تطويــــــــــــــر الكفــــــــــاءات..شــــــــــــرط أساســــــــــــي لنهضــــــــــــة المســــــــــــرح
أكّد الدكتور مراد ترغيني، الباحث الأكاديمي بجامعة عباس لغرور بخنشلة في تصريحه لـ«الشعب”، أنّ المسرح الجزائري، رغم ما يواجهه من صعوبات وتحدّيات، لا يزال حيّا ينبض بالحياة، رافضا الاعتقاد القائل بأنّه في حالة موت سريري.
أوضح الدكتور مراد ترغيني، أنّ المسرح في الجزائر يمر بمرحلة تحوّل وتبدل، قد تكون بطيئة من حيث الوتيرة، لكنها تدلّ على وجود حراك مسرحي مستمر لا يمكن تجاهله. وشدّد على ضرورة النظر إلى الواقع برؤية واقعية، مع الإقرار بأنّ المسرح الجزائري اليوم لم يعد ذلك المسرح المزدهر الذي عرفته الجزائر في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، حين كانت البلاد تعيش زخم الاستقلال وحماسه، وكان هناك جيل من الرواد الكبار الذين أسّسوا تقاليد مسرحية قويّة صنعت مجد تلك المرحلة الذهبية.
وأشار الدكتور ترغيني، إلى أنّ التراجع في الإقبال الجماهيري وتراجع وتيرة الإنتاج المسرحي أمر ملموس، لكنه لا يعني غياب الفعل المسرحي أو اندثاره. بل على العكس، لا تزال هناك طاقات شبابية تحمل مشعل المسرح بشغف كبير، وتحاول جاهدة تقديم أشكال جديدة ومضامين مبتكرة تتماشى مع متغيرات العصر، حتى وإن كانت هذه المحاولات تحتاج إلى دعم أكبر وإلى بيئة فنية أكثر احتضانا. كما أوضح أنّ المهرجانات المسرحية لا تزال تقام في عدة ولايات جزائرية، ما يبرهن على وجود إرادة فنية مستمرة، إلا أنّ هذه التظاهرات - حسب رأيه - تحتاج إلى تطوير من حيث التنظيم والمحتوى، وإلى دعم فعلي يتناسب مع التطلعات الفنية والطموحات الثقافية.
وأضاف أنّ الدولة ما تزال تقدم دعما للمسرح، غير أنّ هذا الدعم، رغم أهميته، يظل محدودا ولا يكفي للنهوض بالمشهد المسرحي كما يجب. ويرى أنّ التحدّيات التي تعرقل ازدهار المسرح الجزائري كثيرة ومتشعّبة، وتعكس في جزء كبير منها عمق الأزمة الثقافية التي يعاني منها المجتمع. وذكر من بين أبرز التحدّيات التي تواجه المسرح الجزائري مسألة التمويل، حيث أوضح أن غياب ميزانية كافية لإنتاج عروض مسرحية ذات جودة عالية يشكل عائقا حقيقيا، فضلا عن غياب استثمار خاص جادّ يدفع بعجلة هذا الفن الحيوي نحو الأمام. وأكّد أنّ البنية التحتية المسرحية بدورها تعاني من الإهمال، حيث أنّ العديد من قاعات العرض تفتقر إلى التجهيزات التقنية الحديثة، ما يضعف من قيمة العرض المسرحي ويؤثر على تجربة الجمهور.
وتطرق محدثنا أيضا، إلى إشكالية العلاقة مع الجمهور، مشيرا إلى أنّ هناك فجوة تتسع بين المسرح والمتلقي، وهي ناتجة عن تغير الذوق العام، وسيطرة أنماط ترفيه أخرى على المشهد الثقافي، إضافة إلى غياب التربية المسرحية في المدارس والفضاءات التربوية، وهو ما انعكس سلبا على إقبال الناس على العروض المسرحية. ودعا إلى ضرورة استعادة ثقة الجمهور، من خلال أعمال مسرحية تقدّم بلغة قريبة من الناس، وتتناول مواضيع تمسّ حياتهم اليومية وقضاياهم المعاصرة، مع الحرص على تقديم المتعة والجاذبية في الطرح.
