المبحث الثاني: تحوّل التدخل الإنساني إلى مسؤولية الحماية
أعلن رئيس الوزراء الكندي السيد جون كريتيان، في مؤتمر الألفية -الذي عقد في سبتمبر من عام 2000 -عن إنشاء وتشكيل اللجنة الدولية المعنية بالتدخل وسيادة الدول (ICISS) تنصب مهامها على وضع أسس التدخل الدولي الإنساني، ومحاولة دعم نقاش عالمي شامل حول العلاقة بين التدخل و سيادة الدول، يقوم على أساس التوفيق بين واجب المجتمع الدولي في التدخل أمام الانتهاكات الواسعة والخطيرة للقواعد الإنسانية وضرورة احترام سيادة الدول.
قدّمت اللّجنة تقريرها ونشرته في ديسمبر 2001، وقد خلص التقرير إلى إستبدال التدخل الدولي الإنساني بمسؤولية الحماية، إذ يقع على عاتق الدولة نفسها المسؤولية الرئيسية عن حماية سكانها احتراما لمبـدأ السيادة، غير أنه في حالة تعرض السكان لأذى خطير نتيجة حـرب داخلية، أو عصيان، أو قمع، أو إخفاق الدولة أو كون الدولة غير راغبة أو غير قادرة على وقف الأذى أو تجنبه يتنحى مبدأ عدم التدخل لتحل محله المسؤولية الدولية للحماية، من هنا كان أول ظهور لفكرة مسؤولية الحماية التي تعدّ تطورا لمبدأ التدخل الإنساني.
المطلب الأول: مستويات مسؤولية الحماية
أكد تقرير اللجنة المعنية بالتدخل وسيادة الدول على أن مسؤولية الحماية تشتمل على ثلاث مسؤوليات محددة:
الفرع الأول: مسؤولية الوقاية
تتمثل في معالجة الأسباب الجذرية والمباشرة للصراع الداخلي وغيره من الأزمات التي هي من صنع الإنسان، والتي تعرض الشعوب للخطر. وقد أكدت اللجنة على أن مسؤولية الوقاية لم تعد شأنا وطنيا أو محليا فقط، بل واجب يقع على المجتمع الدولي بكامله.
هنا تجدر الإشارة إلى أن كل من الجمعية العامة ومجلس الأمن اعتمدا في عام 2000 قرارات هامة تعترف بالدور الحيوي لكل أجهزة الأمم المتحدة في منع وقوع الصراعات والعمل على تجنبها، حيث أكد المجلس أهمية إتباع إستراتيجيات وقائية فعالة وطويلة الأجل لمنع وقوع النزاعات الداخلية خاصة.
غير أنه لا يوجد اتفاق عالمي على تحديد الأسباب الجذرية للنزاعات، أو التفرقة بينها وبين الأسباب المباشرة للنزاعات المسلحة، إلا أن تقرير اللجنة المعنية بالتدخل وسيادة الدول حدّد أربع تدابير لمنع الأسباب الجذرية والمباشرة للصراع، هذه التدابير منها ما هو داخلي أي تتخذه الدول لحماية شعوبها ومنها ما هو ذو طابع دولي، وتتمثل هذه التدابير فيمايلي:
-التدابير السياسية: وتتضمن التدابير التي يمكن أن تتخذها الدول في إقامة الديمقراطية وتقاسم السلطات الدستورية، وتكريس مبدأ التداول على السلطة وحماية الحريات وسيادة القانون، كما تشمل أيضا التدابير السياسية والدبلوماسية التي يمكن أن يتخذها الأمين العام للأمم المتحدة كالوساطة والمساعي الحميدة، وبعثات تقصي الحقائق.
-التدابير الاقتصادية: تتمثل هذه التدابير في العمل داخليا على تقديم مساعدة إنمائية لمواجهة أوجه الإجحاف في توزيع الموارد وتشجيع النمو الاقتصادي، كما تشمل هذه التدابير على المستوى الدولي تمويل وتشجيع الاستثمارات الدولية وتسهيل التبادلات التجارية، وقد تشمل هذه التدابير اتخاذ إجراءات ذات طبيعة قسرية كالتهديد بجزاءات تجارية ومالية، وسحب الاستثمارات أو الدعم المقدم من طرف صندوق النقد الدولي.
