طباعة هذه الصفحة

“رؤى وأفكار” تضـع “الإقتصاد الثّقافـي” علـى طاولـة النّقاش

تبنّي رؤية استراتيجية للإنتاج الثّقافي المحلي..ضرورة قصوى

فاطمة الوحش

 الإقتصاد الثّقافي لم يعد مجرّد خطاب نظري بل هو واقع رقمي موثّق

استغلال الفضاءات لإطلاق مبادرات تتعلّق بالاقتصاد الإبداعي

ســـوق الفنـــون تحتـــاج إلى إدمــاج ضمــن رؤيــة استراتيجيــة عمــل محكمـــة 

السّينمـا صناعة ثقيلة والاقتصاد الثّقافي يبدأ من الإنسـان

 شكّل موضوع الاقتصاد الثقافي في الجزائر وآفاق النهوض به محور النقاش في الندوة الفكرية “رؤى وأفكار”، التي نظّمتها القناة الإذاعية الأولى، نهاية الأسبوع، بالنادي الثقافي عيسى مسعودي، بمشاركة نخبة من الفاعلين في الحقل الثقافي والأكاديمي. وقد اتفق المتدخلون على أن تطوير الاقتصاد الثقافي لم يعد خيارا، بل ضرورة حتمية تمليها التحديات الاقتصادية الراهنة، وسعي الجزائر لبناء اقتصاد بديل ومتنوع.

