كلما بدا لنا بأن المحن العربية التي خلقها الربيع الدموي ماضية إلى الانحسار، خاصة مع تراجع تنظيم «داعش» الإرهابي، وظهور ملامح انفراج حقيقي في سوريا الجريحة، إلا واستيقظنا على كابوس آخر مرعب يحبس الأنفاس ويقضّ المضاجع خشية نشوب نزاع جديد في منطقة هي بالأساس مثقلة بالهموم، مشبّعة حدّ الثمالة بالتوترات وبرائحة البارود والموت واليأس.
فصل أسود بدأت ملامحه تتجلى من بعيد، منذرة باحتمال نشوب حرب جديدة قد يكون لبنان مسرحا لها، لتوضع هذه الدولة الصغيرة المفعمة بالحياة مرّة أخرى بين رحى الموت والدمار ويعود كابوس الحرب الأهلية المفزع، ومعه حرب تموز 2006 التي شنّتها إسرائيل على جنوب لبنان.
هكذا إذن وفي الوقت الذي استطاع فيه لبنان أن يخرج من انسداد سياسي دام لسنوات ومن فراغ رئاسي تجاوز العامين، ونجح في وضع قطار الحكم على سكّته الصحيحة بفضل تفاهمات حفظت لكل تيار حقوقه ولكل طائفة حصّتها، ها هي العواصف الهوجاء تهزّ كيانه الهشّ، وتهدّد بنسف توافقه السياسي الذي تمّ بلوغه بشقّ الأنفس، لتضعه على حافة الحرب التي تحمل اسما جديدا هذه المرة، هو الحرب بالوكالة، التي يكون بلد الكرز مسرحا لها وحزب الله المستهدف فيها، لكن المواجهة الحقيقية هي بين دول أخرى.
قدّر لبنان وضعه على خط زلازل المنطقة، فأي هزّة هنا يقع ارتدادها على أراضيه، وهو كلّما حاول النأي بنفسه عن النيران التي تلتهم الجوار، إلا ووجد اللهب يصله إلى عقر داره.
ولا أعتقد بأن أحدا من اللبنانيين يريد العودة إلى سنوات الدمّ والدموع التي امتدّت خمس عشرة سنة، وحصدت أكثر من مائتي ألف قتيل، وشرّدت مثلهم أو أكثر من قراهم ومناطقهم ومازالوا مهجّرين في وطنهم حتى اليوم.
ليس بين اللبنانيين اليوم من يريد تمرير السكين على الجرح الذي لم يندمل بعد، ليجرّ البلاد والعباد إلى معركة جديدة الرابح فيها سيكون خاسرا، وقد لمسنا إصرارا كبيرا للسياسيين على حماية البلاد من أي انزلاق يلهب الشوارع ويمنح المتآمرين الفرصة لتحقيق أهدافهم الدنيئة بإشعال الفتن، وتغذية الحساسيات بين أبناء الوطن الواحد باختلاف أطيافهم السياسية ومذاهبهم الدينية.
ورغم مخاوفنا من حرب مفروضة قد يجرّ إليها لبنان جرّا، فإننا نهيب بأشقائنا هناك شعبا وقيادة أن يتمسّكوا بالحكمة وضبط النفس ويقدّموا أمن البلاد واستقراره على المصالح الحزبية والطائفية الضيقة، ولا يقعوا في الشرك الذي ينصب لهم، لتمرير هذه المرحلة الصعبة بأقل قدر ممكن من الخسائر.
صحيح أن لبنان اليوم هو أمام امتحان صعب، لكن بإمكانه اجتيازه بنجاح لو اعتصم اللبنانيون باتفاق الطائف والدستور المترتّب عنه، وابتعدوا عن التجاذبات السياسية العقيمة وبالخصوص عن الولاءات للخارج، فمصيبة لبنان الكبرى هي أن كل تيار أو مجموعة أو حزب مرتبط بجهة إقليمية أو دولية معيّنة، الأمر الذي يجعله في مرمى أي صراع ينشب بين هذه الجهات.
ويبقى في الأخير التأكيد بأن وطننا الكبير ليس في حاجة إلى بؤرة توتر جديدة، لهذا نتمنى تحرّكا عربيا سريعا لتطويق الأزمة في لبنان قبل أن تنفجر إلى حمام دم سوف يغرق الكثيرين.