لم يعد ممكنا العيش من دونها.. يستحيل أن ينعزل المواطن مهما كانت وظيفته ومكانته الاجتماعية عن إلتقاط تدفقات تكنولوجيات الإعلام والاتصال، لأنه باستمرار يقابل خدماتها بالمزيد من التعطش والفضول، وفي كل مرة بانجذاب كبير يعمق من استعمالاتها، حتى صارت محركا لحياته وبوصلة تحدّد توجهاته وتضمن له الكثير من المعلومات، بل وتحقق له المزيد من الرقي والرفاهية، ولأنها توفر فرصا متساوية للجميع، محققة للعدالة الاجتماعية ببعدها التكنولوجي.. إنها اعترافات لفئات مختلفة من واقع يتجسد يوميا في الجزائر.
بالفعل سجّل الانفتاح الكبير على تكنولوجيات الإعلام والاتصال، طفرة مذهلة اختزلت الكثير من الوقت والجهد وقرّبت أبعد المسافات، وجعلت من مواكبة الاقتصاد الرقمي راهنا حتميا لا مفر منه، فلا المؤسسة ولا المثقف ولا المتمدرس ولا الأسرة صارت تستطيع أن
تعيش في معزل عن الشبكة العنكبوتية وتدفق الانترنيت، إنه واقع حي غير النمط الحياتي والسلوكي والنفسي والاقتصادي للأفراد والجماعات، ووضع تحت التصرف خدمات متنوعة ومتعدّدة كانت إلى وقت قريب حلما بعيد المنال.. نأخذ من بينها بطاقة إلكترونية يقتنيها المواطن بسعر في المتناول تفتح لحاملها مكتبات ثرية بالكتب نابضة بالعلوم ووافرة المعارف.. زاد للكبار والصغار.. إنها نافذة تختصر قوة ما فعلته خدمات تكنولوجيات الاتصال الجديدة من تغيير في الذهنيات والآلة الإنتاجية على حدّ سواء، تغيير ينبأ بالمزيد من التطور في المنظومتين الاجتماعية والاقتصادية والثقافية للجزائر.
دعم مجاني
من الجزائر العميقة تفيض الأستاذة مريم لعلام 45 عاما بالتعطش إلى الاطلاع على جديد تكنولوجيات الإعلام والاتصال، بحكم أنها أستاذة رياضيات في الطور الثانوي، وتقطن ولاية الجلفة وجد قريبة من طلبتها، تشرف على متابعتهم حتى من منزلها، لكن عبر النت وعلى موقع التواصل الاجتماعي «فيس بوك» لا تبخل في تقديم دروس دعم مجانية لهم، وتجيب على تساؤلاتهم خاصة طلبة الباكالوريا، الذين تكون قريبة منهم وتخصّص لهم وقتا إضافيا حتى خارج ساعات المداومة، ومنذ بضع سنوات لا تستعمل الأستاذة الطباشير، الذي أثر على صحتها بعد عقدين من العطاء للمنظومة الدراسية، بل استبدلته بجهاز العرض الالكتروني «داتاشو»، حفاظا على صحتها وصحة الطلبة على حد سواء. وأثنت كثيرا على المواقع التي تقدّم دروسا في جميع التخصصات لكن عن بعد، وحتى المواقع التي يمكن للطلبة والتلاميذ أن يحمّلوا منها الكتب ويطلعوا على نماذج من الأسئلة من أجل التحضير الجيد للامتحانات.