 أكّدت أستاذة محاضرة بكلية العلوم الاقتصادية والتجارية وعلوم التسيير، شفيقة صديقي، في مداخلتها، أن الاقتصاد الثقافي يُعد اليوم علما قائما بذاته، يقوم على المزج بين علم الاقتصاد ومجال الثقافة، موضحة أن هذا التداخل يمنح القطاع الثقافي بعداً إنتاجيا وماليا يجعله في مصاف القطاعات الاقتصادية الكبرى، على غرار الصناعة والفلاحة والخدمات.
وأشارت صديقي إلى أن هذا القطاع لا يُنظر إليه فقط كمجال للإبداع والفنون، بل يعالج بالأدوات العلمية والمنهجيات التحليلية المعتمدة في علم الاقتصاد، مع مراعاة خصوصياته الثقافية المتفردة.
وقالت الدكتورة صديقي إنّ: “القطاع الثقافي بات يُعامل اقتصادياً بنفس المنطق الذي تُدار به القطاعات الأخرى، مع الحفاظ على طبيعته الرمزية والرمزية العالية للمحتوى الثقافي”، مضيفة أن هذا التوجه العلمي أدى إلى بروز ما يعرف اليوم بسياسات الاقتصاد الثقافي، أي الكيفية التي يُمارس بها هذا الاقتصاد فعلياً على أرض الواقع.
وفي هذا السياق، أوضحت المتحدثة أن عددا كبيرا من الدول بات يدمج القطاع الثقافي ضمن استراتيجياته الاقتصادية، لا سيما في إطار خطط تنويع مصادر الدخل الوطني، مشيرة إلى نماذج ناجحة في هذا المجال مثل الولايات المتحدة الأمريكية، كوريا الجنوبية، الصين، واليابان، وهي دول جعلت من ثقافتها منتوجا قابلا للتصدير، ورافدا من روافد الاقتصاد الوطني.
وأضافت أن “الاقتصاد الثقافي اليوم لم يعد مجرد خطاب نظري، بل هو واقع رقمي موثّق بأرقام دقيقة”، مستشهدة بتقرير صادر عن منظمة اليونسكو سنة 2020، والذي قدّر الإيرادات السنوية للقطاع الثقافي بـ2250 مليار دولار، وهو رقم يضع هذا القطاع في موقع متقدم ضمن الاقتصاد العالمي.
كما أشارت شفيقة صديقي، إلى أن نسبة مساهمة القطاع الثقافي في الناتج الداخلي الخام العالمي تبلغ حوالي 3.1 %، بينما يوفر فرص عمل لما يقارب 30 مليون شخص حول العالم، مما يبرهن على دوره الفعال في التنمية الاجتماعية والاقتصادية.
ولفتت إلى أن صادرات السلع والخدمات الثقافية تبلغ 389.1 مليار دولار سنويا، وهو رقم يعكس الديناميكية المتزايدة لهذا المجال، لكنها نبهت إلى أن الدول المتقدمة تهيمن على نحو 95 % من هذه الصادرات، وهو ما يُفسّر ـ حسبها ـ الحضور الطاغي للثقافة الغربية، والأمريكية خصوصا، على الساحة العالمية.
الإقتصاد الثّقافي بحاحة إلى استثمار حقيقي
 من جهتها، أكدت فايزة رياش مديرة مركز فنون وثقافة، أن وزارة الثقافة تعمل حاليا على إعداد قانون جديد يخص استغلال الفضاءات الثقافية من قبل المتاحف، مشيرة إلى أنّ هناك وعيا متزايدا بأهمية تمكين هذه المؤسسات من تسويق منتوجاتها بشكل فعّال، واستغلال إمكانياتها في تطوير مواردها المالية.
وقالت إن: “متاجر المتاحف مفعلة منذ سنوات، لكن التحدي اليوم هو كيف يمكن أن تستفيد المتاحف فعلياً من هذه المداخيل وتعيد ضخها في مشاريع جديدة”، معتبرة أن الرؤية الحديثة للاقتصاد الثقافي يجب أن تشمل استثمار هذه العائدات ضمن استراتيجية تنموية للمؤسسات الثقافية.
وأوضحت رياش أنّ القانون المنتظر سيفتح الباب أمام إنشاء أسواق محلية داخل المتاحف أو المواقع الأثرية والمعالم التاريخية، بالإضافة إلى استغلال الفضاءات لإطلاق مبادرات تتعلق بالاقتصاد الإبداعي، ولفتت إلى أن هناك مؤسسات ناشئة بدأت تعمل على تطوير أدوات تكنولوجية لتسويق المنتوجات المتحفية بطرق مبتكرة. وأضافت “اليوم هناك أمور قانونية مضبوطة، فالقانون لا يمنع هذه الأنشطة بل يشجع عليها، ويتيح للمؤسسات الثقافية أن تستفيد من مواردها الخاصة خارج ميزانيتها الأصلية”.
كما شدّدت المتحدثة، على أن بناء اقتصاد ثقافي يتطلب عنصرين أساسيين: العامل البشري والمالي، مشيرة إلى أن “الاستثمار الحقيقي يجب أن يبدأ من الفرد”، وخاصة من خلال تربية الجيل القادم على حب الفنون والسينما. وقالت رياش: “لدينا مواقع أثرية ومدن يمكن أن تتحول إلى مدن سينمائية، لكن للأسف لا يوجد استثمار فعلي في هذا الاتجاه. لا نملك البنى التحتية الكافية، وهناك شباب يعشق السينما لكنه لا يملك حتى قاعة عرض لمشاهدة فيلم واحد”.
وأوضحت ذات الدكتورة، أن القطاع الثقافي وحده لا يستطيع أن يبني اقتصادا ثقافيا متماسكا، كما أن وزارة السياحة لا تستطيع أن تبني سياحة ثقافية منفردة، داعية الخواص ورجال الأعمال إلى الاستثمار في هذا القطاع الحيوي الذي يتوفر على كل المقومات.
