لَم تَكن الدراما التاريخية يومًا مجرّدَ أزياءٍ عتيقةٍ ومَشاهدَ مصطنعةٍ تُحاكِي أجواءَ العصور الغابرة، بل هي فنٌّ مُركّبٌ تتداخل فيه اللغةُ مع التاريخ، والصوتُ مع الهوية، فيصير المعنى مِفتاحَ الزمان، والمبنى جَناحَ المكان. ولئن كانت السِّيناريوهاتُ تَجتهِدُ في إحياء الأزمنة الغابرة في الديكور والخُطُوط الدرامية، فإنّ العَقَبَة الكُبرى تكمنُ في حِوارِ الشخوص الذي يتأرجحُ بين فُصحى لا تُشبه الفُصحى، ولغةٍ مُعاصرةٍ تُسقِطُ الأقنعةَ عن الوَهم التاريخيّ الذي تَسعى الدراما إلى بنائه. وهنا يَتبدَّى السؤال المُلحّ: كيف نُوفِّقُ بين أصالةِ العبارةِ التاريخية ومُتطلَّباتِ الفَهمِ لدى المتلقي المُعاصر؟ وهل يُمكنُ للدراما أن تَنهضَ بلسانٍ يَجمَعُ بين طُهرِ الفُصحى القديمة وسلاسةِ التلقِّي الحديث، دون أن تُضحِيَ بكرامةِ البيان
وإنَّ الحاجَةَ مَاسَّة - أمامَ هذا الخَلل - إلى تَوليدِ بدائلَ تَستوعبُ السياقَ التاريخيّ، وتُحافظُ على الرُّوحِ التعبيرية من غيرِ أن تَنزلقَ في فِخاخِ الاصطلاحاتِ المُعاصِرة. وأسُوق لكم في القادم من الفقرات أمثلة شتى عن حوارات جرت على ألسنة يُفتَرَض أنها عاشت التاريخ، بل صنعته، وأخرى من وحي خَيال المُؤَلِّفِين، والموصوفة بالفنتازيا التاريخية، حيث أُوَضِّح لكم أوجه الغرابة والعجمة فيها، ثم أقترح بدائل أنسَب وتراكيب أعذَب.
من مسلسل “يوسف الصّديق”
وإنِّي عَجِبْتُ لِقَولِهم في مَسلسلِ “يُوسُف الصِّدِّيقِ”: “إنْ ثَبَتَ عَلَيْهِمُ الجُرْمُ فَأَنَا أَعْرِفُ مَاذَا أَفْعَلُ بِهِمْ: سَأَسْلُبُهُمْ اِمْتِيَازَاتِهِمْ وَلَنْ أُبْقِيَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ صَلَاحِيَّاتِهِمْ!”، فَأَيْنَ هَذَا التَّرْكِيبُ مِنْ لِسَانِ العَرَبِ الأَوَّلِينَ؟! أَفِي أَزْمِنَةِ يُوسُفَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - صَلَاحِيَّاتٌ تُعْطَى وَتُسْلَبُ؟ أَفِي دَوْلَتِهِ اِمْتِيَازَاتٌ تُقَرَّرُ وَتُرْفَعُ؟ إِنَّهُ لَخَلْطٌ بَيِّنٌ بَيْنَ لِسَانِ الأَقْدَمِينَ وَمُصْطَلَحَاتِ المُعَاصِرِينَ، يَنْفُرُ مِنْهُ الذَّوْقُ، وَيَضِيقُ بِهِ السَّمْعُ، وَيَتَشَظَّى مَعَهُ النَّصُّ التَّارِيخِيُّ وَالجَمَالِيُّ. وَالأَحْرَى أَنْ يُقَالَ عَلَى سُنَنِ العَرَبِ، مَثَلًا: “فَإِنْ ثَبَتَ عَلَيْهِمُ الجُرْمُ، نَزَعْتُ عَنْهُمُ العِزَّةَ، وَسَلَبْتُهُمُ الوِلايَةَ”، أو “فَإِنْ تَبَيَّنَ ظُلْمُهُمْ، خَلَعْتُهُمْ مِنْ مَقَامِهِم، وَرَدَدْتُهُمْ إِلَى ذِلَّةٍ بَعْدَ عِزٍّ، وَقَطَعْتُ عَنْهُم مَا كَانَ لَهُم مِن حُظْوَةٍ وَقُرْبٍ”.
