«الشعب» تعود إلى الدّشرة التي غيّرت مجرى التّاريخ
تحيي الجزائر بكل فخر واعتزاز الاحتفالات المخلدة للذكرى الثالثة والستين لاندلاع ثورة الفاتح نوفمبر 1954 المجيدة باسترجاع آلام وآمال الجزائريين، الذين ضحّوا بالنفس والنفيس والغالي والرخيص من أجل أن ننعم اليوم بجزائر العزة والكرامة، غير أن الكثير من الجزائريين خاصة أجيال الحاضر لا تعرف عن رمزية وكيفية ومكان اندلاع الثورة التحريرية الكثير. جريدة «الشعب» قامت بزيارة لدشرة أولاد موسى التي شهدت التحضيرات الكبيرة لاندلاع الثورة.
انطلقنا من محطة «اذرار الهارة» بمدينة باتنة باتجاه بلديتي أريس إشمول مهد الثورة والثوار، عبر كل وحدة كيلومترية من المدينة حكاية ثورة وشعب رفض الاستعباد، فقرّر ذات نوفمبر أن يخرج عن بكرة أبيه ليلقّن الفرنسيين درسا في التضحية وحب الوطن عبر ثورة خلّدها التاريخ.
على بعد عدة كيلومترات من بلدية إشمول، وفي منتصف الطريق نحو آريس، شرق باتنة، تقع دشرة أولاد موسى، البقعة الجغرافية النائمة التي لعبت دورا رئيسيا في تاريخ الثورة، بعد أن اختارها أسد الثورة الشهيد الرمز مصطفى بن بولعيد لعقد لقائه التاريخي مع 300 مجاهد، وذلك أيام 29 و30 و31 أكتوبر 1954 لإعطاء إشارة انطلاق أولى رصاصات الثورة المجيدة بمنطقة الأوراس. وقد اجتمع بن بولعيد برفاقه المجاهدين وخطب فيهم قائلا: «لقد كانت الثورة تنتظر هذا اليوم بشغف من أجل التحرير الوطني، إنه يوم عظيم كان ينبئ بالنصر الأكيد، لقد وقف الشعب في الشرق والغرب كرجل واحد، أنتم خضتم أكبر معارك الأرواس، لقد فقدتم بعضا من الرفقاء الأعزاء، الذين بكيناهم جميعا لكن مسيرة الحرية قد بدأت»، هي كلمات قالها الشهيد الرمز مصطفى بن بولعيد للمجاهدين بمنطقة كيمل، بعد 3 أيام من المعركة الشهيرة بمنطقة «تبابوشت» التي وقعت بتاريخ 7 ديسمبر 1954، مع بدايات الثورة المجيدة، أين التقى بن بولعيد بجنود التحرير لتعزيز ثقتهم بالقيادة، والتأكيد على أن الثورة قد انطلقت فعلا ولا تراجع عن النصر أو الشهادة، وقد كان الشهيد الرمز رفقة المجاهدين شيحاني بشير وعباس لغرور حسب شهادة المجاهد الكبير سي جودي كيور.
دشرة أولاد موسى... اشهد يا تاريخ
لم يكن أحد يعتقد أن مجموعة من السكان الفقراء والأميين بمنطقة الأوراس الوعرة التضاريس ستصنع الفارق، وتقلب موازين المعادلة بين جيش استعماري غاشم جثم على صدور الجزائريين لمدة فاقت القرن والربع قرن كانت كلها سنوات قتل وتذبيح وانتهاك صارخ للحقوق والحريات الأساسية للإنسان، وبين «رجال شرف» من الأوراس الأشم الذين «عقدوا العزم» على أن نهاية فرنسا قد اقتربت و»مضى وقت العتاب».
خلال زيارتنا لدشرة أولاد موسى لم تكن هناك أية مؤشرات توحي بأن هاته الدشرة الصغيرة جغرافيا وديمغرافيا ستغير مجرى التاريخ وتصنع إحدى أروع وأعظم ثورات القرن 20، ثورة دربكت العالم وكشفت عن الوجه الحقيقي والقبيح لفرنسا الاستعمارية، بأحد منازلها المعروفة هناك منزل «الإخوة بن شايبة» عقد اجتماع 6 الكبار مفجري الثورة، ببلدية اشمول التابعة لولاية باتنة على سفح جبل اشمول، يقابلها جبل الظهري الكثيف المغطى بأشجار الصنوبر والمحاط بالوادي الأبيض، كما تتميز الدشرة بمنازلها المرتفعة والتي يتواجد أسفلها عدد كبير من المزارع والبساتين.