كما أشار مراد ترغيني، إلى تحدّيات أخرى ذات طابع فني وإبداعي، مؤكّدا أنّ المسرح فن حيّ يتطلب تجديدًا مستمرًا في اللغة المسرحية وفي أساليب الأداء والكتابة والإخراج..وبيّن أنّ الاجترار والتكرار من أهم المشكلات التي تضعف من القيمة الفنية للأعمال المقدّمة، ما يستوجب فتح المجال أمام التجريب وتشجيع المبادرات الجديدة، خاصة من قبل الشباب الذين يحملون رؤى معاصرة. وشدّد على أهمية التكوين المستمر للفنانين في شتى تخصّصات العمل المسرحي، سواء في التمثيل أو الإخراج أو السينوغرافيا، لمواكبة التحولات التقنية والفكرية التي يعرفها المسرح عالميًا.
وأوضح الدكتور ترغيني أنّ الجانب الإداري والمؤسساتي يعد من التحدّيات الكبرى، حيث تعاني المؤسّسات المسرحية من ضعف في التسيير وغياب الكفاءة في الإدارة، فضلا عن البيروقراطية التي تعرقل الديناميكية المسرحية وتكبح مشاريع الفرق المستقلة. وقال إنّ إصلاح المؤسسات وتطوير كفاءات العاملين بها هو شرط أساسي لتحقيق أيّ نهضة مسرحية حقيقية، داعيا إلى ضرورة تبني استراتيجيات واضحة لتطوير المسرح، تكون قائمة على التخطيط والمتابعة والتقييم، وتشرك مختلف الفاعلين الثقافيين.
ورغم هذه التحدّيات، شدّد الدكتور على أنّ المسرح الجزائري ما يزال يؤدّي أدوارا مهمة داخل المجتمع، حتى وإن لم تكن هذه الأدوار بنفس الزخم الذي كان في السابق. فالمسرح -بحسبه- لا يزال يعكس نبض المجتمع ويعبر عن همومه، من خلال بعض الأعمال التي تتناول قضايا اجتماعية وثقافية وسياسية مهمة، وتسهم في فتح النقاش العام. وأضاف أنّ المسرح يظلّ وسيلة فعّالة للحفاظ على الهوية الثقافية الوطنية، من خلال استلهام الحكايات والأساطير والتراث الشعبي، وتقديمها في قوالب فنية معاصرة.
كما أفاد أنّ المسرح يمكن أن يؤدّي دورا تربويا وتوعويا، خصوصًا في أوساط الشباب، حيث تساهم بعض الأعمال في ترسيخ مفاهيم المواطنة، وتعزيز قيم التسامح، إلى جانب ترسيخ السلوك المدني وحماية البيئة. وأكّد كذلك أنّ المسرح لا يزال يوفر ترفيها يمزج بين المتعة والفكر، ويثير العواطف والأسئلة، ويساهم في تنمية الذوق الجمالي لدى الجمهور.
وختم الدكتور مراد ترغيني حديثه، بالتأكيد على أنّ النهوض بالمسرح الجزائري لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال تضافر جهود كلّ الفاعلين، بداية من الدولة التي يجب أن ترفع من حجم الدعم المالي، وتشجع على الاستثمار في المجال، مرورا بالمجتمع المدني الذي من شأنه أن يلعب دورا محوريا في نشر الثقافة المسرحية، ووصولا إلى الفنانين والمثقفين الذين يقع على عاتقهم تقديم إنتاج فني جادّ ومتميّز. وأشار إلى ضرورة العمل على تنمية الجمهور، وتطوير التكوين، وتبسيط الإجراءات الإدارية، وتعزيز التبادل الثقافي، حتى يستعيد المسرح الجزائري مكانته التي يستحقّها إقليميا، ويواصل أداء دوره في بناء مجتمع أكثر وعيا وتقدّما.