رفض النّقد في تراثنـا كـان بدافـع سياسيّ
يتطرّق الدكتور اليامين بن تومي، في هذا الحوار الذي أدلى به لـ «الشعب ويكاند»، إلى الإشكاليات التي تواجه الساحة النّقدية بالحاضنة اللغوية العربية، ويردّ ما يصفه بـ»الاحتباس النّقدي» الذي يعطل الفاعلية الحضارية، إلى موانع تشكّلت في «عقلنا التاريخي»، وفقا لأنساق مختلفة كان لها أثرها المباشر على فاعلية النقد. كما يوازن بين الحاجة إلى الحداثة التقنية والتراث النّظري، ويقدّم مقترحات لتجاوز «الكبوة المعرفية والمنهجية» التي نعيش..
الدكتور بن تومي.. قامة جزائرية سامية، فهو الناقد الورع، والباحث المتميّز، والرّوائي المبدع الذي حلّق بنا في سماوات الفكر والنّقد، فكان هذا الحوار الشّيق.. إليكم الجزء الأول منه.
مشروعك النّقدي، دكتور اليامين بن تومي، من «القراءة والتأويل» إلى «النقد الثقافي»، يعدُ برؤية تمثّل إضافة مهمّة إلى الدّراسات العربية الحديثة.. ولقد لاحظت في «تشريح العواضل» أن عجز أسس التّفكير النّقدي العربي المعاصر، يعود إلى افتقاد صانع لشروط الممارسة النّقدية.. هل لك أن تقدّم لقرّاء «الشعب»، تشخيصا عاما عن وضع «النّقد العربي» اليوم؟!
هذا سؤال مهم وطريف يحتاج إلى بسط مع إيجاز لا يُخلُّ بضروب البيان.
نعلم أن الثّقافة العربية تمقت النّقد وتمجّه، لذلك تكونت في تاريخنا الثّقافي أمراض داخل عقلنا التّاريخي مانعة وطاردة للنقد، لأسباب عديدة، بينها السّلطان العربي الذي كان يرى في نفسه امتدادا أو ممثلا لله في الأرض، وعليه، فإن النّقد يتوجه إلى هذه السّلطة اللاّهوتيّة، وهذا محال من أساسه.
كذلك علينا أن نقول إنّ السّلطان العربيّ كان في طور التكوين؛ لذلك تأسست حوله أسباب مانعة من الانتقاد، كانوا يفهمون أن النّقد هو مشروع ضد السّلطة، ولم يتصوروا أنه يُصلحها. فالملاحظ أن رفض النّقد في تراثنا كان بدافع سياسيّ أساسا، ثمّ بدافع دينيّ كذلك، وعليه، تأسست واجهة جماليّة تعتمد نظام المديح الشّعري، ولم تكن ترى في السّلطان إلا هذا الكمال اللاّهوتي؛ لذلك نجد أن المديح هو أهم الأغراض الشّعريّة انتشارا وتوسّعا في ثقافتنا العربيّة، هذا الأخير حبس الوظيفة النّقديّة وعطّلها، مما أدّى إلى أن تتشكّل موانع في عمق الممارسة الإبداعيّة العربيّة، وكل ما هناك مجرد ملاحظات تقيم على تخوم النّص الأساسيّ الّذي يمثّل السّلطان العربيّ، وأي مساس به يؤدّي إلى المساس بالسّلطة، أي أن المديح الشّعري العربيّ جزء لا يتجزأ من بنية السّلطة، كما يقول أدونيس: «إن كل الشعر العربي بيع للخلافة بالأمس، ألا يباع شعر اليوم لخلافة اليوم»..
هذا التأسيس البسيط جعلني أعتقد أن هناك موانعَ وعواضلَ تشكّلت في عقلنا التّاريخي، أخرت اكتمال النّظرية النّقديّة ومن أهم تلك الأسباب: «النّسق السّياسي» و»النّسق الديني».. هناك نسق آخر أرى أنه قد سيَّج النقد وقام باعتقاله، وهو «نسق البدونة»، حيث تشكّل البداوة في نظامها الثّقافي المعظم لشيخ القبيلة والرئيس والشّاعر الواحد استمرارا لتلك الموانع، بل إنّ القبيلة لا تقبل النّقد أبدا، وأين قد يؤدّي إلى الطّرد والنّفي.
وهناك عديد العوامل جعلت الثّقافة العربيّة تحتفي بالطّاغية والسّلطان والشّاعر الواحد، تسببت في احتباس الدور النقدي، باعتباره سمة حضارية يساهم في تقدم الحضارة؛ لذلك أدى هذا الاحتباس إلى تعطل الحضارة وتَكوُّر الثقافة العربية على نفسها.
- يثير عدد من النّقاد اليوم مسألة المناهج الغربية، ويختلفون بين داع إلى ضرورة اكتسابها، بحكم أنّها تمثل تراكما معرفيّا إنسانيا، ورافض لها يرى أن المنهج لا يستقيم إلا في الحاضنة اللّغوية التي يولد بها.. أين يقف الدكتور بن تومي من المنهج؟
لا أستطيع أن أدّعي أنني كوّنت رأيا فاصلا في هذه المسألة في زمن بات الحسم في الموقف يُزري بصاحبه إلى أن يكون في جهة ضد الجهات الأخرى.
