طباعة هذه الصفحة

الكتابة الحرّة تعبير عن الإنسان قبل أن تكون التزاما معرفيا

الكتابة ليست فعلا معرفيا منعزلا..بـل هي تجربـة وجوديــة

حوار: فاطمة الوحش

نعيش اليوم عصر “الريلز” والكتابة ينبغي أن تتكيّف مع الواقع

كشف الدكتور محمد الأمين قطاف، أستاذ اللسانيات التطبيقية بجامعة زيان عاشور بالجلفة، في حوار خصّ به “الشعب”، أن الخلفية الأكاديمية لم تحد من تجربته الإنسانية في الكتابة، بل كانت رافدًا يغذي قدرته على التأمل والتحليل دون أن يقيده بقوالب جامدة. وأوضح أن الكتابة الحرة بالنسبة إليه امتداد طبيعي لرسالته العلمية، حيث تتكامل المعرفة العقلية مع التجربة الشعورية. وعن كتابه “ممّا يخطر”، أكد الدكتور قطاف أنه تعبير فطري عن الانفعالات والتأملات العميقة، جاء بعيدًا عن أي نية متعمدة لكسر الإطار الأكاديمي، بل بصفاء التجربة الصادقة، وقد حملت نصوصه طابعًا فلسفيًا وتأمليًا، سعت إلى إثارة الأسئلة وتحريك وجدان القارئ.

- الشعب: ما الذي دفعك لكتابة “ممّا يخطر”؟ هل كان الدافع شخصيا وتأمليا، أم رغبة في كسر القالب الأكاديمي والتواصل مع القارئ بأسلوب مختلف؟

الدكتور محمد الأمين قطاف: “ممّا يخطر”، هو ثمرة الانفعالات الداخلية التي تحيا في قلب كل إنسان، الانفعالات التي تكون ردا طبيعيا لِما يعيشه المرء من تجارب في دنيا الواقع، فتحصل الاستجابة النفسية والعقلية والعاطفية مع كل حادث، وكل موقف، وكل شعور، وكل تأمل، ثم هي تستحيل كلمات ونصوصا في قلم الأديب يهبها الحياة، فيكون الدافع إلى كتابة “ممّا يخطر” وغيره من الكتب مع هذه الحقيقة دافعا فطريا، يتصل بالنفس الإنسانية وما يحيا فيها، والفرق في أن صاحب القلم يجعلها في قوالب من الكلمات، وغيره يستبقيها في نفسه، من غير ذكر الفرق في طبيعة النفوس من حيث درجة فهم الحقائق ودرجة تأملها.
إنه لم يكن في النية استحضار دافع كسر القالب الأكاديمي وإن كان قد وقع، ذلك أن وقوعه نتيجة لا غاية.

- الكتاب يحمل طابعا فلسفيا وتأمليا واضحا. هل كنت تسعى إلى إثارة الأسئلة في ذهن القارئ، أم لطرح رؤى شخصية مفتوحة على التأويل؟
 قراء الأعمال الأدبية والفكرية صنفان: الأول صنف المتذوقين، وهم فئة غير المتخصصين، وتعاملهم مع ما يقرأون ينطلق من عنصر الذائقة وعنصر التجربة الشخصية، فهذا معيارهم في التجاوب مع العمل الأدبي أو الفكري والحكم عليه استحسانا أو استهجانا.
والصنف الثاني هم المتخصصون، فهم يجمعون إلى الذائقة والتجربة الشخصية تخصصا يتيح لهم الفهم، ومن ثم يتيح لهم التأويل، وبعد التأويل يكون إنتاج المعنى، فكل موضوع في الكتاب يمثل لهم بابا يلجون منه إلى عوالم جديدة فيما يتصل بالحقائق في حياة الناس وربما في حقائق الكون كله، زيادة على ما يثير فيهم الكتاب من آراء نقدية فيما زاد في الكتاب أو نقص.

- النصوص قصيرة لكنها كثيفة المعنى. كيف ترى العلاقة بين الإيجاز والعمق في التعبير الأدبي والفكري؟
 أجيال البشرية اليوم تعيش عصر “الريلز” في كل مجال تتفاعل فيه، والقراءة لا تخرج عن مجالات التفاعل هذه، بل من الضروري التفكير في سبل الحفاظ على الرغبة في القراءة لدى أجيال الحاضر في عصر لا يحيا فيه شيء لا ينسجم مع “السرعة”، ولا شك أنه لا سبيل يضمن الحفاظ على الإقبال الطبيعي على القراءة كتكييف النصوص الأدبية والفكرية بما يتناسب مع واقع الناس، وذلك بوضعها في قوالب تتجنب التطويل. غير أن هذا يستدعي من الكاتب الاقتدار على صب المعنى الكثيف في التركيب الموجز، وهو خصيصة إبداعية قد لا تتهيأ لكل كاتب. والبلاغة عند العرب في تراثهم هي بالأصل نشدان التركيب القصير المضغوط بالمعاني. وعلى أهمية هذا الإيجاز تناغما مع العصر، إلا أنه لا ينبغي أن يكون غاية في كل عمل أدبي، لأن المتلقين أصناف ولا شك.

