إحياء أول ماي في الجزائر مرتبط دائما بذاكرة القرارات التاريخية، الممهدة لوضع اللبنات القاعدية الصلبة لبناء اقتصاد قادر على مواجهة أي طارئ، اعتمادا على سواعد العمال في حمل هذا المشروع الوطني إلى أبعد الحدود، بدأت بوادره الأولى في تأميم البنوك، المناجم والمحروقات، ثم تلاه مايعرف بالثورة الصناعية.
هذه الوثبة المشهود لها، سجلت في سياق خاص واستثنائي ما بين منتصف ستينيات وبداية سبعينات القرن الماضي، بتحويل الجزائر إلى «ورشة عمل» عندما برزت العناوين الكبرى نموذجية في ترجمة هذا المسعى كالحجار بعنابة، سوناكوم بالرويبة، الكيماويات بسكيكدة، الإلكترونيك بتيزي وزو، النسيج بذراع بن خدة والمنشآت البترولية في حاسي مسعود وأرزيو وغيرها من المصانع، منتشرة في كامل ربوع الوطن... مع وجود إطارات وعمال سهروا على خوض معركة القضاء على التبعية للآخر، بالتضحية من أجل إدارة الثروة الباطنية، ورفع هذا التحدي مهما كانت الظروف.
هذه الخلفية جدير التذكير بها من باب الاعتراف لجيل كامل من العمال المخلصين، الذين أفنوا حياتهم في خدمة الجزائر قلبا وقالبا، ورفعوا لواء الانعتاق من استغلال الشعوب ونهب ثرواتها دون وجه حق.
وبقي العامل الجزائري وفيّا لهذا الخط الوطني الثائر ضدها تتربص به الجهات الخارجية، متصديا لكل المحاولات الرامية إلى عرقلة وتعطيل هذه الحيوية الجديدة، الجارية في بلد خرج منتصرا من حرب ضروس تعهد بحماية قراره السيادي، رافضا مصادرته أو التأثير عليه.
هذا التوجه سمح بجني ثماره على المستوى السياسي، عندما طالبت الجزائر بنظام اقتصادي دولي جديد مبني على مبدإ العدالة في العلاقات التجارية والمالية، والكف عن امتصاص قدرات البلدان الضعيفة.
هذه المواقف الممزوجة بالشخصية الثورية، مكنت الجزائر من الاستثمار المحكم في القيمة المضافة المتولدة عن تلك الخيارات الحرة، بإعادة توظيفها في الجانب الاجتماعي لصالح الطبقة العاملة، بتوفير ضمانات العيش الكريم، من رعاية صحية، تعليم، سكن، شغل، حماية، تعويضات وكل ما له صلة بمكاسب العمال.
وإلى غاية اليوم، ماتزال الجزائر حريصة على تدعيم هذا النمط الاجتماعي، من خلال التكفل بصناديق الضمان والمتقاعدين وغير الأجراء والفئات الأخرى المنتسبة بحكم مواصفات محددة سلفا، لإبعاد العمال عن كل الأضرار المترتبة عن الآثار الجانبية، بوضع تلك الآليات الحمائية تحت المراقبة الفائقة والمركزة.
ولم تسقط الجزائر أبداً مبدأ العدالة الاجتماعية من سياستها العمومية، بل حافظت عليها حتى في الظروف الصعبة اقتصاديا عندما تهاوت أسعار البترول إلى أقل من ثمانية دولارات في نهاية الثمانينيات، وتعالت أصوات أخرى فيما بعد، خاصة خلال سنوات الألفين مطالبة بتقليص الدعم الاجتماعي في قوانين الميزانية، وسعى البعض إلى مغالطة الرأي العام ، فيما يتعلق بالدعم الاجتماعي بالدعوة إلى إلغائه.
هذه نظرة خاطئة ، ورؤية يستحيل مجاراتها، الغرض منها تسميم الجو العام وضرب مكاسب العمال، وزعزعة إستقرار البلد والتشويش على الشركاء الاجتماعيين.
وهناك اليوم إرادة أكثر من أي وقت مضى من أجل ترتيب البيت، وفق الأولويات، من بينها التفكير مليّا في نمط اقتصادي جديد أكثر مرونة من حيث التسيير، محددا للصلاحيات بدقة، زيادة على ضبط المسؤوليات، سيكشف عنه، بعد كورونا من خلال مضمون الدستور الجديد، يضاف إلى هذا تسوية كافة الملفات الاجتماعية الشائكة التي تحتاج إلى الحوار والتشاور.