دعا الملتقى الوطني حول «حدود الإبداع في الترجمة الأدبية»، الذي اختتمت فعالياته مساء الاثنين الماضي بوهران إلى التفكير الجدي في إرساء ملتقى دولي حول مختلف محاور الترجمة الأدبية، نظرا للعدد الهائل من المتدخلين، الذين أبدوا اهتماما بهذا الحقل المعرفي.
وأوصى الملتقى، الذي نظّمه معهد الترجمة ومخبر الترجمة وأنواع النصوص بجامعة وهران 1 أحمد بن بلة بالانفتاح على المخابر وتعزيز سبل التعاون وتوطيد الجهود في الاشتغال على موضوعات «الترجمة الأدبية»، انطلاقا من استثمار الدراسات الميدانية وتشجيع الطّاقات، كما حثّت هذه التظاهرة العلمية التي نظّمت تحت شعار «حدود الإبداع في الترجمة الأدبية»، على وضع استراتيجية للمعهد والمخبر من أجل تفعيل الاشتغال في هذا الحقل، مع الاستمرار في عقد الملتقيات بصفة دورية، ونشر أعمال الملتقى في عدد خاص من مجلة المخبر. وتداول المشاركون في هذه التظاهرة قضايا متّصلة بـ «الترجمة الأدبية وإكراهاتها»، و»الترجمة الأدبية وحوار الثقافات»، «الأدب الجزائري والترجمة»، «تحديات ترجمة الشعر»، «الترجمة الأدبية في ضوء نظريات الترجمة» و»الترجمة الذاتية»، وهي من بين أهم المحاور التي تم إدراجها ضمن ورقات النقاش، وكانت محل تحليل وتقييم انبثقت عنها مجموعة من التوصيات، تحسّبا للملتقيات القادمة.
الانفتاح على الآخر لا يتحقّق إلاّ من خلال تعزيز هذه التّرجمة
«وممّا هو مسلّم به عالميا أنّ الترجمة نشأت منذ نشوء الحضارات، وبدونها لا يمكننا أن نتواصل ونتحاور مع الآخر، الإستراتيجية الجديدة تدعو المجتمعات بمختلف أطيافهم ومعتقداتهم إلى الحوار العالمي والتعايش السلمي، ونبذ لغة التنابذ والسلاح، يقول الدكتور شعيب مقنونيف، معبّرا عن رأيه بأنّ «الانفتاح على الآخر لا يتحقّق إلاّ من خلال تعزيز هذه الترجمة ومعرفة الآخر وتعريفنا للآخر وتعرفّنا بالآخر». كما أوضح شعيب، أستاذ بجامعة تلمسان معقّبا عن محاضرته الموسومة بـ «دور الترجمة في الحوار الحضاري والتواصل الثقافي»، بأنّ الإبداع والابتكار في مختلف مجالات النشاط ينطلق من اللغة الأم، وأنّ مجالات العلوم المختلفة لا تمتلك جنسية وليس لها حدود، ولهذا لابد أن تقبل هذه العلوم في كافة بقاع العالم، مستشهدا بـ «اليابانيّين» الذين ابتدعوا وابتكروا الحضارة ونقلت من عندهم للغات الأخرى، ولكنه أشار في نفس الوقت إلى حركة الترجمة ودورها في الحضارة العربية التي أساسها لغة الضاد في زمن العصور الذهبية. وعن ذلك قال إنّ «حركة الترجمة في العالم العربي بلغت أوجّ ازدهارها لما كانت للغة الضاد السطوة والحظوة والقرار، ونقلت هذه الحضارة من مراكز الإشعاع العربي إلى العالم الآخر، الذي كان مجبرا على تعلّم العربية، وذلك قبل التقهقر والتراجع الذي حلّ بأمتنا العربية والإسلامية».
