12 مشروعًــا محـــوريًــا ضمـن المخطّــط الوطني للرقمنة
يلعب التراث الثقافي دورا محوريا في تشكيل هويتنا وفهم تاريخنا المشترك.. من أجل ذلك، يعتبر الحفاظ على هذا التراث من الأولويات، خاصة في عصر العولمة وتماهي الهويات والثقافات.. في هذا السياق، برز الذكاء الاصطناعي ليكون أداة فعّالة في خدمة هذا المسعى، وسمحت الحلول المبتكرة التي يوفرها باقتصاد الوقت والجهد، وبجودة وفعالية أكبر في شتى المجالات، ومنها حماية التراث الثقافي، وهو ما أدركته الجزائر، فحشدت له مواردها المادية والبشرية.
يمكن لاستخدام الذكاء الاصطناعي في تعزيز التراث الثقافي أن يُحدث ثورةً في طريقة تفاعلنا مع هذا التراث وصونه وحمايته، فمن خلال توظيف هذه التكنولوجيا بطرق مبتكرة، يُمكن للدول والمجتمعات حماية تقاليدها وآثارها ومعارفها الفريدة للأجيال القادمة.
خدمات ذكية وحلول مبتكرة
يقدم الذكاء الاصطناعي حلولا تقنية من شأنها حفظ التراث الثقافي وصونه وتعزيزه. ومن بين هذه الحلول إسهامه في رقمنة الوثائق والقطع الأثرية التاريخية وحفظها، ومن الأمثلة على إنشاء أرشيفات وقواعد بيانات رقمية تحفظ المعارف والتقاليد الأصيلة، تنفيذ المتحف الوطني البرازيلي نظام ذكاء اصطناعي يحوّل مجموعة المتحف الواسعة من القطع الأثرية إلى بيانات رقمية ويحللها، مما يجعلها في متناول الباحثين والمؤرخين وعامة الناس. من جهته، نفّذ “المعهد الأسترالي لدراسات السكان الأصليين وسكان جزر مضيق توريس” (AIATSIS) نظام ذكاء اصطناعي يحوّل لغات السكان الأصليين وقصصهم وأعمالهم الفنية إلى صيغة رقمية، ويحللها، مما يجعلها في متناول مجتمعاتهم وعامة الناس.
وبإمكان الذكاء الاصطناعي تحليل وتفسير كميات هائلة من البيانات الثقافية، كالوثائق التاريخية والأعمال الفنية والاكتشافات الأثرية، ما يسمح للباحثين باكتشاف روابط ورؤى جديدة حول الماضي، وأنماط وعلاقات ورؤى ربما أغفلها الباحثون.
وفي مجال حفظ وترميم مواقع التراث الثقافي والقطع الأثرية، قد يستخدم الذكاء الاصطناعي في تحليل حالة المباني والمنحوتات والأعمال الفنية التاريخية، واكتشاف علامات التدهور أو التلف أو عدم الاستقرار الهيكلي، واستخدام هذه المعلومات لوضع استراتيجيات حفظ مُحددة، وتحديد أولويات التدخلات، ومراقبة الحالة طويلة المدى لأصول التراث الثقافي. كما نجده في إعادة البناء الافتراضية للمواقع والمعالم التاريخية، بإنشاء نماذج ثلاثية الأبعاد غامرة لهذه المواقع.
ومن الأمثلة الأخرى على الاستخدامات الممكنة للذكاء الاصطناعي، نذكر معالجة اللغة الطبيعية لترجمة النصوص التاريخية وتحليلها، من خلال تفسير وتحليل النصوص المكتوبة بلغات قديمة أو غامضة، ما يسمح باكتساب رؤى جديدة حول ثقافات وفترات تاريخية مختلفة.
بالإضافة إلى ذلك، يُمكن للذكاء الاصطناعي تحسين تنظيم وعرض معارض ومجموعات التراث الثقافي، ومساعدة المتاحف والمؤسسات الثقافية على تخصيص تجربة الزائر، وتزويده بمعلومات أساسية وسياق تاريخي وموارد وسائط متعددة، واستعمال الواقع المعزز من أجل تجربة غامرة وتفاعلية. مثلا، تعاونت مكتبة قطر الوطنية مع شركات الذكاء الاصطناعي لإنشاء منصة رقمية تُقدّم جولات افتراضية للمواقع التاريخية والمتاحف والمعارض، وتستعمل هذه المنصة خوارزميات الذكاء الاصطناعي لتخصيص تجربة المستخدم، وتقديم معلومات وتوصيات مُصمّمة خصيصًا بناءً على اهتمامات المستخدم وتفضيلاته. ووظفت الهند الذكاء الاصطناعي لتطوير تجارب الواقع الافتراضي التي تُتيح للزوار استكشاف المواقع والمعالم التاريخية من منازلهم. من جهته، أطلق الاتحاد الأوروبي مشروع “CULTURA”، الذي يستعمل الذكاء الاصطناعي لإنشاء تجربة واقع افتراضي غامرة تتيح للمستخدمين استكشاف مواقع التراث الثقافي الأوروبي بطريقة تفاعلية.
