تجربة إعلامية ثريّة، ذاكرة ملمّة بأهم المحطّات المعاشة في السبعينات، ميّزت الإعلامي الهاشمي بورايو الذي كان من بين الأقلام الواعدة التي تركت بصمتها في جريدة «الشعب»، إلى جانب العديد من الأسماء الرّائدة في السّاحة التي تتقلّد اليوم مناصب عليا في الدولة. حبّه وامتنانه لعميدة الجرائد التي فتحت له الأبواب لولوج عالم الصحافة جعلته يلبّي دعوة المؤسسة للحديث عن تجربته العريقة فيها، والتّأكيد مرة أخرى أنّ «الشعب» تمثل ذاكرة الوطن إذ تحمل في طيّات أوراقها رسالة أجيال، مشكّلة صورة واضحة المعالم للجزائر المناضلة ومنبرا للحوار الثقافي بين أقطاب مختلفة من الجزائريين وواجهة أدبية راقية للفكر العربي.
الهاشمي بورايو عاد بنا من خلال حديثه الشيّق والمثير الحامل لحقائق شكّلت تغطية شاملة لأهم المحطّات التي عرفتها جريدة «الشعب» في السبعينات، حيث كانت حسب تأكيداته لنا مدرسة إعلامية بامتياز، وبوّابة واسعة لكل المواهبين والمثقّفين، أنجبت العديد من الشّخصيات، كما ساهمت في ترقية قطاع الإعلام من خلال تكوين العديد من الاعلاميّين هم اليوم يديرون أكبر المؤسسات الإعلامية، تتلمذ على يدها نخبة هامّة تركت بصمة واضحة.
ابن «الشعب»، أبدى امتنانه لهذا العنوان الذي فتح له المجال، فقد كان جد محظوظ لأنّه دخل الساحة الإعلامية من أكبر أبوابها آنذاك من خلال جريدة «الشعب»، وهذا بالنظر للقيمة الكبيرة التي كانت تشهدها خلال تلك الفترة كعميدة الجرائد، إلى جانب ثلاث يوميات أخرى ما يعني أنّ الساحة كانت ملك لهم، خاصة وأن الدولة كانت تولي أهمية لهذا القطاع الذي كان يشكّل همزة وصل ما بين الدولة والمجتمع، وكذا حلقة هامة في إسماع صوت الثورة عبر العالم.
شكّل التحاق بورايو بجريدة «الشعب» أهم حدث في حياته، خاصة وأنه كان لم يلتحق بعد بالجامعة، إذ أنّه وبمجرد حصوله على شهادة البكالوريا في جوان 1976، تمّ تقديمه من طرف قريبه للمؤسسة في أوت 1976 الى الإعلامي مهدي لزوم، حيث طلب منه في بداية الأمر كتابة عدد من المقالات من باب التجربة، لتكون المفاجأة الكبرى بنشرها بعد أن نالت إعجاب هيئة التحرير، ليلتحق منذ ذلك التاريخ بالقسم الثقافي باعتبار أنه كانت له ميولا كبيرة في هذا المجال، فهو من محبّي قراءة الشعر فكانت أول ما كتبه مقال يثري فيه شعر «بابلو نيرودا» ليواصل مشواره المهني كصحفي دائم بعد 6 أشهر من التجربة، حيث كان يعمل فيها كصحفي متعاون غير أن مهنيته وأسلوبه الأدبي الراقي سمح له بالاستمرار في الجريدة حتى يكون من بين أبنائها الذين ساهموا في إعلاء صوتها وجعلها منبرا إعلاميا بامتياز.
واستطاع بورايو أن يفصل ما بين مهنته ودراسته حيث كان يدرس بالجامعة تخصّص علم اجتماع، ولحسن حظه كانت الجامعة بالقرب من مقر المؤسسة التي كانت تقع بساحة أودان في 3 طوابق، الطابق السفلي مخصّص لطباعة الجريدة التي كانت تطبع ما بين العاشرة ليلا ومنتصف الليل على حسب الأحداث، حيث كان يقوم أحد الصّحفيّين المناوبين على متابعة الجريدة الى غاية طبعاتها في صورتها النهائية. وهنا ذكر بورايو أنّ الجريدة كانت تسحب ما يفوق 650 ألف نسخة كانت تباع كلها، كما كانت المؤسسة تحرص إلى إيصال العنوان إلى جنوب الوطن حتى وإن كانت تصل متأخرة بيوم كامل إلا أن المواطن كان ينتظرها بشغف ليطلع على أخبارها الثرية المتنوعة الحاملة في طياتها صوت الثورة.
خبرته المهنية مكنته من ترأس القسم الثقافي في فترة قصيرة بعد التحاقه بجريدة «الشعب»، حيث بات يشرف على كل مواضيعها الثرية التي جعلت منها مرجعا للعديد من الأدباء، بالإضافة الى قيامه بتغطية مختلف الأحداث الثقافية،التاريخية والنشاطات التي لها علاقة بالفكر الإسلامي، مواضيع هامة تم إثراؤها عبر جريدة «الشعب»، ساهمت وبشكل كبير في انفتاح المجتمع الجزائري الذي كان وفيّا لهذا العنوان، على الثقافة والفكر العالمي والإنساني...يوميات إعلامية مثيرة عاشها بورايو خلال هذه الفترة قبل أن يتم استدعاءه لأداء الخدمة الوطنية.
