وقف إطلاق النار كان حلما طويلا استيقظنا منه
جبال الأوراس الشامخة تروي قصصا عن بطولات رجال ونساء، لم ينصفهم التاريخ أو بالأحرى همّشوا، فلحد الساعة لم تنل المنطقة حقها من الكتابات التاريخية، فعند زيارتنا لولاية باتنة لإعداد ريبورتاج حول المعارك التي شهدتها الولاية الأولى التاريخية، بالتقرب من المجاهدين الذين مايزالون على قيد الحياة، وهذا وفاء لرسالة الشهداء وحفاظا على ذاكرتنا الوطنية وتلقينها للأجيال الصاعدة، اكتشفنا قصصا كثيرة لمعارك نجهلها وبطولات مجاهدين أشاوس تستحق أن تكون موضوع أفلام سينمائية، لأنها حقيقة طبعت ذاكرة الأمة وليست من وحي الخيال. فحين تقف قبالة جبال أريس وبني سليمان وبلعابد ونقاوس، يبهرك شموخها وتشعر وكأنها تحدثك عما عانته من ويلات الاستعمار. وبطولات رجال المنطقة، حقيقة وقفت عليها «الشعب»، وهنا عينة من المجاهدين الذين سجلنا شهادتهم وهم من الذين كانوا رفقة الشهيد الأسد مصطفى بن بولعيد.
من مواليد 14 جانفي 1937 بباتنة، وهي الآن تبلغ 81 سنة، ذاكرتها قوية تستعيد ذكريات الثورة بكل تفاصيلها الدقيقة ووجهها نيّر والابتسامة لا تفارقها، إنها المجاهدة شريفة زقران، إلتحقت بجبل بوعريف بمنطقة الأوراس المجاهدة رفقة والدتها وعمرها آنذاك لم يتجاوز عشرين سنة، وكن يتنقلن مع المجاهدين بين المخابئ السرية، بحيث كلفت هي ورفيقاتها بعدة مهام من إعداد الأكل للمجاهدين ونقلها إلى مخبأ بوعريف وغسل ملابسهم وخياطة الأعلام الوطنية والتمريض وكذا جمع الحطب وحمل الماء على ظهورهن ونقله لمسافات في الجبال الوعرة.
وبحسب شهادة المجاهدة زقران، فإنهن كن يتظاهرن بأنهن ذاهبات لجمع الحطب وهن في الحقيقة مكلفات بإيصال الألبسة والأعلام التي كانت تخبّأ تحت الشجرة للمجاهدين، وفي الليل يحضّرن العشاء ويتسامرن، مشيرة إلى أنه في الصباح الباكر يتعرضن للضرب والتعذيب من طرف ضباط الجيش الفرنسي حين لا يعثرون على أي شيء له علاقة بمجاهدي جبهة وجيش التحرير الوطنيين، لأنه بكل بساطة خالتي شريفة ورفيقاتها في النضال أخفين كل أثار الأكل المتبقي تحت التراب، بما في ذلك الألبسة والأعلام تحت شجرة، كي تسلم للمجاهدين فيما بعد، قائلة بضحكة بريئة: «هم يضربوننا ويعذبوننا ونحن نردد تحيا الجزائر».
وتواصل خالتي شريفة حديثها قائلة، إنه عندما يأتي عساكر العدو لتفتيش المنطقة، تتظاهر ورفيقاتها بأنهن غبيات ولا يعرفن شيئا، فعندما يطرح عليهن سؤال، هل أتى الفلاقة - أي المجاهدين - تنفي المجاهدات ذلك ويكتفين بالقول: «لقد جاءنا جنود مثلكم يلبسون نفس بذلتكم وأخذوا وثائقنا عنوة».
وفي معرض حديثها تروي المجاهدة زقران حادثة استشهاد إحدى رفيقاتها تدعى «فطيمة عجومي»، التي تعرضت لقصف طائرات العدو عبر الحدود.
