«سرتا” تحاكي قسوة الإنسان والإهمال
رغم المقومات والمعالم التي تمتلكها عاصمة الشرق الجزائري قسنطينة، والتي تصنفها من أقدم وأجمل المدن في العالم، إلا أنها خارج إستراتيجية التنمية السياحية، فالمخطط العام الذي كان بإمكانه أن يوفر فرصة للتوسع السياحي وتدابير يمكن اتخاذها على عدة أقطاب سياحية إلا أن المدينة الآن لا تعتبر قطبا سياحيا متميزا رغم ما تمتلكه من مقومات، بسبب تهميش القطاع وغياب إرادة حقيقية لإنعاشه.
تعاني المنشآت والمواقع السياحية بقسنطينة التهميش واللامبالاة على غرار تدهور عدد من المناطق الأثرية كما هو الحال لمدينة “دولمان سيدي مسيد” التي أضحت آيلة للزوال، وطريق السياح المهدد بالانهيار فضلا عن الكهوف الصخرية والمصعد الهوائي المغلق، وهي المواقع التي بإمكانها قلب موازين السياحة بالمدينة وإنعاش القطاع وإخراجه من دائرة النسيان والإهمال، أما مرافق التسلية فتعتبر منعدمة بغض النظر عن المرافق القديمة التي تعرف ورشات منذ عشرات السنين ومنها حظيرة التسلية بجبل الوحش، منطقة تيديس.
قسنطينة تتوفر على موارد طبيعية، ومعالم ثقافية وتاريخية فريدة ومتنوعة تسمح لها أن تكون في المستقبل قطبا سياحيا متميزا فهي واحدة من أقدم المدن في العالم إذ توجد منذ 3000 سنة... سكانها الأوائل اختاروا المرتفعات كجبل الوحش، المنصورة، الكهوف والصخور حيث اكتشفوا العديد من الرفاة بالإضافة إلى الآثار بالمدينة الأم، ليستقروا على الصخر، وهو ما كان يحميهم ويسمح لهم بمواجهة الغزاة، هذه المدينة التي تتمتع بتاريخ عريق تشهد عليه الآثار والبقايا المهمة جدا، حيث كانت مهدا للحضارات بدءا من البونية، الرومان، الوندال والبيزنطيين، العهد الإسلامي، العهد العثماني والاستعمار الفرنسي وهو ما خلف مناطق أثرية متميزة وتاريخا فريدا يجمع بين حضارات مختلفة ومتنوعة، كل هذه المقومات الثقافية والتاريخية لم تستغل كما ينبغي للترويج للوجهة السياحية الداخلية خاصة وأن القطاع يواجه وباستمرار معوقات ونظرة ضيقة غالبا ما تعود إلى غياب البنية التحتية، في حين أنها أكثر تعقيدا من ذلك لأنه لا يشمل فقط الأبعاد الاقتصادية ولكن أيضا أبعادا ثقافية واجتماعية وبيئية.
سيرتا تئن تحت وطأة اللامبالاة وتغييب مقوماتها
تعرف عدة مناطق أثرية وسياحية بقسنطينة تهميشا واضحا على غرار ضريح ماسينيسا الذي يبعد عن مقر الولاية بـ 16 كلم وهو عبارة عن شكل مربع يرتفع بتدرج، مكون من خمس طبقات من الحجر، صنف عام 1900 م كتراث تاريخي محمي، إلا أنه تعرض للتخريب وسرقة أحجاره والأمر في ذلك أنه تحول إلى وكر للجريمة والفعل المخل بالحياء وسط صمت مقلق من الجهات المعنية بحماية التراث المصنف، هذا إلى جانب دولمان بونوارة حيث يتواجد 3000 إلى 4000 دولمنس ومعظمها تم تخريبها أو تعديلها أثناء عملية الحفر للبحث عن الكنوز وهي التي صنفت كتراث محمي سنة 1900م، قبر لوليوس وهو نصب تذكاري دائري مصنف كتراث، المدينة الأثرية تيديس، قصر أحمد باي، المدينة القديمة..مواقع وكنوز أثرية لم يتم استغلالها لتحفيز السياحة وبقيت مهمشة ومعرضة للتخريب رغم أنها يمكن أن تدر أموالا بالعملة الصعبة للخزينة العمومية في حال إذا ما نجح القائمون عليها في استخدامها لاستقطاب السياح ومحبي المواقع الأثرية.
إن كل هذه العوامل تشجعنا على التفكير بجدية في تحديد مكانة السياحة في سياسة التنمية الشاملة للقطاع، حيث أن الحفاظ على التراث الثقافي وضمان الاستخدام الرشيد للموارد المائية، يعتبر أثرا إيجابيا لتنمية القطاع واستخدام الإيرادات لتعزيز التنمية المحلية وهي الورقة الرابحة من أجل تنمية القطاع، خاصة وأن مدينة قسنطينة تعد مزيجا متميزا بين مقومات سياحية ضخمة وتاريخ ثقافي فريد من نوعه ما يجعلها قوة لجذب الاستثمارات والزوار.
