تتحوّل مدينة منعة الواقعة على بعد 85 كلم عن ولاية باتنة، خلال شهر مارس من كل عام، إلى قبلة مفضلة، للعائلات الأوراسية من عدة ولايات من الوطن، على غرار خنشلة، أم البواقي، قالمة، برج بوعريريج، وحتى منطقة القبائل بحضور مكثف لسكانها خاصة من ولايات بجاية، البويرة وتيزي وزور، التي تجد في احتفالات عيد الربيع أو «ثافسوث»، كما يطلق عليه بالشاوية، متنفسا حقيقيا ومناسبة مميزة لنشر الفرح والابتهاج والتصالح.`
يتميز عيد الربيع أو «ثافسوث» بمنعة هذه السنة في طبعته الـ11 باستحضار تاريخ المنطقة العريق الضارب في عمق الحضارة الإنسانية بالأوراس، من عادات وتقاليد تأبى النسيان متوارثة أباً عن جد، لا تزال صامدة تتحدى ظروف الطبيعة والإنسان الذي همشها، ولم تسقط من الذاكرة الشعبية إلى اليوم، بل انتصرت في مواجهتها للنسيان وأصبحت تحظى بأهمية كبيرة ورواج غير مسبوق والفضل في ذلك هو يقظة أبناء «منعة» الذين يقدمون كل عام في هذا الوقت من شهر مارس دروسا للجميع من مسؤولين محليين همشوا تراث المنطقة، وحتى قاطني المناطق الحضرية، الذين إعترفوا أخيرا بوجوب الحفاظ على هذا الموروث وصيانة ذاكرتنا الشعبية الثرية.
متحف في الهواء الطلق احتفاء بـ «ثافسوث»
يعتبر احتفال «ثافسوث» بمنعة والذي يمتد على مدار أسبوع كامل، فرصة لخروج العائلات إلى الحقول والمروج الخضراء للتمتع بجمال الطبيعة وزيارة الأقارب في إحدى أروع صور التكافل الاجتماعي، التي أصبحت غائبة في وقتنا في كثير من مدن الجزائر.
وللمرأة المنعاوية دورها البارز في إعطاء التظاهرة بعدها الإنساني وبريقها من خلال خياطة أزياء تقليدية بالحاف وصناعة أشهى المأكولات التقليدية التي تتميز بها المنطقة كـ»الشخشوخة»، «الرخساس»، «الرفيس»، «الزيراوي»و»البراج»، لاستقبال الضيوف الذين قدموا من عدة ولايات لمشاركة سكان المنطقة فرحتهم بخروج ينار ودخول «ثافسوث» حيث يطلقون على هذه المرحلة الانتقالية بـ»هيفسوين».
وقد تزينت كل منازل منعة من مداخلها إلى خارجها بروائع الأغطية التقليدية كالحنبل والزربية التي أعادت لمنطقة هبتها وعراقتها، حيث شاركت أكثر من 200 امرأة في الافتتاح الرسمي للتظاهرة فواحدة ترحب بالضيوف والأخرى تشرح لهم طريقة صناعة الأزياء التقليدية وأخرى تنسج ورابعة تقوم بالسداية، وغيرها ترافق الضيوف من النساء.. ليكون بذلك للعنصر النسوي دوره الكبير في إنجاح التظاهرة.
«ثاقلعيث» مدينة تروي تفاصيل 10 قرون خلت...
يلتصق إحياء عيد «ثافسوث» بزيارة عديد المعالم التاريخية والدينية والثقافية والطبيعية المتواجدة بمنعة، على غرار مدينة «ثاقلعيث» التي تعود إلى10 قرون خلت، شيدت من مواد بناء تقليدية تمثل أساسا في الطين وهو ما جعلها تبدو وكأنها امتدادا للطبيعة بها 5 أبواب التي تفتح كل صباح وتغلق ليلا في وجه الغرباء ومصدر الجمال، فيها أزقة ضيقة ومنازلها العتيقة وأبوابها الصغيرة التي كانت أيام الاستعمار خصنا منيعا للمجاهدين، والتي ما تزال شاهدة على حقب تاريخية كثيرة لحضارات عديدة مرّت من هناك.
تتشكل ثاقليعث من أكثر من 400 منزل تبدأ من القاعدة وترتفع لتشكل هرما قمته مسجد، وهي تحفة غاية في الروعة والجمال، مصنفة كتراث إنساني وطني، والتي هي اليوم بحاجة ماسة إلى ترميم من خبراء ومختصين حتى لا «يقتلها» الإسمنت الذي بدأ يزحف إليها شيئا فشيئا.
كما تزينت منعة بفسيفساء خلابة لعادات وتقاليد المنطقة، حيث وجدنا العشرات من الفتيات الصغيرات يرتدين أزياء تقليدية مميزة، تعكس غنى المنطقة وتنوعها، وكانت كل فتاة تمارس مهنة قديمة كطحن الفريك مثلا وصناعة الزرابي والحلي.. في صورة أذهلت الضيوف الأجانب خاصة السياح القادمين من بعض الدول الأوروبية.
