شخصيات

«محمد بن شنب» العالم باللغات وبالاختصاصات

صادق بخوش

سياحتنا على هدى من أمرنا في اقتفاء أثر دروب من دبجوا تاريخنا بمعارفهم في الآداب والفنون والعلوم، هي نزهة الخاطر من ناحية، وأداء الوفاء لأهله من ناحية ثانية.

لئن التقى التياران في مصادر المرجعية الفكرية الواحدة، فقد اختلفت رؤاهما في المقاربة والأهداف، بين مستلب مغترب، وبين آخذ بثقافة المحتل لكنه رافض لمسخه ومظالمه. ويعتبر هذا الطيف أب التيار الوطني الذي أعلن صراحة في أدبياته ومواقفه منذ البدء عن ضرورة انفصال الجزائر عن فرنسا، وإقامة الدولة المستقلة، وتجسيد نظام ديمقراطي.. تجلى ذلك في مواقف حزب نجم الشمال الإفريقي، وحزب الشعب الجزائري، وحركة الانتصار للحريات الديمقراطية، وانتهاء بحزب جبهة التحرير الوطني الذي قاد الثورة التحريرية.
 أما التيار الثالث ونعني ذاك الذي يتخذ من الإسلام مرجعا ومن علوم العربية أداة والماضويّة مثلا، فبقدر ما كان تأصيليا، منبثقا من ماهية الأمة منافحا عن كيانها، مترجما لآلامها ومعاناتها كان قاصرا عن مجاراة حركة التاريخ، عاجزا عن محاورة الأفكار الحداثية للآخر بأفكار عصرية بديلة، تُخرج الأمة من حالة السكونية والتخلف الموروث عن عهود بالية إلى استنهاض الذات بوعي ذاتها وبموضوعها، وذلك لسبين أساسين في اعتقادنا.
1- ترسب التخلف العام في المجتمع الإسلامي وركوده لعديد القرون، في مواجهة نهضة غربية تلتها عصور الأنوار التي أحدثت طفرة في العلوم والتكنولوجيا ونظم الحكم، هيأتها للتوسع والانتشار عبر منظور جيوب سياسي وتسابق نحو ما يعرف بالسيطرة على مناطق النفوذ الحيوي في العالم أدى بالقوى الغربية إلى احتلال ما لا يقل عن ثلثي كوكب الأرض.
2 - إضمار المحتل لهذا التيار كل الشرور، إدراكا منه لما يمثله من مشروع رغم ماضويته، كفيل باستنهاض الهمم وتجنيد الجماهير المرابطة على معالمها الحضارية والمتمسكة بمثلها، والرافضة لهيمنة المحتل الأجنبي في صليبيته وفرنسته وهمجيته، وسرقته لقوت الشعب عبر عقود.
إلا أن هذا التيار سيتخذ مناحي أكثر تنويرا ووعيا مع جمعية العلماء المسلمين فيما بعد، لاسيما مع المفكر المصلح، الشيخ «عبد الحميد بن بأديس» صاحب الرؤية الجديدة في الإصلاح التي تضارع بين النظري والتطبيقي، وبين الكلمة والفعل بأسلوب علمي هادئ .
وسط هذا المشهد العام أين يمكن وضع «محمد بن شنب»؟

 موقع «محمد بن شنب» في المشهد الثقافي والسياسي:
من حيث السياق العام يمكن اعتبار «بن شنب» من الفتيان الجزائريين في أطيافهم المختلفة، لكنه نأى بنفسه عن كل تموقع إيديولوجي أو سياسي، وقد نسب إليه ترديد ما قال الإمام الشيخ «محمد عبده» في زيارته للجزائر سنة 1903:
 «إن شئت أن تقول أن السياسة تضطهد الفكر أو الدين، فأنا معك من الشاهدين... أعوذ بالله من السياسة ومن لفظ السياسة».
 نذر بن شنب كل حياته للعلم والتحصيل والتدريس والتأليف والتحقيق، الأمر الذي مكّنه من أن يخلف وراءه أثرا علميا قلما أنجزه غيره في عصره. كما أن حياده هذا أدى إلى رضى الإدارة الاستعمارية عنه، حتى منحته وسام فارس جوقة الشرف. كما كان يرسل من قبلها في مهمات علمية إلى الخارج، كما ليس من الصدفة أن يحظى بكرسي التدريس في الجامعة الفرنسية في الجزائر كأول دكتور في علوم

