شكل الابحار في العالم الافتراضي حلقة مفصلية في التأثير على عامة الجمهور وخاصة النخبة المثقفة، بمختلف توجهاتها وأصنافها العمرية، حيث أسس كل شخص موقعا له على الوسائط الالكترونية، وراح ينشر على جدرانه المختلفة سواء في الفايس البوك ، التويتر او الانستغرام، ما جادت به قريحته من مقالات مختلفة ، نقدية وسياسية، تاريخية، اجتماعية، تحمل في طياتها جميع الصيغ والبهارات، ولا يتوانى الجمهور في النكز على هذه النصوص باستعمار كلمتي « جام « او «بوك »، لاستشعار صاحبها على انهم مروا من هنا بقراءة واحدة أو قراءات متعددة.
هناك من يترك تعليقا ينتقد فيه الموضوع او يعقب او يمدح صاحبه ، ويبدأ السجال في حلقة جديدة من الاخذ والعطاء، ومع حالتي الابحار والغوص في هذا العالم الرقمي لا يشعر المرء إلا وساعات طويلة تمر وهو قابع مكانه خلف الشاشة الرقمية ، مشدود النظر الى جديدها وأخبارها المتصدرة.
في ظل كل هذا يظل الكتاب الورقي ومن وراءه القراءة والمطالعة يسجلان غيابهما المتواصل، ومن وراءهما يختفي التفاعل والنقاش الجسدي والروحي، بين المحاضر أو المتدخل والجمهور، وتختصر المسافات في المتابعة البعدية بأثر رجعي احيانا ومرات بالحضور الوهمي فقط.
صحيح ان العوالم الرقمية مكنت الجمهور من اختصار المسافات والوصول الى ابعد نقطة في ظرف زمني وجيز ، الا انها ايضا تركت فراغا كبيرا في المشهد الثقافي وقلصت من حجم تلك النقاشات الجيدة، التي كانت تعتبر الوجه الحقيقي للنخبة.
ان غرق النخبة في هذا العالم مرده لأسباب مختلفة منها الاجتماعية والسياسية وأخرى ربما تأتي في مقدمة هذه التازلات وهي خروج الانتلجنسيا من المشهد السياسي وابتعادها عن ممارسة مهامها الحقيقية، سواء كان هذا الابتعاد تنازلا منها أو بإيعاز، وترك المكان شاغرا، اثر فعلا من دورها تجاه حركية بناء الفكر واقتصاد المعرفة.
الامثلة كثيرة في العالم من اتخذت هذه الوسائط لتكون اضافة الى العالم الحقيقي لا ان تغيبه وتختزله في قراءات او كتابات تبث عبر الواتساب، لينتهي التأريخ لهذه الحركة الثقافية بمجرد وكز على محو هذا الفاصل فيتحول المشهد من تفاعل الى عدمية نحن في غنى عنها.