انفجار مذهل
سلّط محمد كاديك باحث أكاديمي ومسير لموقع إلكتروني، الضوء على التأثيرات الاجتماعية والثقافية التي أفضى إليها التطور التكنولوجي والرقمي لتكنولوجيات الإعلام والاتصال، حيث اعتبر أن أي أمر جديد يطرأ على الحياة من شأنه أن يحدث العديد من التغييرات، فما بلك إذا تعلق الأمر بتأثير الأنترنيت الذي غيّر من نظام حياة الجزائريين على حدّ تقديره ومن طبائعهم وعاداتهم كذلك، والجزائر كما قال كاديك الباحث، لم تتخلف عن الركب والتغيير الطارئ الذي أفضى إلى انفجار مذهل في أدوات التواصل الاجتماعي، بداية من الهاتف النقال ووصولا عند وسائط التواصل الاجتماعي، والتي أحدثت بدورها تحولات عميقة طالت حتى الجانب الحضاري، حيث طرأت تغييرات حتى على مستوى اللغة لأن التواصل عبر «الفايس بوك» صار من دون صوت، واللغة صار بالإمكان اختصارها، حيث يمكن قول الكثير من الكلام بأقل عبارات، أي أسفر الأمر عن اختصارات طارئة للغة، حيث يمكن اختصار كلمة إلى حرف وجملة إلى أحرف معدودة، في حين المشهد الأدبي برأي كاديك الذي لديه بعض المؤلفات الشعرية والروائية في السوق، استفاد كثيرا من هذا الانفجار التكنولوجي، ورفض أن يطلق عليه بالأدب الرقمي، على اعتبار أن الكاتب كان يستعمل الورق في الكتابة واستبدله بالمساحات الإلكترونية التي لا حدود لها وفوق ذلك لا تكلفه المال، وخلص القول أنه في ظل مجانية وتعددية وسائط الاتصال لم يعد الهاتف الأكثر أهمية على الإطلاق كما كان في السابق.
تطوير الابتكار
من جهته، عادل حاجي مسؤول العلاقات العامة بشركة «كوندور» أكد أن الفئات الأكثر إقبالا على اقتناء الهواتف الذكية واللوحات الإلكترونية، تتراوح أعمارها ما بين 35 إلى 38 سنة، كاشفا في سياق متصل أن الطاقة الإنتاجية لـ»كوندور» الرائد وطنيا في الهواتف النقالة واللوحات الإلكترونية، تبلغ 4.5 مليون وحدة سنويا في حين بكل ما يتعلّق بالحواسيب ينتج كوندور 105 مليون حاسوب سنويا، و3 ملايين جهاز تلفاز من بينها 70٪ تلفاز ذكي، ويغطي السوق الوطنية بما يناهز 38 إلى 39٪، علما أن خدمات ما بعد البيع مضمونة ومجانية يشرف عليها فرع خاص يحمل اسم «خدماتي»، ويوفر كوندور الساعات الذكية وتطبيقات تسمح للطلبة والتلاميذ بمراجعة دروسهم، وبالإضافة تعلم الكثير من الأمور العلمية والتكنولوجية، في إطار حرص الشركة على مواكبة التطور الرقمي الذي تشهده الجزائر بشكل تدريجي. وقال عادل حاجي أنهم أبرموا إتفاقية مع جامعة المسيلة، بهدف تطوير البحث العلمي في مجال التكنولوجيات الحديثة وتطوير الابتكارات، مع توفير وظيفة للمهندسين المتفوقين في دفعاتهم.
القيمة المضافة
بينما أمين بوطالبي مدير المركز العربي الإفريقي للاستثمار والتطوير، لم يخف أنه تمّ لمس العديد من التسهيلات للتعاملات التجارية الالكترونية، التي من شأنها تقليص تكلفة المؤسسات الإنتاجية، وتستمر جميع الآليات والخدمات التي يوفرها قطاع تكنولوجيات الإعلام والاتصال حسب رأيه في استحداث العديد من الفرص المهمة والجديدة للعمل، وأشار بوطالبي إلى أن اللّافت أن فئة من الشباب شرعت خلال السنوات الأخيرة في استحداث مؤسسات على «النت»، وباتت هذه المؤسسات تخلق القيمة المضافة وتوظف بطالين يعملون معها عن بعد، مختزلا هذه المكاسب في بروز خدمات الاقتصاد الرقمي التي يمكنها خلق الثروة خارج قطاع المحروقات. وتطرق إلى قانون التجارة الإلكترونية الجديد الذي ينتظر منه تحقيق المزيد من الانفتاح والمكاسب.