ولعل هذا هو ما جعل من منزل الإخوة بن شايبة مكان يكفي الاقتراب منه لتشعر بالرهبة والكبرياء والقداسة وحتى الخوف والفخر لأن الثورة انطلقت ذات نوفمبر من هنا، حيث تقع بمحاذاة الوادي وتحيط بها غابات كثيفة، وهو ما جعل منها معقلا لثوار رفعوا التحدي وراهنوا على عدالة قضيتهم رغم قلة الإمكانيات واختلال موازين القوى.
يروي المجاهد الكبير احمد قادة «لصوص الشّرف»، خلال لقاء جمعه بجريدة «الشعب»، بأن وضع اللمسات الأخيرة للتحضير لاندلاع الثورة التحريرية كان في اجتماعي 10 و24 أكتوبر 1954 بالجزائر من طرف لجنة الستة، حيث ناقش المجتمعون قضايا هامة على غرار إعطاء تسمية للتنظيم الذي كانوا بصدد الإعلان عنه ليحل محل اللجنة الثورية للوحدة والعمل، وقد اتفقوا على إنشاء جبهة التحرير الوطني وجناحها العسكري المتمثل في جيش التحرير الوطني، حيث تهدف المهمة الأولى للجبهة في الاتصال بجميع التيارات السياسية المكونة للحركة الوطنية قصد حثها على الالتحاق بمسيرة الثورة، وتجنيد الجماهير للمعركة الحاسمة ضد المستعمر الفرنسي إضافة إلى تحديد تاريخ اندلاع الثورة التحريرية، حيث كان اختيار ليلة الأحد إلى الاثنين أول نوفمبر 1954 كتاريخ انطلاق العمل المسلح يخضع لمعطيات تكتيكية عسكرية، منها وجود عدد كبير من جنود وضباط عسكر الاحتلال في عطلة نهاية الأسبوع يليها انشغالهم بالاحتفال بعيد القديسين المسيحي، مع التأكيد هنا ضرورة إدخال عامل المباغتة وتحديد خريطة المناطق وتعيين قادتها بشكل نهائي، ووضع اللمسات الأخيرة لمخطط الهجوم في ليلة أول نوفمبر.
حينما عقد الاجتماع الشهير الذي ترأسه مصطفى بن بوالعيد في جوان 1954، ذلك اللقاء بكى فيه الشهيد الرمز باجي مختار، فسأله بن بوالعيد، كما يروي المجاهد الطاهر عزوي من أريس، ما يبكيك يا مختار؟ فرد عليه: كيف سنقوم بالثورة يا سي مصطفى ونحن لا نملك سوى مسدسات وبنادق؟ فقال بن بوالعيد جملته الشهيرة: «يا إخواني كونوا معي نفجّرها وأنا أعاهدكم بتوفير السلاح، وبأن الأوراس قادر على الصمود في وجه فرنسا ما بين ستة إلى عشرة أشهر»، وقتها تأكد الجميع أن بن بوالعيد كان على دراية كاملة بوطنية سكان الأوراس والتي لا حدود لها في تلك الفترة العصيبة من تاريخ الجزائر.
الأوراس الأشم... الثّورة بدأت من هنا
بدشرة أولاد موسى أو عين الحمام كما كانت تسمى وبالتحديد في ليلة 31 أكتوبر إلى 1 نوفمبر 1954 تحت جنح الظلام، كان هناك أكثر من 300 مجاهد يخترقون بأقدامهم سكون الليل وظلامه الحالك الذي عهدته المنطقة آنذاك، حيث اجتمعت قيادة المنطقة الأولى «أوراس النمامشة» ببيت البطل بن شايبة وتحت إشراف الرمز مصطفى بن بوالعيد تلقى المجاهدون في هذا اللقاء التاريخي الذين لم يكونوا مجهزين للقتال أسلحتهم الأولى، وقسموا إلى أفواج لضرب مراكز العدو الفرنسي في كامل المنطقة الأولى وقد تشكلت قيادتها في تلك الليلة من مصطفى بن بوالعيد قائد المنطقة الأولى، بشير شيحاني نائب قائد المنطقة الأولى، عباس لغرور عضو المنطقة الأولى، مدور عزوي أمين المال، عاجل عجول عضو المنطقة الأولى، بوستة مصطفى عضو المنطقة الأولى.