وليس بعيدا عن المواقع الأثرية التي تزخر بها المدينة نجدها تتوفر على عدة مواقع أخرى، في مقدمتها الجسور المعلقة وأسوار المدينة العتيقة، ممر السواح والذي يعتبر إحدى الفضوليات لمدينة قسنطينة أنجز سنة 1895 على مسافة تتجاوز 2.5 كلم ويسمح للزائر بمتابعة واد الرمال من جسر الشيطان إلى جسر الشلالات، وهو الممر الذي تدهور مع مرور الوقت بسبب إهمال صيانته، ورغم المحاولات الحثيثة أثناء تقليد قسنطينة عاصمة الثقافة العربية لترميمه إلا أنها لم تنجح في استعادة بريقه، أما حمام سيزار المزود بشلال ومياه معدنية قادمة من أعماق واد الرمال فقد تعرض للهدم جزئيا بسبب فيضانات 1957 وهو اليوم غير مستغل ومهجور، نصب الأموات هو الآخر من أهم المواقع التاريخية بالمدينة، تمثال إمرأة الحرية وكذا تمثال قسطنطين.
إمكانات ضخمة....و محاولات فاشلة
بغض النظر عن التراث والآثار التاريخية التي تحتويها مدينة الجسور المعلقة، تزخر وتتمتع قسنطينة بثقافة الهوية المتعددة، ولأنها مدينة تاريخية عرفت عدة ثقافات في ميادين الموسيقى، الصناعة التقليدية، فن الطبخ، يتوجب علينا الحفاظ على هذا التراث المكتسب وتشخيصه وتعريفه للأجيال المتعاقبة للحفاظ عليه وتطويره، وهو ما يلعب دورا هاما في تدعيم قطاع السياحة وجلب الزوار والسياح المحليين والأجانب، فمن منا لم يسمع بالموسيقى الأندلسية أو المالوف، هذا الإرث القديم ظل ينقل من جيل لآخر من طرف نساء ورجال مسلمين ويهود على يد شيوخ كبار في هذا الفن كالشيخ حسونة، سيمون طمار، الشيخ محمد الطاهر الفرقاني، الدرسوني وآخرين من الشيوخ الكبار، إضافة إلى أنواع أخرى من الموسيقى كالعيساوة، الوصفان والفقيرات وهي كلها تدخل في إطار الهوية الثقافية لمدينة الهوية المتعددة.
أما إذا تجولت بين أزقة وأحياء المدينة العتيقة فتجد في كل زاوية التراث يروي قصص قسنطينة القديمة حيث الصناعة التقليدية التي يشتهر بها سكان المدينة والتي تحصي أكثر من 90 نشاطا للحرف منها صناعة الأواني النحاسية، الطرز على القطيفة، صياغة الذهب والفضة، صناعة الآلات الموسيقية وزخرفة الخزف، تحبك وتطرز بأنامل 3103 حرفي، يعانون من عدة عراقيل من بينها غياب مدينة للحرف التقليدية كما هو معمول به لدى الدول الشقيقة التي تضع الصناعات التقليدية في المقام الأول لما لها من أهمية على تنمية السياحة والمساهمة في الاقتصاد الوطني.
مشاريع فندقية متوقفة بسبب التمويل البنكي
رغم الإمكانات الضخمة التي تملكها قسنطينة والتي تجعلها مدينة سياحية بامتياز، إلا أن المجهودات لا ترقى لهذه المقومات التاريخية والثقافية، حيث لا يوجد بالولاية حسب رئيس مصلحة السياحة عمار بن تركي حظيرة فندقية كبيرة تستوعب الزائرين والسياح، حيث تحصي 25 فندقا من بينها 03 فنادق عمومية و22 فندقا خاصا بسعة استيعاب تقدر بـ 2490 سرير، وهو ما اعتبره نسبة ضئيلة في هياكل الاستقبال.
وذكر ذات المسؤول أن معظم المشاريع السياحية متوقفة على غرار مشروع إنجاز 03 فنادق بعدد 660 سرير والذي توقف بسبب عدم حصول المستثمر على التمويل البنكي، أما فيما يخص المشاريع التي هي في طور الإنجاز يوجد 04 فنادق بعدد أسرة يقدر بـ 539 سرير، في حين يخضع فندق سيرتا الكبير لإعادة تهيئة، 07 مشاريع لم تنطلق بسبب مشكل التموين البنكي وصدور رخصة البناء من مجموع 16 مشروعا مسجلا، وهو ما يجعلها ضئيلة بالنسبة لمكانة قسنطينة سيما وأن قسنطينة عرفت أثناء تنصيبها عاصمة للثقافة العربية لسنة 2015 برنامجا ضخما لترميم وتشييد بنى تحتية خصصت لها أغلفة مالية معتبرة لترميم وتهيئة المواقع السياحية والفنادق القديمة لكنها لم تنجز إلى يومنا هذا.