اللغة والآداب خليفة للأستاذ «كولان كولين» المتوفى سنة 1924. وقد غلب على منهج تدريسه الأسلوب الإفرنجي بما في ذلك تدريس اللغة العربية لطلابه، وتمّ انتخابه بالمجمع العلمي الاستعماري بباريس، كعضو عامل. في سنة 1928 انتدبته الولاية العامة ومجلس رئاسة الأكاديمية الفرنسية نظير كفاءته وعلمه، ليمثل الحكومة في المؤتمر السابع عشر للمستشرقين في مدينة «أوكسورد»، أين التقى باقة من فطاحلة العلم والأدب ورؤساء المجامع مثل الأستاذ «محمد كرد» من سوريا ورئيس المجمع العلمي بدمشق، والدكتور «طه حسين» مندوب الدولة المصرية، والشيخ «محمد عبد الرحمن الهندي» والمستشرق الشهير» مار غوليوث»، و»نالينو» الإيطالي، وهؤلاء وغيرهم من قهارمة العلوم والآداب.
ألقى «بن شنب» في هذا المؤتمر محاضرة عن «أبي جعفر أحمد بن خاتمة الأندلسي» وشعره، أذهل مجامع العلماء من عرب وعجم في ذلك المحفل، حتى قال فيه أحدهم: «لم أر طيلة حياتي من بلغ في النبوغ مبلغ هذا الأستاذ الجليل، وأقول هذا عن غير مبالغة ولا إطراء، لأني متحقّق بأن لو أدركه العالم «قليوم كانادو» الإيطالي المتوفى سنة 1576، لجعل رسمه رمز كتابه الذي جمع فيه 12 عبقريا من الذين حازوا على قصبات السبق في العلم والذكاء منذ ابتداء العالم إلى أواخر القرن 16 عشر.
ولا يضيرنا القول فيما وقف عليه من
قولة «طه حسين» في ذلك المؤتمر لما
تعرض لاستعمال الضمائر الواردة في القرآن الكريم، والتي ليست لها ميعاد من