وقد تمّ استخراج الأسلحة المدفونة منذ 1948 بمنطقة كيمل وتوزيعها على المجاهدين، وبعد توزيع المهام اختيرت كلمة السر «خالد عقبة» التي بدأ المجاهدون يرددونها في الجبال وكلهم يقين بالنصر، حيث أكّدت مصادر ثورية عديدة لـ «الشعب» أن بداية الثورة كانت بمشاركة 1200مجاهد على المستوى الوطني بحوزتهم 400 قطعة سلاح وبضعة قنابل تقليدية فقط، وكانت الهجومات تستهدف مراكز الدرك والثكنات العسكرية ومخازن الأسلحة.
وباعتراف السلطات الاستعمارية، فإن حصيلة العمليات المسلحة ضد المصالح الفرنسية عبر كل مناطق الجزائر ليلة أول نوفمبر 1954، قد بلغت ثلاثين عملية خلفت مقتل 10 أوروبيين وعملاء وجرح 23 منهم وخسائر مادية تقدر بمئات الملايين من الفرنكات الفرنسية. أما الثورة فقد فقدت في مرحلتها الأولى خيرة أبنائها الذين سقطوا في ميدان الشرف، من أمثال بن عبد المالك رمضان وقرين بلقاسم وباجي مختار وديدوش مراد وغيرهم.
مصطفى بن بوالعيد تاريخ رجل... ذاكرة أجيال
يلقب الشهيد الرمز مصطفى بن بوالعيد بأنه أب الثورة الجزائرية وأسدها، الذي أخرج الثورة إلى النور ورافقها إلى غاية استشهاده، حيث كان الرجل عظيما في أخلاقه عاشقا ولهانا لوطنه ناقما على المستعمر الغاشم، وهب كل حياته وثروته في تلك الفترة للجزائر، فاقتنى الأسلحة وبنى منذ سنة 1948 عدة مخابئ للسلاح بكل من تيفرطاسين وبمسجد إينركب بآريس وبمزرعة خاصة كان يملكها، وكان يؤمّنها بطريقة عجيبة غريبة في مطامر خاصة، كما يروي المجاهدون أحمد قادة، بن عايشة والمجاهد عبد الصمد السعيد وبن باطة بوعلام، فقد كان يضعها داخل براميل يغطيها بالتبن ليتم إخراج الشحنة الأولى من الأسلحة في أكتوبر 1954 وأرسل شحنة أخرى متكونة من 50 قطعة سلاح إلى زيغود يوسف وبن طوبال وعمار بن عودة المنطقة الثانية بالشمال القسنطيني و90 بندقية إلى كريم بلقاسم بالمنطقة الثالثة بمنطقة القبائل و60 بندقية إلى منطقة الجزائر العاصمة وتحديدا إلى رابح بيطاط، في حين تعذر عليه إرسال كمية إلى العربي بن مهيدي، المتواجد آنذاك بمنطقة الغرب الجزائري، لأنه كان يعتقد أن بن مهيدي قادر على جلب الأسلحة من الحدود الغربية.
ويفصل ضيف جريدة «الشعب» المجاهد الكبير أحمد قادة بالقول حول اجتماع لقرين، الذي سبق تفجير الثورة إن أهمية اجتماع لقرين التاريخي تنبع من تمكن أسد الثورة بن بوالعيد مصطفى من عقده رغم الظروف الصعبة التي أحاطت به، مشيرا إلى أنه عقد يومي 26 و27 أكتوبر ليلا بمنزل المناضل عبد الله بن مسعودة، المعروف باسم «أمزيطي». وانطلقت أشغاله بعد تأدية «اليمين والقسم» على المصحف بالوفاء للجزائر والثورة، والالتزام بدعم الثورة وعدم إفشاء أسرارها مهما كان الثمن، بحضور أبطال الثورة الآتية أسماؤهم: عباس لغرور، الطاهر نويشي، عاجل عجول، مصطفى بوستة، موسى حاجي، ومحمد خيضر وحسين بالرحايل وشيحاني بشير وعثماني عبد الوهاب وعبد الله بن مسعودة صاحب المنزل، حيث تم صياغة بيان أول نوفمبر التاريخي والذي كتبه البطل شيحاني بشير بخط اليد ثم بالآلة الكاتبة وباللغة الفرنسية بطلب من بن بوالعيد «وقمت أنا بتوزيعه»، يضيف المجاهد قادة، مشيرا إلى ان بن بوالعيد فصل نهائيا في موضوع تفجير الثورة بعد أن أخبر المجتمعين بتاريخها الذي حدده في الفاتح من نوفمبر 1954 من الأوراس، وقد جرى اجتماع لقرين وسط إجراءات أمنية مشددة تكفل به 200 مناضل.