وجَاء في مُسَلسَل “يُوسُف الصِّدِّيق” أيضًا قَولُ “يوزرسيف”: “جُلُّ قَلَقِي هو مِن عَدَمِ إمكانِيَّةِ تَقَدُّمِ الأعمالِ في جَوٍّ مَسمُومٍ كَهَذا”، وهذا ليس كَلامَ نَبِيّ، بَل هو أقرَب إلى مَنشورات “المُؤَثِّريِن” اليَوم..! وَلَو أُسنِدَت إلَيَّ مَهَمَّةُ تَدقيقِ هذا الحِوار لَاقتَرَحتُ: “إنَّما يَخشَى المَرءُ أن يَحُولَ فَسادُ الحَالِ دُونَ تَمَامِ العَمَلِ وَسَدادِ السَّعي”.
وفي مَشهَدٍ آخَر من المُسَلسَل، قالت “نَفِرتِيتِي” مُخاطِبَةً “أخنَاتون”: “لا يَنبغي لجَنابِ الحاكم أن يُصابَ بالاهتِياج؛ مِنَ المُحتَمَلِ أن يُصابَ مُجَدَّدًا بِالإغماء!”، وكَأنَّ “نَفِرتِيتِي” طَبِيبَة مُتَخَرِّجَة حَدِيثًا..! وأقتَرِحُ هذا البَدِيل: “لا يَحسُنُ بِالحَاكِمِ أن يَثُور؛ فإنّ في الثَّورة مَسًّا، ولَعَلَّ الغَشْيةَ تَعُودُ سِيرَتَها الأُولَى”. كَمَا جاء في المُسَلسَل على لِسانَ إحدَى الشَّخصِيَّاتِ: “هيَ بِنايَاتٌ مِن أعظَمِ ما تَمَّ بِناؤُهُ في العَالَم!”، ولَعَمْرُ الحَقّ، ما كان هذا لِيَجرِيَ على ألْسُنِ مَن كانوا في دَهرِ يُوسُف لَو نَطَقُوا العَرَبِيَّة؛ فإنّ لَفظَ “البُنيان” قَد يُحتَمَل، أمّا “البِنايَات” فمُحدَثَة، وَلَفظَ “العَالَم” مِمّا لا عَهدَ لَهُم بِه، لا في اصطِلاحٍ، ولا في سِعةِ دِلالَة.
وأمَّا القَولُ “تَمَّ كَذا” فَمِمَّا أحدَثَهُ المُتَكَلِّفُون مُن كُتَّابِ الدَّواوِين، وتَشَبَّهوا فِيهِ بِأهلِ الطُّرُقِ والفُنون. ولَو جُعِلَ إلَيَّ أمرُ مُراجَعةِ ألفاظِهم، وتَدقيقِ مَنطِقِهم، لاختَرتُ قَولًا يَليقُ بِعَهدِهِم، ويُؤنِسُ سَمعَ العَرَبِيِّ الصَّريح، على نَحوِ: “تِلك صُرُوحٌ ما رُفِعَ مِثلُها في الأرض”، أو “شُيِّدَت فأعجَزَت البَنَّائِين، وَجاوَزت مَألوفَ العُمران”، أو “هي في البُنيانِ أُعجُوبةٌ، لَم يُخلَق مِثلُها في البِلاد”.
”الكواسر”..لغة لا توافق العصر
وفي مُسَلسَل “الكَوَاسِر”، جَاء قَولُ “هَديل”: “هذا حَديثٌ لا يَدُورُ على ألْسِنَةِ الصِّبيَة. فَمِن أين تَأتِيانِ بِتِلكَ المَعلومات؟”، وكأن هذا أقرَب إلى رُدودِ الذَّكاء الاصطناعي، ولَيسَ من عَرَبِيَّةِ ذَاكَ الزَّمانِ في شَيء..! وإنِّي أقتَرِحُ هذه الصِّيَاغَة البَدِيلَة: “هَذا حَدِيثٌ لا تَجرِي بِه ألسِنةُ الصِّبيَة. فَأنَّى لَكُمَا بِه؟”.