-  كيف تختلف تجربتك في “ممّا يخطر” عن الكتابة الأكاديمية الصارمة؟ وهل شكّلت لك هذه النصوص متنفسًا فكريا إنسانيا؟
 الكتابة في “ممّا يخطر” أو في الكتاب الذي سيصدر هذه الأيام “في الكون والإنسان” عن “دار ومضة للنشر والتوزيع والترجمة” التي أضع تحية لطاقمها بوصفها منارة يستهدي بها من يروم الإتقان والجدية والمهنية، وفوق هذا كلّه الرسالية التي يؤمن به القائمون عليها.
قلت: الكتابة في هذا النوع من المؤلفات إنما هي حديث النفس للنفس، وإفضاء القلب للقلب، وإنما هي تعبير عن الإنسان صميما، تعبير عن أفكاره وتصوراته وعواطفه وأشواقه، وتعبير عنه هو بذاته في مجاهيل النفس، بخلاف الكتابة الأكاديمية التي تعالج جانبا علميا في التخصص أو الحقل المعرفي المستهدف بالدراسة، فالأول أشمل، فهو أزلي سرمدي يصور الحياة الإنسانية كلها.

-  كيف يتقاطع الجانب التأملي في نصوصك مع خلفيتك الأكاديمية؟ وهل ترى نفسك في منطقة وسطى بين المفكر الأكاديمي والكاتب الحر؟
 لا يبدو لي أن الأمر يتعلق بمنطقة وسطى، فلا شيء يمنع الأكاديمي أن يعبر عن النفس الإنسانية وعن الحياة التي هو عنصر فيها، فالكاتب أو المؤلف هو إنسان يعيش في جماعة بشرية يتجاوب فيها مع نفسه ومع بيئته قبل أن يكون أستاذا أو مفكرا أكاديميا.
ومن هذا المنطلق، فإن الكتابة ليست فعلاً معرفياً منعزلاً، بل هي تجربة وجودية، تتشابك فيها خيوط الفكر والشعور والتحليل والتأمل.
والخلفية الأكاديمية لا تعيق الجانب الوجداني التأملي في الكاتب، بل قد تكون رافدا أساسا يعينه في آليات الربط والاستنتاج وطريقة التعامل مع الحقائق طريقة عقلية عاطفية، بشرط ألا ينغمس الكاتب في الجفاء الأكاديمي المغرق في القولبة التي تجرد الإنسان من آدميته، وهو ما نسجله في أكثر الحقول المعرفية الحديثة.

-  كيف توفّق بين التزاماتك الأكاديمية وكتابتك الحرة؟ وهل يمثل لك ذلك توازنا صعبا؟
 على المستوى الشخصي لا أرى ما يعيق الموازنة بين وظيفتي أستاذا وباحثا في اللسانيات التطبيقية وفي فروع علم اللغة وبين كوني كاتبا يحترف الكتابة في ميدان متداخل بين الأدبي وما يقرب منه من حقول المعرفة، بل أرى أن تزود الأستاذ أو الأكاديمي بمعارف إنسانية متعددة المورد هو معين له في وظيفته داخل قاعة الدرس، ذلك أن العلوم تتداعى، وأن الاستعانة بالمعرفة الإنسانية في جوانبها الاجتماعية والنفسية والتاريخية والدينية والكونية إنما هي مما يستدعيه الأستاذ في بحوثه أو مع طلبته، وسأضرب مثالا باللسانيات، سواء النظرية منها أو التطبيقية، يكون الأستاذ وهو يعالج قضية من قضاياها واجدا نفسه في حاجة إلى ثقافة واسعة يدعم بها بحثه أو درسه، وقد ترتفع تلك الثقافة إلى درجة التدليل على النظريات اللسانية، وهذا يعود إلى طبيعة اللغة نفسها، اللغة التي هي محور الدرس اللغوي، فاللغة البشرية هي الترجمة الصائتة لحياة الإنسان، لأفكاره وتصوراته وحاجاته وعواطفه، فهي ألصق شيء به، وهي بهذا ألصق شيء بكل العلوم المتعلقة به. والشيء عينه ينسحب على أساتذة التخصصات الأخرى ممن يمارسون الكتابة الحرة، إذ يجدون أنفسهم يستعينون بما تعلموه في الحياة ليوظفوه في تخصصاتهم.