وكان للتراث المادي حضوره القوي بمهرجان «ثافسوث» من خلال الرقصات الفلكلورية والألعاب الشعبية العريقة لمجموعة من الفرق والجمعيات، وكما دوى أيام الثورة رصاص الحرية، أعاد البارود والخيالة وفرق الرحابة التي أبدعت في ترديد الأغاني التراثية بالقصبة والبندير الروح إلى سكان المنطقة وضيوفها الذين أبوا إلا وأن يشاركوا سكان منعة والأوراس فرحتهم بقدوم الربيع مؤكدين أن «ثافسوث» فعلا فرصة للفرح والتفاؤل بموسم اخضر مزدهر.
السياحة بـ «ثاسريفث».. عندما تلتقي الطبيعة مع الجمال
نجح منظمو تظاهرة «الربيع» بمنعة في إمتاع ضيوف المهرجان من خلال برمجتهم لزيارة احد أهم المواقع السياحية بالمنطقة، ويتعلّق الأمر بمعلم سياحي أخر يتزاوج فيه سحر المكان وروعة الينابيع والسواقي المائية الطبيعية المتفجرة من الصخور الجبلية والتي يفوق عددها الـ100 عين، حيث تتشكل «ثاسريفث» ومعناها بالعربية المنخفض العميق من مجموعة جبال صخرية متقاطعة لونها يميل للأرجواني وفي وسطها تمر مياه واد منعه. وتعتبر منطقة «ثاسريفت» مزار لكل عائلات الأوراس خاصة في فصلي الربيع والصيف، وحتى خلال شهر رمضان الكريم فلا أحد يستطيع مقاومة الجمال الخلاب والطبيعة العذراء لـ»ثاسريفث»، ولا يمكن حسب سكان المنطقة الاستغناء عن مياهه العذبة للشرب والسباحة.
كما كان للمعالم الدينية بمنعة نصيبها من برنامج التظاهرة، حيث شهدت الزاوية القادرية «بن عباس» المتواجدة بدار الشيخ من بين أقدم المعالم الدينية بالجزائر والتي بها مخطوطات نادرة وأضرحة لأولياء صالحين على غرار قبري نجلي زعيم المقاومة الشعبية أحمد باي، حيث مرّ على مدينة منعة الكثير من الشخصيات التي صنعت تاريخ الجزائر الحديث على غرار أحمد باي، العلامة عبد الحميد بن باديس، عيسى الجرموني وغيرهم كثير.
وبدا واضحا الإقبال الكبير للجزائريين على عيد «ثافسوث» من خلال الطوابير الطويلة للسيارات والتي تحمل ترقيم أغلب ولايات الوطن، حيث عاش بهجة الربيع أكثر من 7000 مواطن استمتعوا بلعبة «ثاكورث»، وهي إحدى أشهر الألعاب الشعبية بالأوراس تصنع من مادة الحلفاء المعروفة بالشاوية بـ «أري»، تقوم النساء وبظفرها مع قليل من شمع العسل، لتتحوّل إلى كرة تستعمل في اللعبة، يشارك فيها فريقان يتكونان من 8 إلى 9 أعضاء من النساء أو الرجال، هدفها المتعة والابتهاج والتسامح.
الحنبل والزربية التقليدية رموز تأبى النسيان
تستقبل زائر منعة هذه الأيام معالم ثقافية تعكس الهوية الوطنية للجزائريين بالأوراس، على غرار الحنبل والزربية التقليدية المعلقة في كل جدران المنازل، حيث أشار منظمو مهرجان ثافسوث، خلال انطلاق فعاليات الاحتفال بالربيع إلى حرص أهالي المنطقة سواء بمنعة أو بوزينة، او أريس أو غيرها من مدن باتنة العريقة خاصة الجبلية منها على التمسك بعادات الأجداد التي تأبى النسيان، كون المناسبة فرصة للفرح والتفاؤل بقدوم موسم فلاحي واعد حسب العادات المتوارثة، لتتجسد مشاهد الاحتفال في عديد الأكلات والحلويات التقليدية التي تقدم بالمناسبة والتي تدوم لمدة ثلاثة أيام كاملة، غير أن هذه المناسبة حسب منظميها تسبقها العديد من التحضيرات يتجند لها كل سكان البلدية من خلال «التويزة» وهي عملية لجمع الأموال من كل سكان المدينة وحتى أولئك الذين يقطنون خارج منعة لظروف عائلية وأخرى مهنية سواء داخل الوطن أو خارجه، فهم لا يقطعون انتماءهم بها بل يؤدون كل واجباتهم تجاه المدينة في الأفراح والأقراح، حيث يستغل بعض المهاجرين فرصة الربيع للعودة للمدينة وقضاء أيام بها ثم العودة لبعض الدول لتي هاجروا إليها خاصة الأروبية، للتكفل بكل الأمور التي ترتبط بإحياء الربيع، في الوقت الذي تستعد فيه النساء بتحضير الأطباق التقليدية المعروفة في المنطقة، على غرار طبق «الشخشوخة» وطبق «الرفيس»، إضافة إلى إعداد بعض الحلويات الأخرى والأهم هو قيام كل عائلة بإخراج «الحنبل» أو «الزربية» التقليدية للتعبير عن الوحدة والإخاء والانتماء للجزائر، فيما تنظم استعراضات بهيجة لفرق البارود والخيالة للتعبير عن أصالة المنطقة.