وفي المُسَلسَل نَفسِه، قَولُ “خَالِد”: “هو مَن رَبَّاك وهو مَن قام بِرِعايَتك”، والصَّواب: “هو مَن رَبَّاك وهو مَن رَعاك”؛ لأنَّ استِعمالَ (قَامَ) على هَذَا النَّحوِ دَخِيلٌ، حَمَلَتهُ الألسُنُ عَن عَجَمٍ يََتوَسَّلُونَ بِالأفعال المُساعِدَة modal verbs، ولَيسَ في لِسانِ العَرَبِ ما يَقتَضِيه. وفي مَوضِعٍ آخَر جَاءَ على لِسانِ “البَاشِق”: “لكنَّ طِفلنا لا بُدَّ أن يَظهر. وكيف لا يَظهر وأنا أكثَرُ رُجولةً من شاهين، وأنتِ أكثَرُ فِتنَةً من العَنقاء..!”، عِلمًا أنَّ “العَنقاء” أُختُ البَاشِق..! وَلا يَستَقيم - في أعراف العرب وأذواقهم - أن يُشَبِّهَ الزَّوجُ جَمالَ زَوجَتِه بفِتنةِ أُختِه؛ إذ هذا مَخْرجٌ يُنكِرُهُ الذَّوق العربيُّ، وتَهفِرُ منه النَّخوة، لِما فيه من خَلطِ بين المَحارم ومَواضِع الشَّوق، ولَو في مَعرِضِ المُبالَغة أو الإشادة. كان بإمكان كاتِبِ الحِوار أن يَصُوغَ القَولَ هكذا مَثَلًا: “لا بُدَّ لِلوَلَدِ أن يَكون؛ فأنا في الرِّجالِ كالسِّنانِ في الرِّماح، وأنتِ في النِّساءِ كالبَدرِ في الدُّجَى. فَأنَّى لِمِثلِنا أن يَخلوَ مِنه النَّسل؟!”.
”البواسل”..لسان بلا بيان..
و«البَوَاسِل” هو الجزء الثالث من الفنتازيا التاريخية التي أتحَفَنا بها نِهايةَ القرن الماضي “هاني السعدي ونجدة أنزور”، بعد “الجَوَارِح” ثُمَّ “الكَوَاسِر”. ومِن هذا المُنطَلَق فَإنَّنَا نُقَدِّر بأن مُستَوَى اللُّغة والخِطاب والحِوار فيها يَكُونُ أقرَب إلى سُنَنِ الحَدِيث لَدَى العَرَب الأوائل، وأبعَد ما يَكونُ عن العَرَبِيَّة المُعاصِرَة المُثخَنَةِ بِجِراحٍ خَلَّفَها في رُوحِها المُقتَرَضُ من الإفرنجيّ الدَّخيل، والمُعتَرَضُ من الأصلِيِّ الأصيل..! ومع ذلك، فَقَد أفلَت هذا من المُؤَلِّف ومُدَقِّق الحِوارات في أحايِينَ كَثيرَةٍ، ومِنها قَولُ “جَندَع بن الخَيثَم” في أحَد المَشاهِد مَثَلًا: “الأُسرةُ عالَمٌ مَليءٌ بِالغُموض يا شِيبَة؛ لأنَّها مجموعة عَوالِم ولَيسَت عَالَمًا واحدًا، فَلِكُلِّ فَردٍ فيها طريقة تَفكيرِه”. وإنَّ هذا لأقرَبُ إلى تَصريحَاتِ وَزيرَة التضامن في نَشرَة الثامنة مِنهُ إلى عَرَبِ الأزمِنة الغابِرة..! وَلَو اضطَلَعتُ بِمَهَمَّةِ تَدقيقِ هذا الحِوار لَاقتَرَحتُ: “يا شِيبة، إنَّ الأُسرَةَ لَعالَمٌ تَتَشابَكُ فِيهِ المَسالِك، بَل هِيَ نِحَلٌ شَتَّى، لِكُلِّ امرِئٍ فيها رَأيٌ يُمضِيه ومَذهَبٌ يَرتَضِيه”. وَجَاءَ في “البَوَاسِل” أيضًا قَولُهُم: “ابنُ الرُّومِيَّة” ماتَ مَوتًا طبِيعِيًّا. وهذا أقرَبُ إلى قَول جَارِنا الطَّبِيب! أمَّا العَرَبُ قَدِيمًا فَقَالَت: “فُلانٌ مَاتَ حَتفَ أنفِه”، وهو مَثَلٌ يُقالُ لمن مَاتَ مِيتَةً طبِيعِيَّةً ولَم يُقتَل.
