة والسياقات التي وُجدت فيها، وفي هذا السياق، أوضح المهندس يوسف بوشامة، المشرف على الجانب الرقمي في المشروع، أن “الذكاء الاصطناعي مكّنهم من إعادة تشكيل بعض المواقع كما كانت في السابق، وعرض نماذج رقمية ثلاثية الأبعاد لبقايا الإنسان والحيوان، مما يجعل التجربة أكثر انغماسًا وتأثيرًا، خاصة لدى فئة الشباب”.
الافتتاح الذي حضره ممثلون عن وزارة الثقافة والفنون، والسلطات المحلية، وجمع من الباحثين والمختصين، يُعدّ بحسب المراقبين بداية جديدة لإعادة إدراج قسنطينة ضمن الخارطة الأركيولوجية الدولية، حيث أكدت مديرة المتحف أن “هناك مساع لربط هذه القاعة بشبكة المتاحف الوطنية والدولية، وربما التفكير في ترشيح بعض المواقع القسنطينية على قائمة التراث العالمي مستقبلاً، لما تحتويه من قيمة استثنائية”.
ويشكّل افتتاح قاعة “قسنطينة في عصور ما قبل التاريخ” خطوة حاسمة نحو ترسيخ الوعي التاريخي لدى الجمهور، وتعزيز مكانة المتحف كمؤسسة ثقافية وبحثية حاضنة لذاكرة الشعوب، والتي تعتبر رحلة إلى ما قبل الكتابة، تقود الزائر عبر الزمن إلى لحظة الميلاد الأولي للإنسان، وتؤكد مجددًا أن قسنطينة ليست فقط مدينة الجسور المعلقة، بل أيضًا مدينة الجذور العميقة.