وعندما سألناها عن الشهيد مصطفى بن بولعيد، بحكم أنه إبن منطقة الأوراس الأشم، ابتسمت خالتي شريفة وقالت إن الشهيد كان نشطا مليئا بالحيوية، حين كان يأتي للمنطقة لعقد اجتماع مع المجاهدين منهم عمار ملاح، شعبان حبرة، ذباح حشاشة الذين كانوا رجالا يحاربون من أجل الوطن، كان دائما يوصيهم بالتمسك بالدين والثورة والجزائر، لأن الموت واحد والعدو واحد.
عن شعورها حين سمعت بإعلان وقف إطلاق النار، فقد كان بالنسبة لها فرحة لا توصف وكان الخبر بمثابة حلم طويل استيقظ عليه المجاهدون بعد كفاح مرير مع الاستعمار الفرنسي الذي تفنّـن في أساليب القمع والتعذيب والبطش والتهجير في حق الشعب الجزائري الأعزل وارتكابه لأبشع الجرائم ضد الإنسانية منذ دخوله سنة 1830 إلى غاية 1962 والجريمة متواصلة والدليل على ذلك ما خلفته الألغام وأثار التجارب النووية بصحراء الجزائر.
المجاهد مزياني الملقب بلخضر ليشار:
بن بولعيد كان شعلة ومن القادة المحنكين في الميدان العسكري
يعد المجاهد لخضر مزياني، المولود سنة 1937، من مجاهدي ديسمبر 1954 تجند طوعا من أجل تحرير الوطن أو الاستشهاد، في الولاية الأولى الأوراس النمامشة ثم إلتحق بالولاية السادسة بعد تكوينها، لقب من طرف مجاهدي الولاية الأولى «بلخضر ليشار»، بفضل خصاله ومواقفه إبان الثورة. رافق الشهيد بن بولعيد في العديد من المعارك من جبل أحمر خدو إلى غاية الجبل الأزرق.
بن بولعيد جعله الله ليكون شعلة ومن القادة المحنكين من أجل تحرير الوطن، وهو سبب في تفجير الثورة التحريرية، هذا ما أكده المجاهد مزياني في حديث خص به «الشعب» على هامش زيارتنا لولاية باتنة، بمناسبة ذكرى استشهاد مصطفى بن بولعيد، كونه كان رفيقه في الكفاح بمنطقة الأوراس بصفته مجاهدا وليس مسؤولا، وخاضا سويا معارك، آخرها معركة في منطقة أحمر خدو بمكان يسمى غار علو عيسى، وقبلها كانت معركة إفري البلح، وبعدها استشهد بن بولعيد في ميدان الشرف.
وهنا يروي عمي لخضر ليشار، كما يدعوه رفقاؤه، قصته في النضال العسكري مع الشهيد، قائلا إنه في أحد الأيام قام المجاهدون بتحضير الأكل المتمثل في عجينة من الدقيق لطبخها على النار وإعداد ما يعرف بالملة، وإذا بطائرة العدو الاستكشافية تحلق فوق رؤوسهم وتحوم حول المكان، وحين شاهد رفيقهم المرحوم محمد الصالح بن سالم الطائرة اعتقد بأنها اكتشفت أمر المجاهدين، فغضب غضبا شديدا وقام بإطلاق الرصاص عليها وهنا اندلعت المعركة بقدوم العساكر على متن الدبابات عبر طريق إلى غاية منطقة غسيرة، وقد قاد المعركة من طرف جيش التحرير الوطني الشهيد مصطفى بن بولعيد.
بفضل ذكائه آنذاك استطاع استمالة الجنود المغاربة، المجندين في صفوف الجيش الفرنسي الذين يسمون القناصين، ووجه لهم نداء عبر منشورات يناشدهم فيها الكف عن ضرب مجاهدي جيش التحرير الذي يكافح من أجل استرجاع السيادة الوطنية، مثلما يفعل الشعب المغربي الذي هو أيضا كان يحارب آنذاك من أجل الاستقلال. وبالفعل استجاب الجنود المغاربة لنداء الشهيد وتراجعوا، وهنا يشير عمي لخضر إلى أنهم تلقوا مشقة مع هؤلاء الجنود قبل رضوخهم. ويضيف، أن المجاهدين كانوا يملكون آلة راقنة صغيرة للكتابة يمكن حملها باليد.
وبحسب شهادة هذا المجاهد الفذ، فإنهم نجحوا في هذه المعركة، لكن للأسف لم يأكلوا الكسرة التي تبعثرت في الهواء بسبب القتال في المعركة، على حد تعبيره. ويضيف، أنه حين انتهاء المعركة في الليل عبروا وادي غسيرة متوجهين نحو الجبل الأزرق الذي يقع على مسافة تقدر بحوالي 50 كلم عن مكان المعركة، حفاة وعطشى، لكن بفضل قدرة الله عز وجل قاوموا تلك المشقة.
خضنا معارك في مسالك وعرة من أجل تحرير الوطن
وهنا توقف عمي مزياني برهة ليوجه رسالة للإعلام والدكاترة، بالتمعن جيدا في الوسائل التي استخدمها المجاهدون أثناء تنقلهم من منطقة لأخرى وكيف كانوا يقضون يومياتهم في الجبال وعبر المسالك والتضاريس الوعرة، خاصة في فصل الشتاء والثلوج وكذا الحر الشديد، وماذا كانوا يأكلون ويلبسون، لاسيما ونحن نحيي ذكرى شهداء شهر مارس خاصة الذكرى 62 لاستشهاد بن بولعيد، الذي كان ينتمي لعائلة ميسورة، لكنه ترك النعيم وثار ضد الاستعمار لتحرير شعبه من قيود الظلم، ومشى حافي القدمين مع المجاهدين وهم جياع وفي الغابة والمسالك الوعرة، التي يصعب على العدو الوصول إليها بحيث لم تكن الطريق معبدة.
ويواصل عمي لخضر حديثه بالقول، إن الشهيد بن بولعيد عندما خرج من السجن نظم اجتماعا بالناحية الشرقية، بحيث تفقد أحوال المجاهدين ومدى تأثيرهم في العدو واستنزاف اقتصاده وقتل عساكره، وقد كان من المتوقع عقد اجتماع في الجبل الأزرق وتم دعوة جيش سي زيان من الصحراء، وناحية أريس وشلية وبريكة من طرف بن بولعيد، لكن الاجتماع لم يقع، مضيفا أنهم قاموا بالتخييم في قرية مهجورة بجبال تازمالت للاحتماء بها، والتخطيط في كيفية مباغتة جيش العدو الفرنسي، وفي تلك الأثناء وصلهم اتصال من طرف سي زيان يخبرهم فيها بقدومه، فأمر بن بولعيد المجاهدين بالتنقل إلى المكان المسمى «تافرنت». وهنا يشير عمي لخضر إلى أن ضريح بن بولعيد ومن استشهدوا معه في الحقيقة يقع وراء الجبل بتافرنت.
في صبيحة 22 مارس 1956، كان المجاهد مزياني والشهيد عيسى حسوني من الأشخاص الذين كانوا رفقة بن بولعيد يتبادلون الحديث، قائلا: «الحديث لم يكن عسكريا، لأننا مجاهدون لا يمكننا التخطيط إلا بأمر من بن بولعيد اللهم إذا طلب استشارتنا، هو القائد المخطط ونحن المنفذون»، مثنيا على خصال الشهيد الذي كان متواضعا يحتك بالمجاهدين، خاصة الشباب منهم، لأنه يعول عليهم في ميدان القتال والهجوم وليس له تكبر عليهم.
يروي عمي لخضر ظروف استشهاد بن بولعيد، قائلا: «في يوم استشهاده افترقنا حوالي ربع ساعة، ودخل بن بولعيد مع ستة مجاهدين الى منزل مهجور لإعداد تقارير والتخطيط، ثم سمعنا دوي انفجار فأصيب علي بن شايبة في عينه فأخذته ومن معه من الجرحى إلى ناحية بني فرح في مغارة تسمى سيدي معوش وأخفيناهم هناك، ثم رجعنا»، مضيفا أنه تم جمع جثث الشهداء ودفنهم في مكان الانفجار وتغطيتهم بشجر التين الشوكي كي لا يكتشف العدو أمرهم. ووجه لهم المسئولون أمرا شديد اللهجة بعدم البوح باستشهاد بن بولعيد وكتمان السر ومواصلة الكفاح بشجاعة، وأن من يقوم بذلك سيعدم بدون محاكمة.
لقد أحدث استشهاد أسد الأوراس، حزنا كبيرا وسط المجاهدين الذين بكوه لأنه قائد عزيز على قلوبهم ومفكر يملك سمات الإخلاص، بحسب شهادة عمي لخضر، بحيث شجعهم مسؤولوهم على مواصلة الجهاد إلى غاية تحقيق النصر والاستقلال، لأن الثورة لا تكمن في شخص بن بولعيد، مشيرا إلى أن الأبواق التي تتحدث عن أن فرنسا هي من قتلت بن بولعيد مخطئة، لأن استشهاده لم يعلم به العدو الفرنسي، فلو علم لجاء للمكان الذي انفجرت فيه القنبلة وسط المذياع، مثلما فعلت حين ألقي عليه القبض بإحداث ضجة اعلامية عبر المناشير والدعاية بأنها أطاحت بقائد الولاية وعلى المجاهدين تسليم أنفسهم قائلا: «إن كان صحيحا ما يدعونه، فلماذا لم تنشر سلطات الاحتلال منشورا تعلن فيه مقتل بن بولعيد، على الباحثين في التاريخ الاتصال بشهود عيان والمصادر للحصول على الحقيقة، لقد كتبت عن هذه القضية في مذكراتي وتكلمت في إذاعة باتنة والتلفزيون.
وقال أيضا، إن المجاهدين حاربوا بكل ما لديهم من وسائل العدو بإسقاط طائراته واستنزاف اقتصاده وقتل الحركى والعملاء المتعاونين مع فرنسا، داعيا الشباب للحفاظ على الأمانة التي سال من أجلها دم الشهداء واستذكار بطولاتهم. وبحسبه، فإن شبابنا لو يتذكر ما عاناه أجدادهم الذين تقطعت أيديهم وأرجلهم على خطي شال وموريس، يدرك جيدا بشاعة الاستعمار وأن النصر لم يأت هدية، علما أن ، كل تصعيد في الجرائم الإستعمارية بحق المجاهدين وقع حين حكم ديغول الذي قام بعملية «جومال» وغيرها من العمليات وحاول بكل الوسائل، منها مخطط «سلم الشجعان»، فغطى مناطق الأوراس بجيوشه للقضاء على الثورة. ليأتي بعده الحلف الأطلسي لدعم الاستعمار، لكن بفضل عون الله جابه المجاهدون العدو بأسلوب حرب العصابات، والقيام بعمليات في يوم واحد لتشتيت قواه، ولا يمكن لأحد تصور كيف عشنا جحيم قصف الحلف الأطلسي بكل أنواع الطائرات ضد شعب أعزل.
أشيد بتضحيات أفراد الجيش الوطني الشعبي سليل جيش التحرير
19 مارس 1962، كان يوما مشرقا بالنسبة لعمي لخضر ورفقائه في الجهاد، بحيث بكى بكاء شديدا لم يبكه في حياته، قائلا: «بعد 7 سنوات ونصف من الكفاح بجبل أحمر خدو إلى غاية جبال بوكحيل ومن تبسة إلى مسعد والشعاب ولم أستشهد مثل بقية رفقائي في الكفاح المسلح، وبعدها أدركت أنه قضاء الله وقدره وفرحنا بالاستقلال».
المجاهد مزياني غادر جيش التحرير الوطني برتبة ضابط سنة 1963، بعدما تكون في الكتائب، ثم اشتغل في سلك الدرك الوطني بباب الوادي مع كل من محمد الشريف، همال حسين وبن محمد، والجنرال تواتي. ثم اشتغل بقطاع العدالة وواصل المسيرة إلى غاية إحالته على التقاعد، قائلا: «أنا سعيد باعتباري مجاهدا ناضلت بصدق وجرحت عدة مرات في المعارك ونجوت وتعافيت بفضل قدرة الله تعالى، وما يزيد افتخاري وغبطتي ما يقوم به أفراد الجيش الوطني الشعبي سليل جيش التحرير من تضحيات من أجل حماية حدود الوطن مثلما فعل أجدادهم».