طباعة هذه الصفحة

زارت “جـانت” فشـغفتهـا حبــّا

آيت عـبــد المالــك تــوقــّع “حكايات وأمكنة طاسيلي ناجر”

فاطمة الوحش

وجدت نفسها أسيرة سحر الصحراء، حين قادتها الأقدار منذ ثمانية عشر عاماً إلى مدينة جانت، في أقصى الجنوب الشرقي الجزائري. كانت زيارة أولى عابرة، لكنها تحوّلت بسرعة إلى قصة حب متجذرة، ربطت المهندسة الزراعية والكاتبة يمينة ميري آيت عبد المالك بهذه الأرض الفريدة، لتصبح جانت بالنسبة لها أكثر من مجرد مدينة، بل وطنا آخر للروح، اختارت أن تخلد عشقها له عبر إصدارين أدبيين، آخرهما “حكايات وأمكنة طاسيلي ناجر”.

آيت عبد المالك، المتخصّصة في البيئة وتسيير الحظائر الوطنية، دخلت عالم الكتابة من بوابة التجربة الميدانية، إذ حملتها المهنة في بداياتها إلى أعماق الطبيعة الجزائرية. غير أن جانت كان لها سحر خاص، بجبالها الذهبية، ورسومها الصخرية الضاربة في القدم، ونباتاتها التي تقاوم الزمن. كانت تلك اللحظة التأسيسية التي غيّرت مجرى حياتها، وجعلتها تتخذ قرارا بأن تكون صوتا آخر لهذه المدينة، دفاعا عن ماضيها وحاضرها ومستقبلها.
زيارتها الأولى أفرزت كتابها الأول “ستة أيام على هضبة طاسيلي ناجر”، الذي روى مغامرتها الاستكشافية في ربوع الطاسيلي رفقة مجموعة من الأصدقاء، إذ وثّقت فيه رحلة اكتشافها للنقوش والرسومات الصخرية التي تحكي قصص إنسان ما قبل التاريخ في هذه الأرض الساحرة. غير أن العلاقة بجانت لم تتوقف عند هذا الحد، بل نمت وتطورت عبر السنوات، لتتكرّس في وجدان الكاتبة التزاما أدبيا وإنسانيا لا انفصام فيه.
مؤخرا، عادت آيت عبد المالك لتعزّز هذا العهد بإصدارها الثاني “حكايات وأمكنة طاسيلي ناجر”، الذي قدّمته للقراء بفضاء “بشير منتوري”، حيث يكشف الكتاب الجديد عن تحول جانت من مكان في الجغرافيا إلى ملحمة وجدانية تدب في صفحاتها الحياة، وتسرد من خلالها الكاتبة ذاكرة الأمكنة وتفاصيل الطبيعة والإنسان.
في هذا العمل، تجمع الكاتبة بين الحس التوثيقي والخيال الإبداعي. فهي تحرص على إبراز جماليات ثقافة سكان المنطقة الأصليين، من طوارق وأمازيغ، وتستعرض ثراء التراث المحلي، الذي أدرجته منظمة اليونسكو ضمن قائمة التراث الإنساني العالمي منذ عام 1982، حماية له من الاندثار وصونا لفرادته.
الكاتبة تصف جانت بأنها “قطعة من القلب”، وتؤكد أنّ حماية نباتاتها النادرة وحيواناتها الآيلة إلى الزوال وآثارها التاريخية هو واجب ملقى على عاتقها كإنسانة، قبل أن تكون مهندسة أو كاتبة.
ومن خلال “حكايات وأمكنة طاسيلي ناجر”، تسعى آيت عبد المالك إلى سد ثغرات النسيان، فرصدت في نصوصها تفاصيل دقيقة عن نباتات مهددة بالانقراض، وحيوانات لم يعد لها أثر إلا في القصص والرسوم الصخرية القديمة، مثل الفيلة والزرافات. كما تناولت بألم ظاهرة تغيير أسماء الأماكن الأصلية، معبّرة عن أسفها لتحريف الهوية اللفظية لعديد المواقع، مثلما حدث مع منطقة تيغريغرت التي باتت تعرف تحت اسم دخيل “البقرة الباكية”، في تغييب مؤسف لذاكرة المكان ورمزيته.
الكتاب يضم سبع قصص متنوعة، تتداخل فيها الأسطورة بالتاريخ، والخيال بالواقع. تناولت الكاتبة في قصتين منها أسطورتين محليتين عريقتين: الأولى عن تيغريغرت والثانية عن “أنمرو دن” أي “الطفل الذي يحبو”، في محاولة لإحياء المخزون الشفهي الثقافي للمنطقة. أما القصة الثالثة، فاستلهمتها من واقعة تاريخية حقيقية، تروي حادثة مقتل آخر تمساح كان يعيش في الجزائر، وبالتحديد في منطقة إيهرير بجانت، خلال عشرينيات القرن الماضي، على يد أحد المستعمرين الفرنسيين، حيث تمّ نقل التمساح المحنّط لاحقا إلى أحد المتاحف الفرنسية، في مشهد تختلط فيه مأساة البيئة بغصة الاستعمار.
القصص الأربع الأخرى انطلقت فيها آيت عبد المالك من محض خيالها، لكنها ظلت وفية لروح المكان، فاختارت أن يكون أبطالها من الإنسان والنبات والحيوان، في محاكاة شاعرية لعوالم الطاسيلي المدهشة. إحدى هذه القصص، تحمل عنوان “زهرة جيريكو”، وقد كتبتها خصيصا تكريما لفلسطين، مؤكدة أن فلسطين تبقى راسخة في القلب رغم المسافات.
ولم تُخف الكاتبة في حديثها أن لجوئها إلى الخيال كان ضرورة نفسية وروحية للهروب من وطأة الواقع المليء بالأنباء المفجعة والأحداث المؤلمة، معتبرة أن الكتابة بالخيال هي شكل من أشكال العلاج الذاتي، وطريقة لإيجاد بصيص أمل في عالم سمته الأساسية الاضطراب.
من خلال هذا العمل، تؤكّد يمينة ميري آيت عبد المالك أن الكتابة عن الأماكن ليست مجرد وصف جغرافي أو توثيق تراثي، بل هي وفاء وجداني ورحلة مستمرة في البحث عن الجمال في زمن يفتقده. وبسردها عن جانت، تحتفي الكاتبة بروح الإنسان والطبيعة معا، وتمنح للقارئ فرصة اكتشاف عالم مدهش عبر عيون عاشقة وأسلوب مفعم بالحنين والشغف.