في هذا الاجتماع، يؤكّد عمي أحمد، تم تحديد الأهداف التي سيتم ضربها إعلانا عن اندلاع الثورة وتقسيم أفواجها، حيث كلفه بن بوالعيد رفقة المجاهد حسين بالرحايل بالإشراف على 5 أفواج بولاية بسكرة.
وقد حرص الرمز بن بوالعيد، بحسب شهادات مجاهدين، على التأكيد على قدسية الثورة الجزائرية وعدالتها وطالب المجاهدين بالتزام الطابع الأخلاقي للثورة وأنها حق وعدل وليست ثورة تعدٍّ على الحرمات، ووضّح لهم أن هاته المبادئ ستجعل كل الجزائريين ينضمون إليها بعد معرفة مبادئها التحررية والوطنية والإنسانية وهذا يؤكد حنكة ودهاء وأخلاق الرجل وسعة رؤيته للمستقبل.
أسبوع كامل على اندلاع الثّورة ليعلم الفرنسيون باجتماع الدشرة
يؤكّد كل من عمي أحمد قادة أن الوضع، صبيحة الأثنين أول نوفمبر 1954، ميّزه هدوء تام وحذر وترقب مما سيقع، من ردود المستعمر الفرنسي الذي تلقى ضربات موجعة من المجاهدين، حيث أن أغلب المواطنين لم يعلموا بانطلاق الثورة، حتى الفرنسيون فوجئوا بسبب الطابع السري للاجتماعات، وهي تعليمات بن بوالعيد الذي حرص على بقاء المعلومات في محيط ضيق من رجال ثقته، الأمر الذي جعل الفرنسيين لا يكتشفون اندلاع الثورة، وبالتحديد من تلك المنازل العتيقة المبنية بالطوب والحجر البسيط وفي عمق منطقة الأوراس الصعبة التضاريس والوعرة المسالك والجبال.
وقد شوهد صبيحة الأثنين مصطفى بن بوالعيد بعدما اختبأ في غابة مجاورة يسترق السمع من مذياع صغير تم فيه تداول أخبار حول وقوع حوادث عدة وقاسية ومختلفة، تمثلت في هجومات بعدة مناطق وفي نفس الوقت يبتسم ويقول مقولته الشهيرة: «الحمد الله، لقد اندلعت الثورة الشعبية يا رفاق».
وبعدها مباشرة، دخل المستعمر في هيستريا اتبعها بحملة اعتقالات واسعة انتقاما من سكان الدشرة، وذلك بإعدام أزيد من 20 مواطنا بشكل جماعي وحرق الدشرة بمن فيها، واعتقال السكان دون تفريق بين رجل وشيخ وامرأة وطفل، وتسليط أشد العقوبات عليهم في محاولة لزعزعة ثقتهم بالثورة وقادتها، غير أن الأهالي بدشرة أولاد موسى لم يأبهوا لكل ما سلط عليهم من تعذيب ماداموا نجحوا في تنظيم الثورة بمنطقتهم وعلى مدار عدة أشهر عديدة دون أن يتفطن الفرنسيون لذلك.
اليوم، ورغم مرور أزيد من 63 سنة، على احتضان منزل الإخوة بن شايبة للشرارة الأولى للثورة المظفرة، لاتزال نفس تلك البيوت «المقدسة» شاهدة على صمود شعب أعزل بريء، تحتفظ بأسقفها المصنوعة من الديس والطين في مشهد يوحي بإصرار التاريخ على الصمود وتبرز المعاينة الميدانية التي قامت بها جريدة «الشعب» للموقع، أن كل شيء لم يتغير، فالغرف التي جمعت الرعيل الأول من المجاهدين تحظى بالعناية الكافية، إذ لم تتعرض إلى أي تغيير أو تشويه أو حتى تدخل بشري ما يجعلها تحتفظ بقيمتها التاريخية، ويسهل الطريق المعبد الوصول إلى المكان «الرمز»، حيث يتواجد بالقرب من فناء فسيح أقيم به نصب تذكاري كبير يخلد مآثر الثورة التحريرية، كما تتواجد بالمكان لوحة جدارية بها قائمة بأسماء الشهداء بمحاذاة متحف صغير يضم معدات ووثائق ويحكي عن بطولات المنطقة وأحداثها الثورية التي ماتزال شاهدا على بطولات شعب أحب الحرية ورفض العيش بدونها.