”الزير سالم”..حوارات “مسنجر”!
أمَّا رائعة “حاتم علي”، مُسَلسَل “الـزِّيـر سَـالِـم”، فَلَم يَسلَم هو الآخَر من هذا التَّقصِير، ومنه أنَّهُ لَمَّا شَاعَ فِي القَومِ أَنَّ جَسَّاسًا قَتَلَ كُلَيبًا، أَوَت الجَلِيلَةُ إلى خِدرِهَا، فَأَسدَلَت دُونَهَا السِّترَ، وَأوصَدَتِ البَابَ إيصَادًا، وَأَخَذَهَا مَا يَأخُذُ الحُرَّةَ إِذَا تَمَزَّقَ بَينَ أَهلِهَا السَّدَادُ وَالوِدَاد. فَجاءَتها “الزَّهراء” مُخاطِبَةً بِعِتاب: “أتَظُنِّينَ أنَّكِ قَادِرَةٌ على الاعتِصامِ إلى الأبَد؟”، وكأنَّ هذا استِجوابٌ لمُعتَصِمِين في مَركَز الشُّرطَة! وَلَو أُسنِدَت إلَيَّ مَهَمَّةُ تَدقيقِ هذا الحِوار لَاقتَرَحتُ: “أوَتَرَينَ أنَّكِ في حِصنٍ حَصينٍ لا يُؤتَى عَلَيهِ أبَدًا؟”. وفي مَشهَدٍ آخَر، قَالَت “البَسُوس” مُخاطِبَةً “هَمَّام”: “أين أنتَ يا عَزيزِي؟ ألَستَ في هذه الحَياة؟»، وكأنَّها تُدَردِش في مسنجر مع “نَبهان”. وأقتَرِحُ بَدِيلًا لِقَولِها: “أينَ مَآلُكَ يا عَزِيزِي: أَفِي الأرضِ أَمْ طَوَاكَ الغِياب؟” أو “أَنبِئنِي عَن شَأنِكَ يا عَزِيزِي: أَبَينَ الأحيَاءْ أَمْ أَدركَكَ القَضَاءْ؟”. وفي مَوضِعٍ آخَر، تَحَدَّثَ “هَمَّامٌ” عَن “كُلَيبٍ” فَقَال: “كان يَحمِلُ لَنَا مَشرُوعًا كَبِيرًا”، وَكَأنَّ “هَمَّامًا” مُدِيرٌ عَامّ في شَرِكَة وطنية يَصِفُ أحَدَ مُوَظَّفُيه..! وَلَو كُلِّفتُ بِتَدقِيقِ الحِوارات لَاقتَرَحتُ مَثَلًا: “كان يَنهَضُ لأمرٍ عَظيم» أو «كان يَطوِي في صَدرِهِ شَأنًا عَظِيمًا يَنهَضُ بِهِ بَنُو قَومِهِ”.