كما أكّدت فايزة رياش، على ضرورة تجديد العرض المتحفي من خلال السينوغرافيا الحديثة، وقالت: “من غير المعقول أن يدخل الزائر قاعة عرض في قلعة أو متحف، ولم يتغير فيها شيء منذ عشر سنوات. اليوم أهم ما يجذب الزائر هو السينوغرافيا المبتكرة، والموسيقى المصاحبة التي تُعيد الحياة إلى الموضوع المعروض”.
استقلالية المؤسّسات الثّقافية
 بدوره، أوضح حمزة بونوة، محافظ المهرجان الدولي للفن التشكيلي المعاصر، أن سوق الفنون يجب أن يُنظر إليه كجزء من استراتيجية وطنية شاملة لتطوير الاقتصاد الثقافي، مشيرا إلى أن المتاحف والمؤسسات الثقافية لم تُمنح بعد الحرية الكاملة لتسويق منتوجاتها الثقافية أو تطوير مصادر دخلها. وقال “إن الإشكالية في العالم ليست دائما قانونية، بل تتعلق غالبا بطريقة العمل، فالمتاحف اليوم لا تملك استقلالية كافية في اتخاذ القرارات التي تسمح لها بالتحول إلى مؤسسات إنتاجية قادرة على اقتناء المقتنيات الجديدة وتنظيم المعارض وتطوير محتوى التراث الوطني”.
وأضاف أن “سوق الفنون ليس أمرا سهلا، بل يحتاج إلى إدماجه ضمن رؤية مدروسة للدولة، كما يتطلب مشاركة نشطة من الفنانين والفاعلين الثقافيين، الذين يجب عليهم بدورهم أن يتحرروا من ثقافة الريع والاعتماد الدائم على الدولة”.
وأكّد بونوة، أن رئيس الجمهورية يعمل حاليا على تحرير الاقتصاد الوطني من العراقيل التي تعيق تطوره، مشددا على أن الفنون والثقافة يمكن أن تساهم بفعالية في هذا التوجه، شرط أن تتوفر بيئة تتيح للفنانين والمؤسسات الثقافية إنتاج مشاريعهم بحرية وباستقلالية.
ودعا المتحدث، الفنانين إلى التخلص من التبعية المطلقة لوزارة الثقافة، والعمل على إيجاد نماذج اقتصادية مبتكرة لمشاريعهم، مشيرا إلى أن “الاقتصاد الثقافي لا يمكن أن ينمو إذا بقي مرتبطا فقط بالمخصصات الحكومية”.
السّينما..رافد اقتصادي
 أكّد الباحث والناقد السينمائي مؤنس خمار، أن السينما تُعد من أهم روافد الاقتصاد الثقافي، نظرا لطبيعتها المركبة كصناعة وتقنية وتجربة فنية تتوجه إلى جمهور واسع، وتعتمد على وسائط متعددة. وقال إن “السينما ليست فقط فناً، بل هي أيضاً تجارة وصناعة ضخمة، لأنها في جوهرها تجمع بين مختلف الفنون: الكتابة، الإخراج، التمثيل، الديكور، الموسيقى، والتقنيات الحديثة”.
وأشار خمار، إلى أن ما يمنح الصناعة السينمائية هذا البعد الضخم هو شموليّتها، باعتبارها فنّا مركبا يجمع بين الإبداع الفني والتقنيات الإنتاجية والتوزيع الجماهيري، وهي بذلك من أبرز تمثلات ما يُعرف بالمنتوج السمعي البصري.
وأبرز خمار في مداخلته أن تطور هذه الصناعة لا يمكن فصله عن التطور التكنولوجي، الذي يسير جنباً إلى جنب مع التحولات الثقافية، موضحا أن التقدم في أدوات وتقنيات السينما يعكس أيضا تطورا في البنية الثقافية والإبداعية لأي مجتمع.
كما توقف خمار عند البعد الإنساني العميق للاقتصاد الثقافي، مؤكدا “هذا الاقتصاد لا يقوم فقط على الأرقام والمعطيات المالية، بل هو في جوهره اقتصاد بناء الإنسان، وإذا لم نبنِ الإنسان، فما الفائدة من بناء أي شيء آخر؟”.
وفي تحليله لأسباب تأخر الاقتصاد الثقافي في الجزائر، أشار إلى أن الأساس يكمن في الآثار العميقة التي خلّفها الاستعمار الفرنسي، والذي سعى إلى طمس الهوية الوطنية ومحاربة كل ما يتصل بالذات الثقافية الجزائرية. وقال: “أعتقد أن الضربة الأولى كانت استعمارية بامتياز، تلتها سنوات ما بعد الاستقلال، حيث حاولنا التخلص من النموذج الثقافي الاستعماري، وكان من الطبيعي أن نتجه لاستهلاك النموذج الثقافي الشرقي القريب منا لغويا وثقافيا”.
وأضاف: “اليوم نحن في سنة 2025، الجزائر دولة مستقلة، بجامعاتها، بفنانيها، بمواردها ومؤسساتها..ولهذا، فإن أول شرط لقيام اقتصاد ثقافي حقيقي هو أن يكون الطلب جزائريا على الثقافة الجزائرية، لأن استمرارنا في دائرة الاستبدال والاستهلاك فقط لم يعد مقبولا، حان الوقت للخروج نحو دائرة الإنتاج”.
ودعا خمار إلى ضرورة تبني رؤية استراتيجية وطنية للإنتاج الثقافي المحلي، قائلا إن “الاستقلال الثقافي لا يتحقق إلا من خلال بناء صناعة ثقافية ذاتية، تُشغّل الناس، وتُثري الهوية، وتساهم في تنويع الاقتصاد الوطني”.