كذلك، لست ممن يعشق إمساك العصا من الوسط. أتصوّر أننا، ولأسباب كثيرة، توقّفنا عن إنتاج القيم في عمق هذا العالم، نتيجة أسباب كثيرة أهمّها أننا دخلنا في دور تكرار المكرر ليتوقف الإبداع، بل ويصبح الإبداع جناية يعاقب عليها الضّمير العام للأمة.. المسألة في اعتقادي يجب أن نطرحها على مستويين: ما الذي نحن بحاجة إليه لنخرج من كبوتنا المنهجية والمعرفية، وهل نحن بحاجة إلى الحداثة في شكلها النظري أو في شكلها المنهجي.. هنا فقط نفهم أن المناهج هي الجانب التقني من الحداثة، والأمر التقني لا مضرة تلحقنا منه. أما الجانب النظري الذي نجتره صباح مساء، فهو ما يمكن أن يخرب علاقتنا بالتراث. وعليه، فالاستفادة من الحداثة التقنية في جانبها المنهجي ضرورية جدا، تماما مثلما أطرح السؤال ما هي الحاجات التي أريدها من تراثنا، هل أنا بحاجة إلى التراث العملي أم بحاجة للتراث النظري؟.. الجميع يعلم أن التراث الحركي أو العملي هو من فرَّخ الحركات الجهادية التي تُنغّص الفهم العام حول الإسلام في عالم اليوم. وعليه، فاستعادة التراث العمليّ سيجعلنا نعيش اللحظة البغداداية التي تتصارع فيها الحركات الكلاميّة والدينية المختلفة.. هذه اللحظة هي المسؤولة اليوم عن تفريخ الحركات الجهادية.
أما التراث النظري الذي يمثل قيم التراث العليا، هي ما نحن بحاجة إليه لنثري حاضرنا ونمنع أنفسنا من الذوبان.. أي أن التراث النظري ينضاف له الحداثة التقنية، يمكنهما أن يخرجانا من عنق الزجاجة؛ لهذا، أنا من أنصار التراث النّظري، ومن عشاق الحداثة التقنية أو المنهاجية.. هذا الجمع سيجعلنا نفكّر في أنفسنا وفي العالم بشكل سليم.
- توافقني دكتور بن تومي إن قلت إن النظرية النّقدية تتولّد عن رؤية فلسفيّة، وإنّ الواقع العربي في إنتاج المادة الفلسفية متوقف عند ابن رشد والفارابي وابن سينا.. يعني أنه متوقف عند أرسطو في الأخير، فهل يمكن فعلا أن نطمع في نظرية تولد بالحاضنة اللّغوية العربية، في غياب التأسيس الفلسفي؟
هذا سؤال مجهد وشاق؛ لأن مسألة إنتاج الفيلسوف مسألة منغّصة للنظرية النقدية.
ما نقرأه اليوم من كتابات بعيد نوعا ما عن الصّناعة الفلسفيّة، إنه ضرب من الترجمة والتعريب لتفلسف الغير، فهل نستطيع أن نتحرّر من سقف الغرب لننتج فيلسوفا من الفراغ؟! ثم أنا أطرح جدوى إنتاج الفيلسوف أصلا في زمن سقطت فيه المشاريع، وتهاوت فيه أسوار المدارس الكبرى..
نحن اليوم- ككتلة ثقافية عربية أو وطنية - بحاجة إلى كتابة نصوص تنقلنا من وضعية المستهلك إلى وضعية المنتج، فهل في مقدورنا تحقيق تلك النّصّيّة التي تصنع شروط تميزنا عن الغير؟! هل يمكننا أن نخرج من الاستلاف إلى بناء نصوص الفرادة؟!.. واضح أنّ المسألة ليست مطروحة على مستوى الفرد، لأنّ الثقافة العربية والوطنية اليوم، لا تُغلِّب النّص على الواقع، أي أنّها لم تتخلّص من غلبة الواقع على النص، ما يجعل الثّقافة تستقيم على رأسها، فمن أجل أن نقوّم الاعوجاج، علينا أن نغرق الواقع في النظرية، بعد عهود من حالات العراء التي هرب فيها الواقع من أي رؤية نصّيّة.. إننا نفتقد، كجماعة مثقفة، إلى رؤية حقيقية للواقع، لأننا نعيش حالات المحاكاة. ولقد انقسمت نخبنا بين محاكاة دولة الخلافة أو محاكاة النموذج الغربي، فكيف السبيل للخروج من نظام المحاكاة الذي هيمن على الأشكال الثقافية العربية؟! هل يتم ذلك ببناء الفيلسوف، أم ببنية جماعية لتلك النصوص التي تتفوق على الواقع ويمكنها أن تصوغ رؤية متفردة عن واقع أمثل؟ وعليه، في طريق بناء تلك النصية ينبت الفيلسوف.. مشكلة الفيلسوف هي مشكلة نصّ، ونحن بحاجة للنّصّ أعظم من حاجتنا للفيسلوف، لذلك علينا أن نغرق واقعنا في النظرية، أو لنقل في النص، لننتج واقعا له سند مرجعيّ، أما أن نتفكر الواقع خارج أي تحديد مرجعيّ صنعناه، فهذا ضرب من الانتحار وهذا ما نعيشه، للأسف.
-يتبع-