ومِن عَجِيبِ ما سَمِعنا أيضًا قَولُهُم: “نَحتاجُ قَنادِيلَ، بِمُعَدَّلِ 50 قِنديلاً”، أهكذا تَحَدَّثَ العَرَبُ الأوائل؟ أم أنَّهَا قِراءَةُ مُحاسِبٍ لِجَردِ المُعِدَّات السَّنَوِيّ الذي تُصدِرِهِ مُؤَسَّسَةٌ ما! وَلَو كُلِّفتُ بِتَدقِيقِ الحِوارات لَاقتَرَحتُ مَثَلًا: “نَحتاجُ إلى خَمسِين قِنديلًا” أو “نَحنُ في حَاجَةٍ إلى خَمسِين قِنديلاً”. وهذا أبُو نُوَيرَة التَّغلِبِيّ يَقول: “لا تُخطِئ يا أبا لَيلَى؛ حَتَّى القِتالُ صَارَ عِلمًا”، ولا أظُنُّ أنَّ لِلكَلِمَة “عِلم” آنَذاك الدَّلالَة ذَاتَها اليَوم. وفي تَقدِيري أنَّهُم كانوا يستعملون اللَّفظَتَين: صِناعَة أو فَنّ. فَتَكُونُ هذه البَدَائِلُ أصَحَّ: “لا تُخطِئ يا أبا لَيلَى؛ فَالقِتالُ اليَومَ صِناعَة” أو «لا تُخطِئ يا أبا لَيلَى؛ فَالقِتالُ اليَومَ فَنّ”.
وَمِن عَجائبِ ما سَمِعناه في هذا المُسَلسَل مَقولَةٌ على لِسانِ “جَسّاسٍ”، يُخاطِبُ بها أباه “مُـرَّة”، إذ قال له - والعَتَبُ في طرفِ لِسانِه -: «عُدتَ مُجَدَّدًا إلى هذه النَّغمَة يا أَبِي؟!”، أتُراه كانَ يَستَمعُ إلى عُودٍ أو رَبابة؟ أَم ظنَّ الحديثَ نَغمًا يُطرِبُ أو يُنشَزُ؟ وهل كانت أقوالُ العربِ تُوصَفُ بالنَّغم، أو تُنسبُ إلى اللحنِ والطَّرب؟ والله ما ذاك مِن سُنَنِهم، ولا هو مما تَجرِي به ألسنتُهم في حِقبةٍ جَاهليةٍ أو بَعدَها لَم تَعرِف آلاتِ الطَّربِ على هذا الوَصف، ولا شَبَّهتِ الأقوالَ بالألحان، ولا الجِدَّ بالغِناء. والعربُ إذا أرادوا أن يُشعِروا المُخاطَبَ بتَكرارِ القول، وكَثرةِ العَودِ إلى مسألةٍ قد بَلَغَ منها المَبلغَ، قالوا مَثَلًا: “أعَدتَ القَولَ كَرَّةً بعدَ كَرَّة؟” أو «عُدتَ تُحْيي ما خَفَّ وَهَجُه..؟!” أو “ما تزالُ تَسُوقُ هذا الحَديثَ سَوقَ الحادِنِ الكَلِّ” وغيرها.
بين سحر البيان وفتات الألفاظ
وإن قال قائلٌ: إنّكم تُعسِّرون الكلامَ على السامعِ، وتُغلّظون اللفظَ على المتلقّي، فقولوا له: أكنتَ تفقهُ أوّلَ مرّةٍ قَولَ “الزِّيرِ”: “لن أُبقِيَ من بني بَكرٍ صافرَ نار”؟ أو أدركتَ كنهَ قول “جسّاسٍ”: “إنهنَّ يكبرن كخضراواتِ الدِّمَن”؟ ما أراك إلا وقفتَ عندها مبهوتًا، لا تدري رأسَها من ذنبِها، حتّى تساءلتَ أو بحثتَ أو عُدتَ بالسياقِ على اللفظِ، فاستبينتَ مراده بعد طولِ طلبٍ وتأنٍ. فإن كنتَ قد قُدْتَ نفسَك حينئذٍ إلى الفهمِ رغبةً في البيان، فما لك اليومَ تنكِرُ علينا أن نسوقَ إليك من لُبابِ العربيةِ ما يقفُ عنده فَهمُك، ثم تُطالِبُنا بما تُسَمّيه “التبسيطَ” وهو في التحقيقِ تسطيحٌ وتغريبٌ؟
ولَيستِ الغايةُ من هذا التَّمرينِ النّقديِّ تَنَكُّرًا لإنجازِ هؤلاءِ الكُتّابِ والمُخرِجِين الذين اجتهدوا في رَفدِ الدراما التاريخيّةِ بما يُعيدُها إلى الذاكرةِ العربيّة، وإنّما هو نَداءٌ لتحريرِ ألسِنةِ الشّخصيّاتِ من فَخِّ المُعاصَرةِ الزّائفة، ومنحِها حُرّيّةَ التكلُّمِ بِما يَليقُ بزَمانِها وسِياقِها؛ إذ ما جدوى أن نَكسُو الوجوهَ بِلِحى القُدماءِ، ونَجلِبَ السُّيوفَ والدُّرُوع، ثمّ نُطلِقَ على الألسنِ عباراتٍ مِن لُغةِ نشراتِ الأخبار ومَقالاتِ الجرائد؟
إنّ الأمانةَ الفنّيّةَ لا تَقتصرُ على الدِّقّةِ في الأزياءِ والمَعارك، بل تتعدّاها إلى دقّةِ اللفظِ وصِدقِ الخطاب. ومن ثمَّ، فإنّ ما نَطمَحُ إليه ليسَ مجرّدَ إعادةِ كتابةِ الحِوار، بل إعادةُ اكتشافِه بوصفِه مِفتاحًا للفَهمِ الجَماليّ والسِّياسيّ على حدٍّ سواء، وفَتحًا لآفاقٍ جَديدةٍ في دراما تُخاطِبُ الوجدانَ العربيَّ لا بأدواتِ الاستِعراب، بل بأنفاسِ البيان.