-  ”ممّا يخطر” لاقى صدى واسعًا داخل الجزائر وخارجها. برأيك، ما الذي لامس القارئ؟ هل الأسلوب، الفكرة، أم صدق التجربة؟
 «ممّا يخطر” كان نداء الفطرة الإنسانية في لُجَّة الحداثة الآخذة بالإنسان إلى المحاذير، الحداثة التي أكثر ما فعلته بالإنسان أنها سارت به في طريق يصادم فيه طبيعته التي خلق عليها، فكان الكتاب بالنسبة إلى من قرأه هتاف القلب للقلب، ودعوة الروح للروح، ليس لتفوق في أسلوبه ولا لعمق في فكرته، وهذا إن كان موجودا فإثباته من وظيفة النقاد، ولكن الكتاب لاقى هذا القبول الحسن لأن كل كلمة فيه كانت تعبر عن حياة في نفس كاتبها، حياة في النبض والشعور، وحياة في القيم، وحياة في علاقة الناس بالناس، أو علاقتهم بالحياة جميعا، وكان هذا كله في عصر تجمد فيه الإنسان واستحال آلة عجماء، فإذا هو يقرأ ما يفتح عينيه على آدميته السليبة، وإذا هو يفيق من تيهه ويشتاق إلى نفسه، فيقبل على كل ما يعيده إلى طبيعته الأولى قبل هذا العصر التقني.
لقد كان الأمر بسيطا، فبعد أن جرب الإنسان حياة لا تشبه خِلقته وتكوينه العقلي والعضوي والنفسي والروحي، صار أسهل ما يكون التأثير فيه بكلمات تطرق على قلبه قبل مسمعه، ولا يكلف هذا سوى أن تلامسه بما يعيشه في دنيا واقعه، مما يغفل عنه أكثر الناس، بشرط أن نقنع هذا الجيل بالقراءة. فكان ـ برأيي ـ احتضان القراء لكتاب “ممّا يخطر” ومثله احتضانهم لكتاب “أنسام قرآنية” دافعه هناك في نفوسهم...هناك داخلها.

-  بعد هذا النجاح، هل تشعر أنك مطالب بالاستمرار في نفس الأسلوب، أم تميل إلى التجريب وكسر التوقعات في مشاريعك المقبلة؟
 أما عن النجاح فإن القاصد إلى شيء لا ينبغي أن يقع في نفسه أنه نجح، لأن هذا الظن هو ما سينهي طريقه إلى ما يريد، والإنسان مكلف برسالة غير محدودة بحد، هذا عن مسألة النجاح.
أما عن الاستمرار في الأسلوب نفسه فهو مما يفرض نفسه علي، فما كان في كتاب “ممّا يخطر” أو في كتاب “في الكون والإنسان” فهو جزء من تلك الرسالة الإنسانية التي نحن مكلفون بها في رحلتنا على الأرض، فالأمر إذن غير مرتبط بكسر توقعات أو ما يشبه. أقول هذا وليس القصد أنني سأحجر نفسي في هذا الجنس من الكتابة، فلقد صدر لي كتاب “أنسام قرآنية” الذي كان موضوعه القرآن كما هو ظاهر في عنوانه، وسيصدر لي “بحول الله” مؤلفات أخرى في التخصص وفي غير التخصص.

-  هل تفكر في جزء ثانٍ من “ممّا يخطر”؟
 كل إصدار في جنس “ممّا يخطر” هو جزء يعقبه، ليس في العنوان بأن نضع: “ممّا يخطر، الجزء الأول” ثم “ممّا يخطر الجزء الثاني” وهكذا..بل المقصود من أنها أجزاء لبعضها هو ما تحمله من طبيعة المواضيع التي فيها، تلك المواضيع التي تتقصد كل ما يتصل بالإنسان في جوانب حياته الاجتماعية والنفسية والعاطفية، وما يتصل بالإنسان وعلاقته بالحياة والأحياء، وبالوجود وعناصره..وقد يصلح هذا الحكم حتى على كتاب “أنسام قرآنية” الذي كانت كثير من مواضيعه تلتقي بمواضيع الكتابين الآخرين، والاختلاف أنها كانت واردة في القرآن المجيد.