-التدابير القانونية: تشمل الجهود الرامية إلى تعزيز سيادة القانون، وحماية وضمان استقلالية الأجهزة القضائية للدولة، وتشجيع تنفيذ القوانين، أما فيما يخص البعد الدولي لهذه التدابير فيشمل اللجوء للتحكيم والقضاء الدولي في حالة النزاعات الداخلية.
-التدابير العسكرية: تشمل إصلاح المؤسسات العسكرية والأمنية للدول وضمان مساءلة الأجهزة الأمنية لها وضمان عملها في إطار القانون، وعلى المستوى الدولي، يمكن اتخاذ تدابير عسكرية مثل الانتشار الوقائي للقوات، ويعد وجود قوات للأمم المتحدة للانتشار الوقائي في مقدونيا أحسن مثال في هذه الحالة.
الفرع الثاني: مسؤولية الرد
تنطوي مسؤولية الحماية بادئ ذي بدء على مسؤولية القيام برد فعل على أوضاع تكون فيها الإنسانية في حاجة ملحة إلى الحماية، عندما تفشل التدابير الوقائية في تسوية النزاع واحتوائه، وعندما تكون الدولة غير قادرة أو غير راغبة في معالجة الوضع، وهو الأمر الذي يستدعي اتخاذ تدابير تدخلية من طرف أعضاء المجتمع الدولي الأوسع نطاقا، وقد تشمل هذه التدابير القسرية تدابير سياسية أو إقتصادية أو قضائية، وفي الحالات البالغة الشدة تشمل التدابير العسكرية أيضا، وفيما يخصّ أولوية هذه المبادئ، فإنه يتعين دائما النظر في اتخاذ تدابير قسرية دون العمل العسكري، بما فيها على وجه الخصوص، مختلف أنواع الجزاءات السياسية والاقتصادية والعسكرية.
غير أن هذا لا يعني أن فشل التدابير الوقائية من الأسباب الجذرية أو الأسباب المباشرة لتفادي أو احتواء أزمة إنسانية أو صراع، أن العمل العسكري لازم بالضرورة، إنما ينبغي أولا حيثما أمكن، دراسة مسألة اتخاذ تدابير قسرية دون العمل العسكري، بما فيها على وجه الخصوص مختلف أنواع الجزاءات السياسية والاقتصادية والعسكرية والتي سنبرزها أدناه.
وفي السياق ذاته، فإن الجزاءات الدولية تعرقل قدرة الدول على التعامل مع العالم الخارجي بينما لا تمنع الدولة ماديا من القيام بأعمال داخل حدودها، وتهدف هذه التدابير مع ذلك إلى إقناع السلطات المعنية باتخاذ أو عدم اتخاذ تدبير معين أو تدابير معينة، أما التدخل العسكري من جهة أخرى، فيتدخل مباشرة في قدرة السلطات الداخلية على العمل في داخل أراضيها، فهو فعليا يزيح السلطة الداخلية ويحل محلها ويهدف إلى معالجة المشكلة المعنية أو التهديد الحاصل معالجة مباشرة، لهذه الأسباب، وبسبب المخاطر الأصلية التي تصاحب أي استخدام للقوة العسكرية، كان احتمال استخدام العمل العسكري القسري دائما يثير قلق المجتمع الدولي أكثر مما يثيره فرض جزاءات سياسية أو دبلوماسية أو اقتصادية.
تأكيدا على أن التدخل العسكري لا يعد الأساس الجوهري لمبدأ مسؤولية الحماية، فقد أشار الأمين العام السابق للأمم المتحدة كوفي عنان إلى أن جهوده للوساطة في الأزمة الكينية التي أعقبت الانتخابات المتنازع على نتيجتها نهاية 2007 و بداية 2008 ترمي إلى التسوية السلمية، لأن هذه الأخيرة تعد التجسيد الحقيقي لمبدأ مسؤولية الحماية.