تابع موضّحا بأنّ حال الأمّة العربية بهذا المستوى والجزائر لا تخرج عن نطاقها، عدا بعض الدول العربية الرائدة في عالم الترجمة على غرار الكويت ولبنان بحكم تفطّنهم لدور الترجمة، فعملوا على تأسيس مراكز ودور نشر مختصة، ترجمت الموسوعات والأعمال الكبرى التي شهدتها الإنسانية. وقدّم عدّة اقتراحات لتحقيق هذه الإمكانية، تأتي في مقدّمتها ضرورة تكوين أجيالا من المترجمين الأكاديميين في الجامعات الجزائرية، وذلك في إطار السعي لدعم وتجشيع مراكز ومعاهد ودور الترجمة والنشر، والتركيز أولا على ترجمة الموروث الأدبي والحضري والعلمي من العربية إلى اللغات الأخرى، ومن هذه اللغات إلى العربية.
وعبّر عن تفاؤله بشأن إمكانية «حل قيد الطّبع والنشر»، نتيجة الحريات المتعدّدة التي سمحت بحرية الرأي والتعبير والكتابة والصّحافة، وكذا بفضل التظاهرات الثقافية القارية التي احتضنتها الجزائر مؤخرا على غرار قسنطينة عاصمة الثقافة العربية وتلمسان عاصمة الثقافة الإسلامية، إلا أنّ ذلك لا يكفي حسبه في ظل المعطيات وعدد الكتب المترجمة، مقارنة بباريس مثلا التي تصدر في كل ثانية كتاب.
التخلّف يأتي من افتقاد المؤسّسات العلمية العربية إلى التّحرّي الجماعي
كما شارك الدكتور رشيد بن مالك، مدير مركز البحث العلمي وتطوير اللغة العربية سابقا ومدير مخبر عادات وأشكال التعبير بالجزائر بجامعة تلمسان، بمحاضرة تحت عنوان «سيميائية ترجمة النص السردي»، حاول من خلالها توضيح المرتكزات التي تنهض عليها ترجمة النص السردي في «عمليّة الانتقال من الإستيعاب والتمثّل إلى صياغة النص في لغة الهدف»، وأهم ما ورد عنه أن «الترجمة ترتهن في وجودها إلى فهم واستيعاب وتمثل الدلالات المحورية في النص السردي». أما العتبة الثانية التي تقودنا إلى الترجمة حسب الأستاذ بن مالك دائما تكمن في التمييز بين مستويين: القصّة المروية وهي مضمون النص القصصي أو ذلك المعنى الذي
يترسّخ في الذهن ويتمثّله القارئ، والمطلوب من المترجم «أن يستغل هذه المعاني التي توصّل إليها ويبحث لها عن غلاف لغوي قبل أن يصبها فيه، هنا تظهر عملية الترجمة»، يقول نفس المصدر.
وعن الصّعوبات التي يواجهها المترجم في بعض الألوان الأدبية، أوضح محدّثنا بأنّ الترجمة ممارسة علمية بالدرجة الأولى، وأن النص كيف ما كانت طبيعته نتعامل معه كموضوع ونحاول قدر الإمكان أن ننقله إلى اللسان العربي، مؤكّدا في الوقت نفسه على ضرورة امتلاك كفاءة عالية ومجموعة من القيم العلمية في لغة الوصول ولغة الذهاب، ويستحيل حسبه «أن تكون الترجمة ناجحة دون الارتكاز على هذين الكفاءتين».
وفي ردّه على سؤال حول واقع الترجمة الراهنة، قال أن التخلف يأتي من افتقاد المؤسسات العلمية العربية إلى التحري أو البحث الجماعي، معتبرا أنّ أي مشروع علمي
ينبغي أن ينضوي في إطار التحري الجماعي، وما أنجز من أعمال في هذا المجال لا يدخل في إطار إستراتيجية علمية واضحة، لكنها أعمال منعزلة، وكلّ يترجم على حسب هواه. كما ندّد بممارسات التهميش والإقصاء المفروضة على الكفاءات العلمية الفاعلة، لافتا إلى أنّ المشاريع التي وضعت حول الترجمة سواء تلك الصادرة عن المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم أو عن المؤسسات العلمية الجزائرية همّشت الكثير من الباحثين، حيث استنتج الدكتور رشيد بن مالك أنّه «ما لم يكن هناك أعمال علمية جماعية لا يمكن أن تتحقق القيم العلمية المتوخاة في أي عمل ترجم، كما لا يمكن أن تنهض الترجمة إلا في إطار الاستنجاد ودعوة الكفاءات العلمية الفاحلة في الساحة العربية والدولية».