طباعة هذه الصفحة

الاستثمـار في مشاريـع تحقّق الاستدامة

نـحو اقـتـصاد إبداعي يـتـأسّس عـلـى الـثّقـافـة والتـراث

أسامة إفراح

يعتبر التّراث الثقافي ركيزة أساسية في بناء اقتصاد مستدام ومتوازن. ومن خلال الاستثمار فيه، يمكن للدول تحقيق تنمية اقتصادية شاملة تُسهم في تحسين مستوى المعيشة وتعزيز الهوية الوطنية، وهو ما تطرقت إليه نظريات اقتصادية، وتقارير دولية. وقد تواجه تحديات هذه المساعي، ولكنها تُعتبر فرصًا للتحسين والابتكار، ما يستدعي تكاتف الجهود لتحقيق أقصى استفادة، مادية ومعنوية، من التراث الثقافي.

 يعد التراث الثقافي أحد المكونات الجوهرية للهوية الجماعية، وهو في الوقت ذاته مورد اقتصادي قابل للتوظيف في خدمة التنمية. وقد بدأ الاقتصاد المعاصر يعيد النظر في القيم غير المادية، ويدمجها ضمن مقومات الإنتاج، وخاصة في ظل تصاعد أهمية “الاقتصاد الإبداعي” الذي يُقدّم الثقافة والتراث بوصفهما مصدرين للثروة.

الـتـــّراث في الـتقاريـر الـدولـية

 وفي هذا الصدد، ركز تقرير الاقتصاد الإبداعي 2013 (Creative Economy Report)، الذي نُشر بالتعاون بين اليونسكو وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، على دور الاقتصاد الإبداعي في تعزيز النمو الاجتماعي والثقافي. وأبرز التقرير كيف يُسهم هذا القطاع في التنمية المستدامة من خلال توفير فرص العمل، وتعزيز الهوية الثقافية، وتحفيز الابتكار، كما سلّط الضوء على أهمية الثقافة كعامل تمكيني في تحقيق الأهداف الإنمائية العالمية.
وقبل ذلك (2001)، كان البنك الدولي قد تطرق إلى ذات الموضوع في تقرير “التراث الثقافي والتنمية: إطار عمل للعمل في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا”. وتناول التقرير كيفية استثمار التراث الثقافي لتعزيز التنمية الاقتصادية في المنطقة.
وفقا للبنك الدولي، يُعتبر التراث الثقافي موردًا اقتصاديًا قيمًا يمكن أن يسهم بشكل كبير في تحفيز السياحة التي تعد أحد أكبر القطاعات الاقتصادية في المنطقة. ومن خلال المواقع التراثية مثل الآثار والمعالم التاريخية، يجذب التراث السياح المحليين والدوليين، ما يزيد الإيرادات من الرسوم السياحية، والخدمات المرتبطة بها مثل الإرشاد الفندقي والنقل. كما يعزّز هذا القطاع خلق فرص العمل في مجالات عديدة مثل الحرف اليدوية التي تعتمد على التراث الثقافي المحلي.
إضافة إلى ذلك، يُعتبر التراث الثقافي جزءًا من الصناعات الثقافية والإبداعية مثل الفن، والموسيقى، والنشر، والأزياء، مما يعزز من الصادرات الثقافية ويدعم الاقتصاد المحلي. كما يسهم التراث في تنمية المجتمعات المحلية بتحسين الدخل في المناطق الريفية من خلال المشاريع الثقافية.
ويُعتبر التراث الثقافي رأس مال غير مادي يمكن استثماره لتحقيق استدامة اقتصادية وتنويع الاقتصاد بعيدًا عن القطاعات التقليدية مثل النفط. ويُشدد التقرير على أهمية استثمار التراث بشكل مستدام لتحقيق نمو اقتصادي طويل الأمد.