فَيَا مَن تَزْعُمُ أنَّ لِسانَ الدِّراما ينبغي أن يُبَسَّطَ حتَّى يَفْهَمَه العامَّة، ويَسْتَوعِبَه مَن دُونَهم مِمَّن أُشْرِبُوا لُغةَ السُّوقِ ومَنطِقَ الرَّصيف، هَبْنا قَبِلْنا دعْواك، أفتُراكَ تَرضى أن نَسْتبدِلَ سِحرَ البيانِ بفُتاتِ الألفاظ؟ وأن نَكسِرَ من شَأْوِ العُرْبةِ لِأَنْ يَتَواطأَ السَّامِعُ الجاهِلُ على فَهْمٍ العُجمَة؟ إنَّما تُروى هذه الأعمالُ في نَفَسِ التَّاريخِ، وتُسْبَغُ عليها حُلَلُ القِدَمِ، فهَل رأيتَ في أيَّامِ الحَيرةِ والنَّعمانِ، أو دَهرِ إياسِ بنِ مُعاويةَ، أو حِكَمِ أكْثَمَ بنِ صَيفيٍّ، أن قال قائلٌ: “نَنْقُلُ الأخبارَ إلى أرشيف الوُثائق؟”، هيهاتَ! تَبايَنَ منطقُ الأوَّلين ومنطِقُ هؤلاءِ المُحدَثِين، كما تَبايَنَ الشِّعرُ من سَجعِ الكُهَّان. فإن كنتم تُريدون تَعليمَ النَّاس، فَلِمَ تُخاطِبونهم بلُغةٍ تَسوقُهم إلى ما هو أردى؟ بل قُوموا عليهم حَسَبَ ما يقومُ به السَّقاءُ على العَطْشَان: يُمِدُّه بما يُنقِذُه، لا بما يُغرِقُه.
ألم تَقرؤوا في كِتابِ الله: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ﴾؟ فهل كان لِسانُ قَومِه مُتهافِتًا في لَحنِه، مُبتذَلًا في نَسْجِه، مُدلَّسًا في جَوهِره؟ لا واللهِ، بل كان أفصَحَ من نَطَق، وأبلَغَ من خطَب. فدَعُوا مَن يَصُوغُ الكلامَ على سُنَنِ البلاغةِ يَسمُو بالذَّوقِ، ويُرَبِّي الأُذُنَ على البيانِ الصَّحيح، وأعينونا على إحياءِ إرثٍ لو حُفِظَ لأغنى عن دَواوينِ العالَم.
فَحُقَّ لَنا وَالحَالُ هذه أن..
نُعلِي مقامَ البيان، ونُرَقِّي رُتبةَ اللسان،
ونُغذِّي الذائقةَ بما يَسمو بها عن الهُزال،
ويُخرِجُها من ضائقةِ التَّفَرنُجِ وَالابتذال.
واللهُ المُستَعانُ، وعليه التُّكلان.
مترجم – مدقّق لغوي – مهتم بالشّأن الثقافي