ويمكن للذكاء الاصطناعي أن يُساعد على إيصال التراث الثقافي إلى جمهور متنوّع، من خلال تطوير الترجمة الآلية، بهدف تجاوز الحواجز اللغوية. وقد يوظف الذكاء الاصطناعي لتسهيل وصول الأشخاص ذوي الإعاقة إلى التراث الثقافي، باستخدامه لإنشاء أوصاف صوتية وتعليقات توضيحية وميزات أخرى لتسهيل وصول هذه الفئة إلى التراث.
وقد يوظف الذكاء الاصطناعي بطريقة أكثر شمولا وتكاملا، مثلا، طبّقت مدينة كيوتو اليابانية نظام ذكاء اصطناعي للمساعدة في الحفاظ على تقاليدها العريقة وحمايتها، بحيث يُحلل نظام الذكاء الاصطناعي البيانات المتعلقة بالحرف والطقوس والاحتفالات التقليدية، مُقدمًا رؤى قيّمة يُمكن استخدامها لضمان استمرار حيوية هذه الممارسات الثقافية، ونقلها للأجيال القادمة.
ومع استمرار تقدم تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي بشكل متسارع، نتوقع أن نرى، في السنوات القليلة القادمة، تطبيقات أكثر إثارةً وابتكارًا في مختلف المجالات، بما فيها التراث الثقافي.
استراتيجية وطنية واعدة
تعمد الجزائر إلى وضع الذكاء الاصطناعي في خدمة هدفين يعتبران من أولويات الدولة: الرقمنة، وحماية التراث الثقافي.
خلال إشرافه على افتتاح الملتقى الدولي “التراث الثقافي في عصر الذكاء الاصطناعي”، الذي احتضنته المدرسة الوطنية العليا للذكاء الاصطناعي، مطلع الأسبوع الجاري، أكد وزير الثقافة والفنون زهير بللو على أن الدولة الجزائرية، بقيادة رئيس الجمهورية السيد عبد المجيد تبون، تولي أهمية بالغة لحماية التراث الثقافي، كما نصّت عليه المادة 76 من الدستور. كما أوضح بأن قطاع الثقافة انخرط بفعالية ضمن الاستراتيجية الوطنية للذكاء الاصطناعي، عبر إدراج 12 مشروعًا محوريًا ضمن المخطط الوطني للرقمنة، تشمل دعم البحث العلمي، وتشجيع المؤسسات الناشئة، وإشراك الجامعات والمجتمع المدني.
وتطرق الوزير إلى إنجاز الخريطة الأثرية الجزائرية على مستوى المركز الوطني لعلم الآثار، وإطلاق نظام معلومات جغرافي تفاعلي يدعم اتخاذ القرار الثقافي، ويؤسس لمرجعية وطنية رقمية. وكشف الوزير عن مقاربة اقتصادية جديدة تتبناها الوزارة، تقوم على تثمين التراث كمورد استراتيجي للتنمية الوطنية، عبر دعم الشباب، ومرافقة المؤسسات الناشئة، وتوفير بيئة محفّزة لمبادراتهم داخل المتاحف والمواقع الأثرية. وفي هذا الصدد، أعلن الوزير عن إطلاق أول تحدٍ وطني لفائدة الطلبة في مجال الذكاء الاصطناعي الموجّه لحماية التراث الثقافي، يشرف عليه قطاع التعليم العالي عبر منصته الحاضنة، ويُختتم بتكريم الفائزين من حاملي الأفكار والمشاريع في ختام شهر التراث.
وتجدر الإشارة إلى أن هذا الملتقى تميّز بمشاركة نوعية لنخبة من الباحثين والخبراء الجزائريين الذين يشغلون مناصب علمية مرموقة في أرقى المعاهد والجامعات العالمية. وشهد الملتقى عرض مشاريع بحثية وتجارب ابتكارية تُبرز الإمكانات الهائلة للذكاء الاصطناعي في صون التراث الثقافي، على غرار استخدام التوأم الرقمي، والترميم الافتراضي، والكشف عن التزوير الفني، والمنصة الرقمية الذكية لحفظ التراث المعماري، وترميم الفسيفساء باستخدام الذكاء الاصطناعي، والأبعاد العلمية والإنسانية للذكاء الاصطناعي في حفظ التراث اللامادي وتحليل الهياكل، إلى جانب عروض لمشاريع مبتكرة بعقول شباب جزائريين.
ولعلنا نستخلص، من مثل هذه التظاهرات، مجموعة استنتاجات، نذكر من بينها توفر الإرادة السياسية على أعلى المستويات للمضي قُدما في مساعي الرقمنة والعصرنة، والوعي بالإمكانيات والحلول التي توفرها التكنولوجيا وبالأخص الذكاء الاصطناعي التوليدي في شتى المجالات، بما في ذلك حماية وتعزيز التراث الثقافي الوطني، وأيضا توفر الإمكانيات المادية، والأهم من ذلك الطاقات البشرية، من خلال عقول جزائرية قادرة على رفع التحدي والإسهام في إنجاح هذه المساعي، إن هي وُظفت بالشكل الأمثل.