لقد برزت في السنوات الأخيرة الجزاءات التي تستهدف القيادات والمنظمات الأمنية المسؤولة عن انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان كبديل مهم عن الجزاءات المقررة في الفصل السابع من الميثاق ويطلق على هذه الجزاءات مصطلح العقوبات الذكية، حيث يعترف مجلس الأمن حاليا بضرورة استثناء المواد الغذائية واللوازم الطبية وكل المسائل الضرورية لحياة الإنسان من دائرة الجزاءات الأممية، كما تركزت الجهود الرامية إلى تحديد أهداف الجزاءات، تحديدا أكثر فاعلية لتقليل أثارها على المدنيين وزيادته على أصحاب القرار، على ثلاث مجالات مختلفة ومحددة تنحصر فيما يلي:
-في المجال العسكري: وضع حد للتعاون العسكري وبرامج التدريب، كذلك حظر بيع الأسلحة، الذي يعتبر أداة مهمة في يد مجلس الأمن والمجتمع الدولي ويمكن التلويح بها في حالة نشوب صراع.
-في المجال الاقتصادي: فرض جزاءات مالية على الأصول المالية في الخارج لدولة ما أو لمنظمة إرهابية أو حركة تمرد، وقد تشمل فرض قيود على الأنشطة الاقتصادية والمنتجات النفطية، وكذلك حظر الطيران في بعض الحالات.
-في المجالين السياسي والدبلوماسي: فرض قيود على التمثيل الدبلوماسي، بما في ذلك طرد الموظفين الدوليين أو تعليق أو رفض عضوية الدولة في هيئة أو منظمة دولية ما.
الفرع الثالث: مسؤولية إعادة البناء
لا تنطوي مسؤولية الحماية على مجرد الوقاية أو رد الفعل فقط، وإنما تتضمن أيضا مسؤولية المتابعة وإعادة البناء، وهذا يعني أنه إذا تم التدخل العسكري في دولة ما –بسبب انهيارها أو تخليها عن قدرتها أو سلطتها على النهوض بمسؤولية الحماية- ينبغي أن يكون ثمة التزام حقيقي بالمساعدة على إعادة بناء سلام دائم، والعمل على إيجاد حسن الإدارة وتحقيق التنمية المستدامة، وينبغي إعادة تهيئة الأحوال الملائمة لإعادة بناء السلامة العامة والنظام العام من طرف موظفين دوليين يعملون في شراكة مع السلطات المحلية، بهدف تحويل سلطة إعـادة البناء والمسـؤولية عنها إلى هـذه السلـطـات.
ومن ثم فإن التخطيط للقيام بتدخل عسكري ينبغي أن ينطلق من أهمية وضع إستراتيجية محددة لما بعد التدخل، هذا الأخير يهدف أساسا إلى منع وقوع نزاعات وحالات طوارئ إنسانية أو زيادة حدتها أو انتشارها أو بقائها أو تكرارها، وبناء على ذلك ينبغي أن يكون هدف هذه الإستراتيجية المساعدة على ضمان عدم تكرار الأسباب التي أدت إلى التدخل العسكري أو مجرد إعادة ظهورها.
كما أنه من بين الوظائف الأساسية التي يلزم على قوات التدخل القيام بها، توفير الأمن الأساسي والحماية اللازمة لجميع السكان، لاسيما أنه عادة ما يحدث أثناء التدخل من عمليات تطهير عرقي وإبادة جماعية للسكان كالحالة العراقية بعد غزو الكويت عام 1990، لذلك من الواجب جدا أن تخطط عمليات ما بعد التدخل لهذه الحالة الطارئة، إلى جانب ضرورة توفير أمن فعلي لجميع السكان حينما يحدث التدخل.
وهنا تجدر الإشارة إلى أنه ضمن المفهوم الواسع لتهديد السلم وتطبيق الفصل السابع لأغراض إنسانية، بدأ مجلس الأمن يشرف على نشاطات ذات طابع داخلي، تتمثل في العمل على إقامة أنظمة سياسية ديمقراطية من خلال مساعدته للدول على إجراء انتخابات حرة ونزيهة، وبالتالي تطور دور مجلس الأمن عما كان عليه أثناء الحرب الباردة، ليصّب اهتمامه على الاتجاهات السياسية للدول عن طريق إعادة السلم أو بنائه بدولة ما وليس المحافظة عليه فقط، وهو الوضع الذي عرف تطبيقه في كل من الصومال وكمبوديا.
«يتبـــــع»