الدفع الإلكتروني
في حين بوعلام جبار رئيس الجمعية المهنية للبنوك والمؤسسات المالية تحدث عن إقبال التجار على المبادلات التجارية الإلكترونية، بالنظر إلى تسجيل أزيد من 100 ألف عملية عن طريق الانترنيت في عام 2017، ويرى أن هذا الرقم المسجل مرشح للتضاعف أكثر خاصة بعد الشروع في تعميم الدفع الإلكتروني عن طريق الانترنيت على باقي التجارة والخدمات، أي على التجارة المحضة وكذا قطاع الخدمات، ولم يخف أن الدفع الإلكتروني يسري في الوقت الحالي على كبار المفوترين، أي نحو 20 مؤسسة فقط معنية بالدفع الإلكتروني، ويتعلّق الأمر بشركات الطيران وسونلغاز والجزائرية للمياه والمتعاملين في مجال الهاتف النقال، وشركات التأمين وما إلى غير ذلك، وتوقّع جبار أن عدد الشركات التي تستفيد من الدفع الإلكتروني سيرتفع ويتضاعف إلى المئات والآلاف مستقبلا، حسب رغبات المتعاملين والتجار، لأن قانون التجارة الإلكترونية يسمح بذلك، على اعتبار أنه في عام 2018، ينتظر تعميم الدفع الإلكتروني بعد إطلاق العديد من أدواته، كونه يعد وسيلة جيدة تسمح للمواطنين باقتناء حاجياتهم من دون حمل الأموال، وإلى جانب العمل على تنويع وسائل الادخار.
فرص متساوية
أكد عمار عبد الرحمان أستاذ علوم الإعلام والاتصال بجامعة الجزائر أن تكنولوجيات الإعلام والاتصال والاقتصاد الرقمي المدهش أدى إلى قفزة معتبرة عبر جميع الفضاءات وعلى مستوى مختلف العوالم، سواء كانت مؤسسات ثقافية أو تربوية وكذا اقتصادية، وحتى على صعيد العلاقات بفضل الوسائط المتعلقة بمواقع التواصل الاجتماعي، ويعتقد عمار عبد الرحمان في سياق متصل أنها حدّت بشكل فعلي من بعض المعوقات التقليدية، بل وصارت تقتصد في الجهد والوقت والمال، واعترف أن هذه التكنولوجيات فتحت آفاقا رحبة وفرصا متساوية للجميع محقّقة للعدالة الاجتماعية ببعدها التكنولوجي المثير.
وبنظرة شاملة ومعمقة لمستجدات الواقع الفعلي لتكنولوجيات الإعلام والاتصال، يبقى الأمل معقودا على القمر الصناعي ألكوم سات1 الواعد الذي يسبح حاليا في الفضاء، بعد إطلاقه شهر ديسمبر الماضي، ويعوّل عليه في تحسين خدمتي الهاتف والإنترنيت برفع سرعة تدفقها في الجزائر، مع ضمان بث القنوات التلفزيونية بتقنية عالية الجودة، علما أن آخر الأرقام التي كشفت عنها اتصالات الجزائر تشير إلى بلوغ عدد مشتركي الهاتف الثابت 3.1 مليون مشترك إلى غاية الـ 31 ديسمبر 2017 أي بزيادة 315.000 زبون جديد مقارنة بعام 2016، بينما لا يقل عدد مشتركي الهاتف النقال عن 50 مليون مشترك أي برقم مهم يفوق إجمالي عدد سكان الجزائر، ويمكن القول أنه عالم افتراضي حوّل حلم الرفاهية إلى حقيقة يمكنها أن تعبد الطريق نحو رقي أكبر ونمو أعمق وانفتاح على المزيد من التطور والتألق.