وهكذا كانت 1982 السنة التي غادر فيها بورايو من جريدة «الشعب» ضاربا لها موعدا آخرا بعد سنتين من أدائه للخدمة الوطنية، والتي التحق خلالها بمجلة «الجيش» بحكم تخصّصه ليستمر في العطاء الأدبي عبر صفحاتها الثرية والمثيرة تحت إشراف رئيس القسم عبد القادر بوطيبة، ليعود الى جريدة «الشعب» مجدّدا في 1984، مواصلا مسيرته الإعلامية الفكرية، بكتاباته النقدية السينمائية والمسرحية وغيرها...
لتلعب بذلك جريدة «الشعب» من خلال القسم الثقافي دورا كبير في التعريف بالنخبة المثقّفة بهدف ترقية المجتمع، وذلك بالنظر إلى المواضيع الثقافية المتناولة شملت كل من الرواية، القصة القصيرة، النقد الأدبي، ألوان من النثر والشعر والتي كانت مرجعا هاما، فطاقمها التحريري كان يحرص على اختيارها بعناية دقيقية، يتم إصدارها في شكل ملحق ثقافي كل أسبوع إلى جانب الصّفحات اليومية بالنظر إلى المقروئية التي كان يحظي بها خاصة من طرف الجامعيّين والمتعطّشين جيل الاستقلال في ترقية معارفهم والرقي بمستواهم الفكري، وأنا اليوم يقول الهاشمي بورايو: «كلّي اعتزاز لأنّي كنت من بين الذين ساهموا في ترقية الفكر عند هذه الفئة من المجتمع».
مسيرة إعلامية مميّزة بجريدة «الشعب» دامت 10 سنوات، كانت بمثابة مدرسة كبيرة في تكوين بواريو، الذي بدى جدّ متأثّرا وهو يراود الزمن الماضي، حيث عادة إلى ذاكرته أهم المحطات التي أثّرت فيه على غرار تغطيته لجنازة الرئيس الراحل هواري بومدين، حيث كلف بكتابة مقال حول أهم النشاطات الثقافية التي قام بها الرئيس قبل وفاته، مؤكدا لنا أن التزام الجريدة بتغطية كل جوانب الحدث ألزمتهم العمل طيلة الليل والمبيت بالمقر، ليكون آخر عمل يقوم بنشره عبر صفحات عميدة الجرائد ملف حول الصحة.
ليختار بعدها رفقة 4 أعضاء آخرين لتأسيس جريدة «المساء»، حيث كان رئيس التحرير مكلفا بالشؤون الثقافية والمنوعات إلى جانب المشرف عن الموضوع المرحوم محمد العربي غراس، جمال الدين صالحي كان رئيس تحرير، على فضيل نائب رئيس التحرير مكلف بالقسم الوطني والمرحوم العاقل ياسر في القسم الوطني، حيث كانوا يعملون تحت إدراة جريدة «الشعب»، ليغادر عميدة الجرائد بعد الانفتاح الإعلامي سنة 1990، حيث اختار الخوض في المجال الخاص.
ليعود بنا بذاكرته الجميلة مرة أخرى إلى أجواء العمل داخل المقر، حيث كان يمثل متعة كبيرة له ولكل زملائه الذي وصل عددهم آنذاك حوالي الـ 200 عامل، ولعل ما زاده فخرا وامتنانا هي المكانة التي كان يحظى بها باعتباره صحفيا ينتمي إلى هذه المؤسسة الإعلامية العريقة التي كانت تحظى بعناية من طرف الهيئات الرسمية، حيث كانت تقيم لها اعتبارات كبيرة، وكان الصحفي آنذاك معترف له بمكانة واحترام كبيرين من طرف السلطات والمجتمع على حد سواء لتكون أحلى سنوات حياته في الفترة التي كان اسمه مرتبطا بعميدة الجرائد «الشعب».
بورايو رفض في حديثه معنا مقارنة العنوان منذ تأسيسه في 11 ديسمبر من عام 1962 إلى ما بعد الانفتاح الإعلامي، حيث أكد قائلا: «لا يمكن مقارنة جريدة الشعب وقت الحزب الواحد بالجريدة اليوم»، فالجريدة يضيف «ماتزال تحافظ على رسالتها النبيلة ملتزمة بقضايا المجتمع، متجنّبة إعلام الإثارة الذي بات يطغى على الساحة الإعلامية اليوم التي تشهد زخمت كبيرا من العناوين».
وإن كان قد رفض المقارنة بين الجريدة بالأمس واليوم إلا أنّه وافق في توجيه رسالة لعمّالها اليوم، حارصا من خلالها على إعلاء صوتها وتثبيت مكانتها في الساحة الإعلامية والمحافظة على اسمها التاريخي العريق، إذ قال: «أنا كلي يقين من أن المسيرة متواصلة للحفاظ على مكانة هذه المؤسسة الإعلامية العريقة في ظل الزخم الإعلامي الواسع الذي تشهده الساحة اليوم، ولعل رسالتي الى الرعيل الجديد هو المحافظة على الاحترام الذي لطالما حظيت به من خلال التزامها بتأدية رسالتها الإعلامية النبيلة وإيصال صوت الشعب بكل موضوعية ونزاهة الى السلطات».
ليغادر بورايو مقر الجريدة التي زارها وبعد طول غياب يوم الأربعاء 6 ديسمبر المقبل بعد أن لبّى دعوتها للحديث عن أهم المحطات التي عايشها مع هذه اليومية، بعد أن زار مختلف أقسامها وتعرّف على عدد من الصّحافيّين وتبادل معهم أطراف الحديث، أروقة وإن تغيّرت في شكلها ومكانها، إلا أنّها ماتزال تحمل من خلال عنوان الجريدة أجمل الأيام التي عاشها بورايو جعلته يبدي تأثّرا وحنينا للزّمن الماضي.