قبل مستشهدا بقوله تعالى:
«كل من عليها فان» صدق الله العظيم.
فقال «بن شنب» عن «طه حسين»: «نعم هذا قول «طه حسين» لكن ما أغفل الرجل عن لغة العرب. «إنما قوله عن «طه حسين» قرينة على تبحره وإلمامه بمختلف علوم النقل والعقل.
تعدّدت مراسلات وعلاقات «بن شنب» مع كبار العلماء في مشرق الوطن العربي وأوروبا، وجميعهم كان ينزله مقام العالم الحصيف. أما المستشرقون فيعدونه معينا لا ينضب، أدركه في ذلك علمه بعديد اللغات التي ملك ناصيتها، حتى أنه كلما تحدث في إحداها خاله السامع من لدن أهلها، غير أنه لا يخاطب عربيا ولا مستعربا إلا بالعربية، ويسمو بذكرها الطيب فوق جميع اللغات.
دقّق في مؤلفات الأولين وصوب وقوم وارتد إلى غيرها مقارنا ومصححا كما يفعل إلا من ندر. من ذلك تصحيحه الأخطاء المطبعية في لسان العرب التي أرسلها إلى الأديب الشهير «أحمد تيمور» ، ومنافحته عن «الجاحظ» المتوفى سنة 255 هــ، عظيم المعتزلة وذلك في مؤتمر بمدينة الرباط يوم 12 أبريل 1928. قال أمام محفل من العلماء الكبار: «(قد طلب مني أن أتكلم أيها السادات والرؤساء والعلماء الأجلاء في مسألة مناسبة للفطاحل ورائقة للنياطل، كأنني وحيد مصري وفريد عصري مع أنني معترف بالقصور والتقصير، لا علم لي ولا معرفة ولا خير، فصرت أقدم رجلا وأأخر أخرى فيما يلقى أو يقرأ....») وإذ نعذر لعدم إتيان مجمل كلام «بن شنب»، الذي سامه بكل ما في رقائق الأدب والعلم والفقه، من معرفة نلج الآن إلى بعض الجمل التي تفيد ما قد نسب إلى «الجاحظ» عن جهل أو عن دس أو بهتان: «من أن المعارف كلها ضرورية، وليس شيء من ذلك من أفعال العباد وإنما هي طبيعة، وليس للعباد كسب سوى الإرادة، وأن العباد لا يخلدون في النار بل يصيرون من طبيعتها، وأن الله لا يدخل أحدا النار وإنما النار تجلب أهلها بنفسها وطبيعتها وأن الله لا يريد المعاصي، وأنه لا يرى وأن الله يريد بمعنى أنه لا يغلط ولا يصح في حقه السهو فقط، وأنه يستحيل العدم على الجواهر من الأجسام. وأن القرآن المنزل من قبيل الأجساد، ويمكن أن يصير مرة رجلا ومرة حيوانا». كما ذكر ذلك «شهرستاني» .
لقد بزّ «بن شنب» المتقولين عن «الجاحظ» بالحجة ونزهه بعلم عما نسب إليه. نعتقد من جهتنا بكل تواضع، أن الجاحظ أحد أقطاب المعتزلة مع «أبي الهذيل» و»العلاف» و»النظام» و»الحافظ».. أقاموا مذهبهم على النظر العقلي ولهم تأويل للدين بما يتفق والعقل على خلاف جمهور السنة الذين يأخذون بظاهر القرآن والحديث، ومن أخطر ما تطرق هؤلاء من المسائل، الحرية والجبرية في الفعل الإنساني. ولعلّ المعتزلة هم أهم من نبّه إلى مسؤولية الإنسان عن أفعاله بما هو مخير وحر الإرادة، وأن الله تعالى عادل لا يصدر عنه شر. حتى قيل عنهم ( المعتزلة)، أهل عدل وتوحيد وما خلافهم مع غيرهم من الفرق إلا في العرض لا الجوهر، ومن عِلَلِ نكبتهم، السياسة والحكم العضاض. إن من فضائل الجاحظ بعد علمه الواسع والأدب، تصديه للشعوبية ودونيتها المستشرية إلى اليوم ضد الأمة. ومن بدائع «ابن شنب» فيما ترجمه على صفحات المجلة الإفريقية سنة 1901. إلى اللغة الفرنسية «رسالة في التربية للأطفال من لدن» أبي حامد الغزالي، أبان فيها عن قدرة هائلة في هضم رؤية هذا الفيلسوف فيما يعنى بكل ما تستوجبه الطرائق التربوية للأطفال في التنشئة والتغذية والتعليم والسلوك. قال فيه الأستاذ الشيخ «عمر راسم» الجزائري: «(لقد كان رحمه الله معجما لغويا يمشي على وجه الأرض).
وقال فيه عميد كلية الآداب في الجزائر «مارتينو» يوم تأبينه: «حقا إن حياة ابن أبي شنب العلمية جديرة بأن يقدمها النظام الديمقراطي الفرنسي كمثال ودليل على ما يفعله الذكاء والإرادة والعمل في رفع الإنسان من أدنى المراتب إلى أعلاها».
و قد اعتبره حجة في الإستشراق الفرنسي والأوروبي والأمريكي والآسيوي، إلى أن يقول:
«لقد شرّف فرنسا عندما كان على هذه الأرض الجزائرية واحدا من ألمع أولادها بالتبني ومن أكثرهم اعترافا بالجميل».

