بدأ الانفراج التدريجي يعود إلى مختلف المراكز الثقافية والفكرية وقاعات العروض بولاية بومرداس، ولو بطريقة محتشمة بعد تحسّن الوضع الصحي، وتراجع هاجس أزمة كورونا التي شلّت في وقت سابق مختلف الأنشطة، وأدخلت الأسرة الفنية في سبات عميق وعطلة مفروضة فاقمت من حالتها الاجتماعية، بعد أن فقدت آخر مصدر مادي ومورد لتمويل مختلف المشاريع المعطّلة، وبالتالي اكتشف الجميع مدى هشاشة هذا البيت.
نال قطاع الثقافة حصة الأسد من ضريبة جائحة كورونا واجتاز على محك كان وقعه قاسيا مقارنة مع باقي الأنشطة الاقتصادية والصناعية الأخرى، التي ابتكرت لنفسها بدائل للتخفيف من حدة الأزمة، حيث وجدت الأسرة الفنية نفسها بين عشية وضحاها مشتتة بلا إنتاج ومحرومة من دخول الفضاءات الثقافية المهجورة بعدما سكنها الصمت وغادرها الجمهور، وهنا كان التحول عندما أدرك الجميع ممّن يشتغل في القطاع، أن حالة الفوضى والعبث، وغياب النظرة الاستشرافية المستقبلية لن يكون مفروشا بالورود ومصيره الانسداد، خاصة في ظل رفض المغامرة ونقل الفعل الثقافي من نشاط مناسباتي عابر إلى صناعة واستثمار مستدام قادر على مواجهة مثل هذه الهزات.
ومثلما عرت جائحة كورونا قطاع الثقافة، وأظهرت مدى هشاشته وعدم قدرته على مواجهة مثل هذه الأزمات الاجتماعية العابرة، وبالتالي امتلاك آليات التكيف مع المتغيرات بما فيها الاقتصادية والمادية، مثلما كانت درسا مفيدا للمشتغلين فيه والقائمين عليه الذين يجب أن يدركوا أن الوقت قد حان لتحقيق الاستقلالية في الإبداع، والتحرر من التبعية والارتباط المتواصل بالدعم والتمويل العمومي السنوي المخصص لهذه المراكز والجمعيات العاجزة، نحو الاحترافية الكفيلة بتقديم منتجات تنافسية تكون مصدرا لتمويل مختلف المشاريع واستمرارية النشاط.
تثمين الإنتاج الثّقافي اقتصاديا..مشروع تبخّر
لقد كانت هواجس هذا المصير مطروحة بالفعل من قبل القائمين على الشأن الثقافي ببلادنا، وكانت الكثير من الأفكار معروضة للنقاش في شكل استراتيجية لتثمين مختلف الأنشطة والإبداعات، وإعطائها صبغة تجارية اقتصادية بإمكانها حماية الأسرة وتجنيبها هذا الواقع المحتوم، وهذا بتقديم جملة من المقترحات للنهوض بالقطاع أهمها المقاربة النفعية التي طرحت للنقاش والإثراء، بهدف تشجيع الفرق والجمعيات الناشطة في المجال على خوض غمار الاستثمار عن طريق إنشاء تعاونيات في شكل مؤسسات مصغرة تحظى بمرافقة أجهزة دعم الدولة، مثلها مثل المؤسسات الصناعية لتحقيق الاستقلالية والتخلص من أعباء التبعية والتمويل العمومي للمشاريع ذات الصبغة الثقافية، وأكثر من هذا تطهير القائمة من الانتهازيين المنتفعين على حساب المبدعين حقا. وقد عرض هذا التوجه الاقتصادي الجديد لقطاع الثقافة في فترة سابقة بولاية بومرداس من قبل كاتب الدولة المكلف بالإنتاج الثقافي سابقا سليم دادة، وذلك على هامش فعاليات اليوم الدراسي حول موضوع «الاستثمار في المهن الثقافية» شهر فيفري سنة 2020، وكان الغرض منه تحقيق هدفين رئيسيين الأول هو الاهتمام أكثر بالتنمية البشرية والطاقات المبدعة المهمّشة، والثاني والأهم هو التوجه نحو تحقيق اقتصاد جديد مبني على المنتوج الثقافي كصناعة تعيد بناء هوية الفنان والمبدع كعنصر إيجابي يساهم في إنتاج الثروة بعيدا عن المفهوم السلبي الحالي، الذي يرمز له ككائن مستهلك ومعلق بالدعم السنوي، وكل هذا ضمن استراتيجية متكاملة سياسيا، اقتصاديا وسياحيا أيضا قد تعيد للفعل الثقافي مكانته، وتساهم في التعريف بالثقافة الوطنية والترويج للمنتوج الجزائري وتسويقه. اليوم، وبعد هذه التجربة المريرة، أدرك الجميع وبالأخص العاملين في الحقل الثقافي والفكري، أن سياسة الهروب إلى الأمام وتسيير المؤسسات والمراكز الثقافية بطريقة إدارية جافة، لا إبداعية ومنتجة للأفكار والمشاريع هو طريق غير مضمون في المستقبل، وعليه فقد أعادت هذه الظروف ونتائجها الصحوة لعدد من القائمين على الهيئات الثقافية المحلية بولاية بومرداس، التي بدأت تبادر إلى أنشطة وتحاول مواكبة الأحداث الهامة، في انتظار تبني هذه المقاربة الاقتصادية الحتمية.