الـتراث في الـــنّظريات الاقـتصـاديـة

تُقدّم الأدبيات الاقتصادية عدة مقاربات لفهم القيمة الاقتصادية للتراث. ومن بينها “المقاربة الكلاسيكية للسلعة الثقافية”، التي تنظر إلى العناصر التراثية كسلع غير نمطية تحمل قيمة استعمالية وقيمة رمزية، وهو ما يُصعّب إدراجها في الأسواق التقليدية دون أدوات تقييم خاصة.
مثلا، ليست مدينة البندقية (إيطاليا) مجرد مدينة سياحية، بل سلعة ثقافية معقدة تجمع بين القيمة الجمالية (الفن، المعمار) والرمزية (التاريخ، الهوية الإيطالية). وبالرغم من ضخامة العوائد السياحية (قرابة 3 مليار يورو سنويًا قبل الجائحة)، فإن تقييم القيمة الاقتصادية الكاملة للمدينة يتجاوز الجانب المالي ويشمل التكاليف الاجتماعية (الاكتظاظ، طرد السكان الأصليين).
نفس الشيء ينطبق على مدينة كيوتو (اليابان) فرغم العوائد السياحية الضخمة (أكثر من 53 مليون زائر محلي ودولي عام 2019)، تواجه المدينة إشكالية “السياحة الزائدة” التي تُهدد طابعها الثقافي، وهنا تتجلى المعادلة بين القيمة الاقتصادية والتوازن الاجتماعي / الرمزي للتراث.
من جهتها، تنطلق مقاربة “رأس المال الثقافي” من أن التراث يُنتج منافع اقتصادية واجتماعية مستدامة عبر الزمن. فالتراث، كمكوّن من رأس المال الثقافي، يمكن أن ينتج فوائد اقتصادية مباشرة (مثل عائدات السياحة) وغير مباشرة (مثل تعزيز الإبداع المحلي، أو رفع قيمة العقارات في المناطق التاريخية).
وكمثال على ذلك، نذكر جزيرة غوري (السنغال) المدرجة في قائمة اليونسكو للتراث العالمي، والتي تحولت إلى مصدر رئيسي للسياحة الثقافية والتعليمية حول تاريخ تجارة الرق. وقد أسهم المشروع الوطني لتثمين الجزيرة في خلق وظائف محلية، وتنشيط الحرف، وزيادة عدد الزوار بنسبة 35 % بين عامي 2014 و2019.
أما نظرية “الاقتصاد الإبداعي”، فتدرج التراث ضمن الاقتصاد الإبداعي القائم على المعرفة والثقافة، ويُعدّ من الموارد التي تُنتج سلعًا وخدمات قابلة للتسويق محليًا ودوليًا، ما يدعم الناتج المحلي الإجمالي.
مثلا، تُعرف مدينة كالي (كولومبيا) بأنها عاصمة السالسا. وقد أُعيد توظيف التراث الموسيقي للمدينة عبر مدارس رقص، مهرجانات، وصادرات ثقافية (ملابس، موسيقى، تدريب). ويُسهم القطاع الثقافي بحوالي 4.8 % من الناتج المحلي في كالي (2018). أما مهرجان “ديوالي” في ليستر (المملكة المتحدة) فهو أحد أكبر الاحتفالات الهندوسية خارج الهند، والحدث مستلهم من التراث الهندي التقليدي، ولكنه يُقدَّم في قالب عصري يجذب نحو 40 ألف زائر سنويًا، مع ما لذلك من فوائد اقتصادية.
ونذكر أيضا “نظرية الاقتصاد الدائري”، التي تشير إلى أهمية الحفاظ على التراث الثقافي كجزء من استدامة الموارد، حيث يُمكن إعادة استخدام وتدوير المعارف والمهارات التقليدية، و«إعادة توظيف” التراث وتكييفه مع السياقات الاقتصادية الجديدة.
ومن الأمثلة على ذلك، خان الزيت في مدينة نابلس (فلسطين)، هذا المبنى التاريخي الذي كان سوقًا للزيت والصابون خلال العهد العثماني، وأُعيد ترميمه بالشراكة مع اليونسكو وتحويله إلى فضاء سياحي وتجاري. وفي حالة مشابهة، أعيد تأهيل مصنع نسيج قديم في برشلونة إلى مركز ثقافي (Fabra i Coats). وهذا المصنع، الذي يعود للقرن التاسع عشر، تم تحويله إلى مركز للفنون والصناعات الثقافية، وهكذا خلق المشروع فرصًا جديدة دون هدم أو استنزاف للموارد.

الـتـــّحديـات..والفـرص

كما رأينا، يشكل التراث الثقافي مصدرًا هامًا يُمكنه المشاركة في تعزيز الاقتصاد الوطني من خلال تطوير السياحة الثقافية، وخلق فرص العمل، وتعزيز الهوية الثقافية.
مع ذلك، تواجه الاقتصادات الوطنية عدة تحديات عند محاولة تفعيل البعد الاقتصادي للتراث، قد يكون من بينها ضعف الإطار المؤسسي والتشريعي (كثير من الدول تفتقر إلى قوانين تنظيمية متكاملة لحماية وتوظيف التراث اقتصاديًا، ما يُعرّضه للاستغلال العشوائي أو التهميش)، أو غياب أدوات القياس الاقتصادية (يُعدّ تقييم الأثر الاقتصادي للتراث أمرًا معقدًا، نظرًا لطبيعته الرمزية وغير الملموسة، وما زالت الكثير من الدول تفتقر إلى مؤشرات كمية دقيقة تقيس مساهمته في الناتج المحلي)، أو التوازن بين الاستغلال والحفاظ (الاستخدام الاقتصادي المكثف للتراث قد يؤدي إلى تدهوره أو فقدان معناه الثقافي، إذا لم يتم وفق معايير الاستدامة).
ونضيف إلى هذه التحديات، ما أشار إليه تقرير البنك الدولي، المذكور سابقا، على غرار الحفاظ على التراث بشكل يتماشى مع التنمية الاقتصادية، وهو ما يتطلب جهودًا لحماية الآثار والمعالم التاريخية. وذكر التقرير التوعية بأهمية التراث الثقافي ليس فقط كجزء من الهوية، ولكن كمورد اقتصادي هام. وذكر أيضا التمويل، والحاجة إلى استثمارات مستمرة في البنية التحتية والتطوير للحفاظ على المواقع التراثية وتحسين الوصول إليها.
ومع ذلك، تُقدّم هذه التحديات فرصًا للتطوير والابتكار، مثل حماية التراث وتعزيزه كجزء من استراتيجية التنمية الاقتصادية، وتشجيع الاستثمارات، الخاصة منها والعامة، في السياحة الثقافية والصناعات الإبداعية، وتدريب وتطوير المهارات للمجتمعات المحلية في السياحة والحرف اليدوية، وتطوير تقنيات حديثة في ترميم وحفظ المواقع التراثية، وتعزيز الشراكات للحصول على الدعم الفني والمالي، وتدريب الإطارات المحلية، وتسويق التراث بشكل مبتكر، خاصة من خلال الوسائط الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي.