لقد أدرجت الكتابة النسائية كحركة أدبية خاصة، ويقصد بها الأعمال الأدبية التي كتبت من طرف النساء وفيها تتم معالجة مختلف القضايا النسائية إلى أنَّ هذا التصنيف أو التعريف (في زمننا الحاضر) هو إجحاف في حق الأديبة والكاتبة. فالإشكال الواقع هو أنَّ هناك فئة من الكتاب والمفكرين مازلت تحاصر الكتابات النسوية ضمن مجال أنثوي ضيق، رغم تطور الأدب النسائي وإتساعه وتلون صفحاته وبروز أديبات وكاتبات أبدعن ونافسن عمالقة الأدب من الرجال (ليس فقط من خلال مواضيع نسوية بل في شتى ألوان الأدب. من شعر ونثر ورواية وغيرها...)
وفي الحقيقة إذا تعمقنا في هذا التصنيف نجده ذو إيجابية، إذ أنه يسلط الضوء على الكتابة النسائية فقط دون الرجالية من أجل التوضيح للمشككين في القدرات الإبداعية لهن، فالمرأة هي كاتبة أيضا وهي في هذا المجال تقف في صف واحد مع زميلها الرجل من حيث الإمكانيات الأدبية والطرح، قد تتخذ بعض الكاتبات صوت المرأة في أعمالها السردية، ولكن هذا لا يعني أنَّ كلهن يتكلمن بلسان المرأة هناك من سردهن على لسان الرجال، وهناك بعض الكتاب أبدعوا في الكتابة على لسان المرأة هنا يتبادر إلى ذهني روايتي «التطليق « و»الليلة المقدسة».
فـ»التطليق» رواية مكتوبة بالفرنسية للكاتب الجزائري رشيد بوجدرة سنة 1981 عن دار النشر جليمار فيها صور لنا وبألم مس قلوبنا معناة أم البطل من القمع والإستبداد، ولا ننسى المشهد الذي أبكانا وهي تطبخ في عرس زوجها عند زواجه من الزوجة الثانية.
أمَّا «الليلية المقدسة» للكاتب المغربي الطاهر بن جالون الصادرة سنة 1987عن دار النشر سوي والحائزة على جائزة الغونكور العالمية فقد صور لنا فيها أحداثًا أنثوية محضة مرت بها بطلة القصة زهرة التي أضطرها المجتمع الذّكوري لنكران ذاتها لتعيش تحت اسم أحمد.
ولكن هذا التصنيف يقودنا إلى إشكالية إذا إعتمدنا أنَّ هناك كتابة نسائية مربوطة بجنس الكاتب ومزاجه فهذا يعني أنَّ المنطق يفرض وجود كتابة رجالية فيها كذلك الكاتب خاضع لميزاجه ونزواته؟؟؟
المرأة الأديبة ليست وليدة هذا الزمن وإنما وجدت منذ القدم بالضبط في القرن الثالث وعشرون قبل الميلاد تعد «إنخيدوانا» شاعرة وكاتبة من بلاد الرافدين في الفترة الآكادية، أول إمراة في هذا المجال حيث ألفت إثنين وأربعين ترنيمة وجهت للمعابد السومارية وقد شجعت نساء العراق القديمة للقراءة فتميزن بضلوعهن في الشعر وتأليفه ومن هنا يتضح الأثر الذي تتركه المرأة الأديبة على النساء وقد ترجمت أعمالها حاليًا إلى لغات عدة.
توالت بعدها ظهور كاتبات عبر الأزمنة في مختلف ربوع العالم، اما في الجزائر تأخر ظهور المرأة الأديبة بسسب الظروف المحيطة بها، يمكن إعتبار جداتنا هن نواة الأدب النسائي الجزائري من خلال إبداعهن في الشعر البدوي الحر وتأليف القصص الهادفة وملاحم الأبطال الشبيهة بتلك التي كانت موجودة في القرون الوسطي بأروبا مثل «شنصون دو رولند»، لكن أعمالهن كانت فلكلورية إندثرالكثير منها...
الإنطلاقة الفعلية للمرأة الجزائرية الكاتبة كان باللغة الفرنسية في عشرينيات القرن الماضي، منهن من كتبن متخفيات وراء اسماء مستعارة مثل مريم بن ومنهن مَنْ إمتلكن الشجاعة وساعدتهن الظروف في وضع أسمائهن الحقيقية في كتابتهن دون خوف وهذا في حد ذاته كان كسرا لعادات تلك الفترة مثل: طاووس عمروش، جميلة دباش، ليلي عواشات وغيرهن، كتابتهن في تلك الفترة تمحورت حول البحث عن الذات والتطرق لمختلف المشاكل الإجتماعية التي عانت منها المرأة كالتهميش والعنف...
بإندلاع ثورة التحرير الوطنية قاومت المرأة الأديبة جنبًا إلى جنب مع الرجل الأديب حيث تمحورت كتابتها حول الثورة ورسم معاناة الجزائريين مع الإستعمار، بل وذهبت إلى أبعد من ذلك بإلتحاقها بصفوف جبهة التحرير الوطنية مثل الأديبة مرليز بن حييم التي عرفت بإسمها المستعار مريم بن، إنخرطت في صفوف جيش التحرير وحكم عليها من طرف الإستعمار بعشرين سنة أعمالا شاقة. بعد الإستقلال إتجهت إلى الكتابة الأدبية، بالإضافة الى الصحافة، الرسم والموسيقى... أمَّا فئة اخرى من الكاتبات فقد إتخذت من قلمها وسيلة للمقاومة ونشر الوعي مثل جميلة دباش فقد أنشأت سنة 1945المجلة النسوية «أكسيون « «action» وفي نفس السنة أصدرت أول رواية بعنوان «ليلى بنت الجزائر»، يعتبرن الكاتبات السالف ذكرهن الجيل الأول من الأديبات الجزائريات وهن من وضعن الأسس الأولى لتشجيع ظهور جيل جديد قبيل الإستقلال على رأسهن الأديبة المخضرمة فاطمة الزهراء إيملحاين التي التي عرفت بإسمها المستعار آسيا جبار، أعتبرت الكتابة باللغة الفرنسية وسيلة للكفاح ضد المستعمر وضد الأفكار البالية التي تمنع المجتمع من الإرتقاء ، مجتمع تقليدي تفنن الإستدمار في تجهيله حتى أصبح يلح على محاصرة المرأة بالمحضورات والممنوعات وسلطة العادات والتقاليد التي لا تخدم المجتمع، كانت أول امراة محاضرة في الجامعة الجزائرية واول امرأة عضو في الأكاديمية الفرنسية رشحت لجائزة نوبل للآداب سنتي 2009 و 2013 أكثر كتابتها التي أثارت إنتباهنا هي مجموعتها القصصية «نساء في شقتهن» التي جاءت كرد على الرسام ديلكروا، ففي سنة 1832 قام برسم لوحة زيتية حملت عنوان مجموعتها القصصية، لوحة كشف فيها عن خصوصية المرأة الجزائرية ، لترد هي من خلال مجموعة من القصص على أنَّ المرأة الجزائرية ليست لوحة زيتية هي امرأة تعاني وتكافح لتثبت نفسها، فتطرقت الى مختلف المشاكل التي تعاني منها :المرأة المطلقة والفتاة المتأخرة في الزواج الخاضعة لسلطة الإخوة وزوجاتهم.
استمرت كاتبات الجيل الثاني في طرح المواضيع السابق ذكرها ولكن أصبحت القضية الجزائرية هي قضيتهن الأولى، ليلي ظهور الجيل الثالث الذي بدأ بطرح مواضيع جديدة برزت عشية الإستقلال وإستمرت الى ما بعده أهمها دار حول مشكلة الهوية والإنتماء ومن أهم كاتبات هذا الجيل ليلى صبار، يمينة مشاكر و عيشة كسول التي أهتمت أكثر بالمواضيع الإجتماعية وقد تميزت بجرأتها في الطرح، كتاباتها كانت أحد الأسباب الرئيسة التي جعلت الكاتبات السابق ذكرهن والقادمات يتخلين شيئا فشيئا عن الرقيب الأدبي. أما الجيل الرابع هو الجيل الذي ولد في المهجر نذكر منهن: فغلام، لشمات، فريدة بغلول، ليلى رزوق، فتيحة برزاق وقد تميزن بخصوصية المواضيع المتطرق إليها كصراع الهوية في الجيل الثالث والرابع من المهاجرىن.
تزامن ظهور الجيل الرابع من الأديبات الجزائريات المعبرات باللغة الفرنسية ظهور الجيل الأول من الكاتبات اللاتي إتخذن من لغة الضاد لغة للتعبير وكان لهن الأثر العميق في فتح الباب لظهور كاتبات أخريات ، من الجيل الأول نذكر منهن الأديبة زهور ونيسي ، نضالها في صفوف جيش التحرير سابقا لم يمنعها من الإهتمام بالتحصيل العلمي تقلدها لمنصب وزيرة بعد الإستقلال لم يمنعها من الكتابة والنشر، النقاد العرب أجمعوا أنَّ ما يميز زهور ونيسي هو قوة الإبداع و الغوص في الذات الأنثوية والتعبير عما يختلج الناس، فإذا كان هناك من شكك فإن أحد الأسباب التي رشحت آسيا جبار لجائزة نوبل للآداب هو كتبتها باللغة الفرنسية فإنَّ زهور ونسي كتبت بلغة الضاد ونالت جوائز عالمية وأُدرج إسمها في الموسوعة الأدبية بجامعة نيوورك كأهم كاتبة مغاربية وتم إغلاق كل الأفواه المشككة في القدرات الإبداعية للأديبة الجزائرية.
لقد كانت نهاية الثمانينات وفترة التسعينات والعشرية السوداء منعطفا هاما في تاريخ الأدب الجزائري فالأديبة كذلك أخذت على عاتقها مسؤولية حماية الوطن بقلمها فمنهن من هاجرن ومنهن من كتبن بأسماء مستعارة حفاظا على حياتهن، فباللغة الفرنسية نذكر ليلى صبار ومليكة مقدم، اما باللغة العربية فقد كانت احلام مستغانمي و فضيلة الفاروق أهم ما ميز المرحلة الأدبية الإنتقالية.
أحلام مستغانمي صاحبة ذاكرة الجسد الحائزة على جائزة نجيب محفوظ الأدبية سنة 1998، أجمع النقاد على أنها من أهم مايوجد في الساحة الأدبية كونها حققت المعادلة الأدبية الصعبة وهي السرد التاريخي الذي أحييت فيه الذاكرة الجماعية للجزائريين وتطرقها للمواضيع السياسية كالقضية الفلسطينية في قالب رومنسي، هي التي أجمع عليها الشرق والغرب على أنها أحدثت طفرة في الكتابة النسوية العربية، اما فضيلة الفاروق بنت أريس هذي البلدة التي كانت حاضرة في كتابتها عكست صورة الأديبة الجزائرية التي تمردت على بعض العادات والتي عانت في ظل العشرية السوداء لتخرج الى النور رواية «مزاج مراهقة».
ومازلت المرأة الأديبة الجزائرية تتفنن اكثر في الكتابة، فباللغة العربية إستمرتا كل من احلام مستغانمي وفضيلة الفاروق بإبهار العالم العربي ولكن هذا لم يمنع من ظهور جيل جديد من الكاتبات الجزائريات اتسمن بالجرأة في الطرح .
اما باللغة الفرنسية فقد برزت فئة نسوية ثبتت أنَّ اللغة لا تشكل حاجزًا في الكتابة لدى المرأة الجزائرية، ونذكر ابنة الثانية وثالثون كوثر عاضيمي ففي روايتهاها « ثرؤونا» الصادرة سنة 2017 عن دار النشر سوي ، أخرجت الذاكرة الجماعية الجزائرية للضوء سافرت بنا الى زمن يخيل لنا أنَّ الكاتبة فعلا تنتمي لجيل الثلاثنيات إذْ كان ظاهر الرواية يروي حياة الناشر ايدمون شارلو فباطينها كان ثقيلًا بالقضايا ، أثببت من خلال روايتها أنَّ المرأة الأديبة لا تهتم فقط بعلاقة الحب بينها وبين الرجل وإنما كذلك بإشكاليات كثيرة مثل الهوية والإنصهار الثقافي.
الملاحظ أن الأدب النسائي الجزائري يملك من الخصوصية ماجعله متميزا عالميا، كون ولادته القيصرية بين ظروف استعمارية قاهرة وتقاليد المجتمع المتعصبة آن ذاك كونا سر ثقل القلم النسوي في تلك الفترة، الأمر الذي أنعكس على الأجيال المتعاقبة فبرز للعالم أدب نسوي جزائري عميقا وقويا في طرحه وقضاياه حيث سجلت مؤلفات الأديبة الجزائرية من أكثر الإبداعات تأثيرا في العالم، فمن رحم معانتهن ولدت إبداعاتهن .