 مؤلفات «محمد بن شنب»:

ذكر الشيخ «بن محمد عبد الرحمن الجيلالي» في كتابه القيم الذي كثيرا ما عدنا إليه في معرفة هذا العالم: «محمد بن شنب» (حياته وآثاره)، ملخصا مآثر هذا الرجل الإنسانية والفكرية، وأحصى ما لا يقل عن خمسين مؤلفا وقد تأخر بعضها عن النشر، كما خلف «بن شنب» نفسه سردا بحياته ومؤلفاته، نشرت في ذكرى وفاته بمجلة المجمع العلمي العربي بدمشق.
ودون توسعة تحيط بكل ما ألف هذا العالم، نلخّص في مقتضب الفنون الكبرى التي قاربها بحثا وتأليفا:

1 - علوم العربية وآدابها
2 - الفقه والفلسفة والمنطق
3 - أصول الكلمات والأمثال المأثورة وتلك التي تسربت من لغات أجنبية إلى العربية.
4 - الشرح والتدقيق والإحياء للتراث القديم المتعدّد وما إليه.
5 - الشعر الذي أولاه مكانة خاصة فاهتم بابي دلامة، وعلقمة، وعروة بن الورد وأمرئ القيس ومن إليهم، فضلا عن شعره الشخصي في عديد الأغراض.
6 - ترجمته الأثر العربي إلى اللغة الفرنسية، من ذلك منظومة بن مسايب الحاج أحمد، وقصيدة عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - تنسب إلى أمي هاني، وترجمة ديوان الحطيئة وحياته إلخ..
7 - فن المراسلات مع كبار أدباء وعلماء عصره من الإفرنج والعرب.
كان رحمه الله مسلما مثاليا، ملتزما بحدود الشريعة عن المذهب المالكي، متواضعا للناس رفيعهم ودنيهم، ملبسا ومسلكا، صاحب نكتة، سمح المعايشة، متواضع إلى حدّ البساطة، غير أنه صارم في مسائل العلم والتحصيل والتدريس، ظلّ إلى اليوم، قدوة لكل طالب معرفة في العالم كله.

 وفاته :

توفي على إثر مرض عجز الأطباء عن تشخيص علته، ودفن رحمه الله يوم الأربعاء 6 فبراير 1929 بمقبرة سيدي عبد الرحمن الثعالبي. و من غرائب الأقدار أن آخر محاضرة ألقاها «بن شنب» على طلبته بالجامعة، وأفاض فيها شرحا وتعليقا على بيتين شهيرين من قصيدة لأبي العلاء المعري كأنما هي من النذر.
 رب لحد صار لحدا مرارا
 ضاحك من تزاحم الأضداد
 ودفين على بقايا دفــــــين
 فـــي طويل الأزمان والآباد
وقد مشى في جنازته نفر مهيب في مقدمته رموز الإدارة الكولونيالية ومدير الجامعة والمستشرقون وعلماء الجزائر وشيوخها وفقهاؤها وطلبة الشيخ من كل حدب وصوب، ومواطنون وتخلف بقسنطينة الإمام «عبد الحميد بن بأديس» عن هذا المحفل لسبب قاهر، ولكنه أرسل بتعزية تجهش لها الأنفس بالبكاء، ومما قاله فيها: «لما عرفناك أيها الشيخ فقدناك» وألقى عند تابوته المسجى الشيخ «البشير الإبراهيمي» تأبينية صادعة مؤثرة. وتوالى الخطباء وتباروا نثرا وتقريضا باللغتين العربية والفرنسية، وقد أجمع بكرتهم على هول الفاجعة، ونكبة الجزائر وخسارتها لعالم عده الجميع قدوة ومرجعا، كما انتشر خبر وفاته فنعتته الصحف في المشرق العربي وفي أوروبا وغمروا الراحل تقريضا وتنويها، عرفانا بمآثره الخالدة.
تغمده المولى بشآبيب رحمته، وأكرم وفادته في جواره.
ـ انتهى ـ

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19630

العدد 19630

السبت 23 نوفمبر 2024
العدد 19629

العدد 19629

الجمعة 22 نوفمبر 2024
العدد 19628

العدد 19628

الأربعاء 20 نوفمبر 2024
العدد 19627

العدد 19627

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024