عندما تمّ طرد فرنسا الاستيطانية من الجزائر شر طردة، قال أحفادها بعد الاستقلال، أنّ ديغول هو من منح الجزائريين ذلك الانتصار معيدا إلينا السيادة، فظلّوا متشبّثين بتلك الفكرة الخبيثة التي هي أخطر من الاستعمار في حد ذاته، وعندما بدأ ذلك الجيل في الاندثار، لقّن أولاده تلك المؤامرة، فجاء جيل آخر ظلّ متسمّكا بها، لا يردّدها في العلن، ولكنه يحتفظ بها في عقيدته، كما يحتفظ يهود الجزائر بديانتهم، فهم مسلمون بالتقليد في العبادات يذهبون الى المساجد، يتصدّقون، لكنهم حين يختلون بأنفسهم بين جدران البيوت، ينخرطون في تعاويذهم وقداسهم، وذلك شأن يخصّهم في السر وليس في العلن ضمن سياق «لكم دينكم ولي ديني».
أبناء ديغول الذين قال بشأنهم منقذ جمهورية الاستيطان، إنّه لا خوف على الجزائر، بعد مغادرتها، ففيها أناس أكثر فرنسية من الفرنسيين أنفسهم، وسيدافعون عن فرنسا الأم أكثر مما دافع عنه عسكر الاحتلال، لذلك أمضت حكومته على مضض الاتفاقيات التاريخية، ومنذ ذلك الاتفاق ونحن نتجرّع سموم المخلّفات القاتلة.
مع فجر الاستقلال تمكّنت الادارة الموروثة عن الاستعمار التحكم في زمام الأمور، لأنها تمدرست على ايدي المعمرين، ومن ذلك التاريخ، أصبحت المهام تسير وفق استراتيجية مدروسة سلفا معروفة النتائج، حفاظا على الارث الاستعماري، وهذه أهم خطوة راهنت عليها الجمهورية الخامسة تجاه مستعمراتها في المغرب العربي، من خلال توريثها للطابور الخامس كل أدبيات التعامل وآليات المهن الشاقة المنتظرة.
بدأ سيناريو التدجين الثقافي لينتقل الى المنظومة المدرسية، ثم غزا عقول الشباب فصنع جماهير الملاعب، ليتحول الى المسجد فقضى على الصحوة الاسلامية فتفرّق الجموع فرقا وشيعا، بعدما كانت بيوت الله ملاذ الأرواح البريئة، تحولت الى حلبة للقذف والتسييس، فجاءت الاحزاب، لترهن الفكر وتهجّن الوعي الانساني، ليكون تابعا لا متبوعا، بالرغم من ان الصفة في النحو تتبع الموصوف في كل حالات الاعراب، وهناك غرقت معالم الدولة الوطنية ذات المرجعية النوفمبرية.
شموع الدولة الوطنية، ظلّت تحترق لوحدها في صمت طويل، وهي ترى بأمّ عينيها مآل تلك التضحيات الجسام، تقاوم بقدرتها المعهودة، فهي تعي أن النصر حليفها، ومصير الالغام المزروعة، التفكيك بتؤدة، وإن تحتم الامر تفجيرها، حتى يسمع صداها من يعتقد أنه ناج من هول ما هو قادم، فالعيون التي تحرس الوطن أقسمت، بأن لا تسيل قطرة دم واحدة، وسيأتي الخلاص قريبا، وقافلة الدولة الوطنية سترسو على مرفأ آمن تاريخا ونضالا وقدوة.